• Friday, 22 November 2024
logo

المفاوضات في بغداد: لتشكيل حكومة جديدة أو بناء دولة جديدة ؟

المفاوضات في بغداد: لتشكيل حكومة جديدة أو بناء دولة جديدة ؟
عادة ، عندما تجري انتخابات في بلد ما فان نتائجها تحدد كيفية ونوعية الحكومة القادمة: هل هي حكومة اغلبية حزب حاز على الاغلبية المطلقة أو هي ائيلاف عدة أحزاب يشكلون تلك الاغلبية أو هي حكومة وحدة وطنية ( وهذه الاخيرة تشكل عادة في أوقات أزمات أو أوضاع خطيرة تعصف بالبلد).
ولكن الشيء الذي يجري في العراق الان لايشبه أي من الخيارات أعلاه. أنه شيء خاص : شيء يتعلق ب " وهم " بناء " دولة جديدة".وهذا الوهم الذي وقع العراقيون فيه ، جاء به الامريكان . فقد صرح الرئيس الامريكي السابق (جورج بوس الابن) في شباط 2003 " نجتمع هنا اليوم في فترة حاسمة من تأريخ امتنا والعالم المتحضر.لقد كتب الاخرون جزءا من هذا التأريخ وسوف نكتب بقيته بأنفسنا" وقد وضع (بوش) في هذا الخطاب اجندة استثنائية ، كما كتب (فوكوياما في كتابه : بناء الدولة)، لاجل " دمقرطة العراق" واجراء تحولات جذرية في الشرق الاوسط. ولكن الولايات المتحدة الامريكية لم تحقق مثل هذه الاهداف ، بل أنها واجهت حالة جديدة هي: حالة الدول الفاشلة في الشرق الاوسط التي تخلق مشاكل كبيرة لنفسها وللدول الاخرى وبالتالي تزيد من احتمالات تدخل تلك الدول في شؤونها الداخلية وبالضد من ارادتها.ويتجلى ضعف تلك الدول في ضعف قدرتها المؤسساتية في تنفيذ سياساتها و هذا الوضع راجع الى سلسلة من أزمات تعانيها تلك الدول ومن أهمها أزمة الشرعية(والتي تعني مدى ومستوى رضا المواطنين عن اداء النظام السياسي وهذا لايستند فقط الى معيار الانتخابات ، بل هناك معايير اخرى يجب توفرها منها: حكم القانون ، توفر خصائص الدولة القانونية ، فعالية دستور يتصف بالديمقراطية، حقوق الانسان ،...). وتتداخل مع هذه العملية لبناء الدولة عملية اخرى هي عملية بناء الامة . وهذا التداخل يتجلى في ان بناء الدولة له علاقة باقامة مؤسسات قوية ، بينما بناء الامة يتعلق باقامة مجتمع يرتبط افراده بتاريخ وثقافة مشتركتين. وقد انجرت الولايات المتحدة الامريكية الى هذا الى عملية بناء الامة في كل من أفغانستان والعراق وفشلت فيها بوضوح.
اذن، فالعراق في أزمة عميقة تتعلق بعملية ذو مستويين: المستوى الاول يتعلق ببناء الدولة ( من جديد) والمستوى الثاني يتعلق بعملية ببناء الامة.
ان بناء الدولة يعني ان لها وظائف يجب عليها أن تحققها والتي تشمل: توفير الامن والنظام وحكم القانون ، فهل استطاع العراق ان يحقق تلك الوظائف منذ 2003؟
ان نهاية الحرب الباردة أفرزت سلسلة من الدول الضعيفة الفاشلة ( من البلقان الى القفقاس والشرق الاوسط وافريقيا واسيا الجنوبية والوسطى). وهذه ادت الى كوارث انسانية وانتهاكات خطيرة لحقوق الانسان ( مثلا في الصومال ، البوسنة ،كوسوفو ، تيمور الشرقية ، أفغانستان ، العراق ...) وان محاولة هذه الدول لبناء الامة ادت الى تاكل قدرة المؤسسات فيها وبالتالي فشل عمليتي بناء الدولة وبناء الامة.
لقد فشلت ادارة بوش في مسألة الاستفادة من التجارب السابقة عندما اسقطت النظام السابق في 2003 في العراق وفشلت في تهيئة القدرة المؤسساتية في تنظيم عمليتي بناء الامة وبناء الدولة واللتين هما اصلا معقدتين وتمسكت وبقوة بمعيار الانتخابات للدلالة على نجاح عملية بماء الدولة في العراق . هذا الادعاء يناقضه الواقع العراقي لكون الانتخابات قد أفرزت اصطفافات طائفية وقومية حادة اضافت مشكلة معقدة الى مشاكل العراق المعقدة اساسا.
هذا الفشل القى بظلاله على الوضع في العراق ابتدأ من حكم (بريمر) لمدة 13 شهرا ( كانت مشاركة العراقيين في الحكم في ومن ثم انتقال " السيادة " الى العراقيين في 28 حزيران 2004وتشكيل حكومات تتولى اجراء عملية التحول المؤسساتي والديمقراطي والتي فشلت فيها فشلا دريعا فبدلا من تحقيق أهداف التحول والتغيير الجذري وجدنا أن العراق قد دخل في " معمعة" حرب أهلية في 2006التي أخمدت حينا ولكنها ظهرت مرة اخرى وبقوة في 2013 والى الان.اذن في ظل هكذا أوضاع هل يمكن الكلام عن : مفاوضات لتشكيل حكومة جديدة في العراق؟ الجواب بالتأكيد كلا استنادا الى المعطيات التي اشرنا اليها أعلاه. وعليه فان عملية تشكيل حكومة جديدة هي عملية من نوع خاص لانجد مثيلها الا في تلك الدول التي " انهارت" وأقامت دولة جديدة أو في دول خرجت لتوها من حرب طاحنة ( سواء حرب عالمية مثل ألمانيا واليابان والنمسا أو حرب أهلية كدول البلقان). العراق يتميز عنهم انه مازال " عالقا " في " اثار نظام سياسي انهار " و " حرب أهلية مازالت شبه مستمرة " . ولكن ومنذ حزيران 2014 دخل عامل جديد وخطير: الاستيلاء على اكثر من ثلث الاراضي العراقية من قبل مسلحين الذين تمكنوا في الاخير من التحكم في مدينة الموصل وحاولوا الدخول الى اقليم كوردستان..
وهكذا ثلاث معطيات مهمة وخطيرة اشرنا اليه أعلاه ، تتحكم في الوضع العراقي وتجعل مفاوضات تشكيل حكومة جديدة بمثابة مفاوضات تتعلق بعمليتي : بناء الامة وبناء الدولة.
ان أجواء مثل هذه المفاوضات لاتكون عادية بل أنها ستكون مليئة بالمناقشات والاراء المختلفة قد تصل الى حد " المشاحنات" و تبادل المطالب التعجيزية المعرقلة لعملية تشكيل الحكومة وقد تصل الى حد " عدم تمكن المكلف بالتشكيل من اتمام مهمته" أو قد يطالب بتمديد المدة المحددة دستوريا لتشكيل الحكومة.
وفد التحالف الكردستاني هو الان أمام مهمة صعبة للغاية تتعلق بالسؤال الاتي: هل ان الوفد في مباحثاته يركز على نوعية وكيفية تشكيل الحكومة ( برنامج الحكومة ، توزيع الحقائب الوزارية وتحديد حصة التحالف الكوردستاني...) أم انه سيركز على مسائل استراتيجية تتعلق بمركز الكورد واقليم كوردستان في عملية بناء الدولة؟
الولايات المتحدة الامريكية راعية مسألة تشكيل حكومة تمثل كافة المكونات والاطياف ولاتهمش أو تلغي طرفا ولكنها تدعي انها تترك الموضوع للعراقيين لكي يقرروا كيف ستكون شكل الحكومة القادمة وهذا ماأكد عليه الرئيس الامريكي (اوباما) عدة مرات في الفترة الاخيرة ولكن في نفس الوقت عاد نائب الرئيس الامريكي ( بايدن) لكي يكرر ماكتبه في 2006 حول اقامة ثلاث فيدراليات في
العراق.واوردت صحيفة (نيورك تايمز) في الاسبوع الماضي ان (بايدن) مازال ويعتقد انه بامكان الاطراف المتنازعة الجلوس على طاولة واحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
مباحثات " الاطراف المتنازعة " هي صعبة و سقف مطالبها عال جدا والمراجع الدينية الشيعية والاحزاب الشيعية تدعوا الى ان تكون هذه المطالب معقولة ، ولكن يظهر ان هذا التوجه نحو ان تكون المطالب معقولة تنسى كون العراق هو الان في مرحلة جدا حساسة وتحتاج الى رؤية تحليلية عميقة لمشاكل العراق ( السياسية ، الاجتماعية ، الاقتصادية ، النفسية ، الفكرية) وطرح حلول تنسجم مع الحجم الهائل من المشاكل المعقدة الموروثة والمستجدة.
أمام هذه المهمة التأريخية ، فان الوفد الكوردستاني يجب أن يكون موقفه وتوجهاته واضحة المعالم . يجب أن توضح ان العراق في هذه المرحلة الخطيرة لاتحتاج الى مسألة اعتيادية تتعلق بتشكيل حكومة ، بل ان العراق بحاجة الى اعادة بناء: بناء أمة وبناء دولة. وهذه النقطة هي التي يجب أن تكون منطلق في المباحثات الجارية في بغداد.ان الوضع لا يعلق بادراج قضايا ومسائل في البرنامج الحكومي ، بل ان الموضوع هو أعمق من ذلك: المسألة تتعلق ببناء عراق جديد على اسس جديدة تضمن حقوق كافة القوميات والمكونات وتتجه نحو ترسيخ مفهوم المواطنة .
ان الوفد الكوردستاني يجب أن لايكتفي بادراج المطالب في المنهاج الوزاري للحكومة المقبلة وذلك لان هذه الحكومة ستكون ملزمة بها ولكن هذا الالتزام لاينتقل اتوماتيكيا الى الحكومة مابعدهاوعليه يفترض ان القضايا الرئيسية للمطالب الكوردستانية يجب ان تكون محلا للاتفاق وطني شامل يعرض على البرلمان وبعد ذلك تكون جزءا من التعديلات الفورية للدستور وفق الاجراءات الدستورية المتبعة وبالتالي فانها تكون ملزمة لكافة الحومات العراقية التي تتوالى على الحكم.
وقد كانت خطوة الوفد الكوردستاني للاجتماع مع الاطراف السنية خطوة ايجابية لاجل تحديد نقاط الاتفاق حول ان يتضمن البرنامج الوزاري للحكومة المقبلة العمل على إنجاز المصالحة الوطنية وتعديل قانون المساءلة والعدالة لاجتثاث البعث وتحقيق الشراكة الحقيقية وعدم زج الجيش في النزاعات السياسية إضافة إلى اصدار قانوني المحكمة الاتحادية والعفو العام.
اذن ، مهمة الوفد هي ليست بمهمة عادية بل أنها مهمة سياسية وطنية خطيرة تتعلق بتحديد مركز الكورد في العراق الذي يعاد بناءه بعد فشل الجهود منذ 2003. وهذا الوفد يجب أن لايعتبر نفسه ممثلا للاحزاب السياسية الممثلة في الوفد ، بل يجب ان يؤخذ الموضوع ببعده الوطني الشامل ويعمل على طرح القضايا المصيرية التي تشغل بال الرأي العام الكوردي . ان الوفد ملزم ان يعكس في طروحاته قضايا الشعب الاساسية . ان الوفد الكوردستاني كان يفترض ان يجسد حكومة الاقليم التي هي المخولة باجراء المباحثات باسم الاقليم لكونها الجهة الرسمية .
Top