• Friday, 22 November 2024
logo

أعباء ثقيلة ينهض بها الشعب الكردي في حماية العراق ومكوناته القومية والدينية

أعباء ثقيلة ينهض بها الشعب الكردي في حماية العراق ومكوناته القومية والدينية
ما كان ليحصل ما حصل حتى الآن بالعراق لو كان النظام السياسي لا يعتمد قاعدة المحاصصة الطائفية، ولو كانت سياسة المالكي بعيدة عن الطائفية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والقومي، لو كانت سياسة حكام بغداد تعتمد مبدأ الوطن والمواطنة الحرة والمتساوية وليس الهويات الطائفية الفرعية، لو كانت بغداد قد انتهجت سياسة الشراكة في الوطن الواحد وليست المشاركة الناقصة والتهميشية والإقصائية والعقيمة والأمنية وذات العواقب التدميرية الراهنة.
لم تكن سياسة نوري المالكي عقيمة فحسب، بل كانت مدمرة للوحدة الوطنية وللنسيج الاجتماعي في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية أو الفلسفية والسياسية. لقد أنجبت سياساته عدم الثقة بالجميع واستعداء الجميع واستفزازهم ليبتعدوا عن المشاركة في الحكم ولينفرد بالحكم وحده ويعمل ما يحلوا له بما يتعارض مع مصلحة الشعب. تسببت هذه السياسة في نشوب نزاعات مسلحة وفي احتلال غرب العراق وشماله لقمة سائغة وسهلة لعصابات "الدولة الإسلامية" التكفيرية وقتل واغتصاب وتشيد أهلها.
عمق نوري المالكي خلافاته مع حكومة إقليم كردستان العراق متعمداً ومارس سياسات عدوانية لم يمارسها حتى صدام حسين قبل ذاك ودفع بالإقليم إلى ردود فعل حادة غير سليمة وأشاع الروح الشوفينية ضد الكرد ونسف الثقة المتبادلة بين الحكومتين ورفض تسليح قوات البيشمركة التي هي جزء من القوات المسلحة العراقية، في حين وضع بمدينة الموصل أربع فرق عسكرية مسلحة تسليحاً جيداً بمختلف الأسلحة المتوفرة بالعراق من مجموع 15 فرقة عراقية مسلحة، إضافة إلى قوات الشرطة والأمن الداخلي. وحين حصل الغزو والاجتياح من جانب عصابات الدولة الإسلامية لمدينة، انسحبت جميع هذه القوات العراقية من الموصل بأمر من القائد العام للقوات المسلحة. وكان هذا الموقف يعني أن هذه القوات لم تكن لموجهة أعداء خارجيين، بل كانت موجهة ضد قوات البيشمركة حالما يجد ضرورة استخدامها ضدها.
لم يكن في مقدور قوات البيشمركة أن تقف بأسلحتها الخفيفة أمام دبابات ومدرعات العدو التي غنمها من الجيش العراقي والمصحوبة بتخاذل ملموس، قرر السيد رئيس الإقليم اعتقال ومحاسبة المتسببين بذلك. إذ أدى كل ذلك إلى هروب جماعي وبأعداد غفيرة من أبناء وبنات الموصل المسحيين من المدينة إلى مناطق الإقليم الآمنة. ثم توسع نشاط عناصر الدولة الإسلامية المتوحشة باحتلالها مناطق أخرى لأن الجيش العراقي لم يعد موجوداً في المنطقة، فاحتل زمار وسنجار ووانة ومناطق أخرى مما دفع بعشرات الآلاف من الإيزيديين إلى النزوح السريع بما عليهم من ملابس إلى جبل سنجار ومناطق أخرى. وحصلت مجازر دموية قتل فيها عدة ألاف على أيدي قوات داعش. ثم جرى احتلال سد الموصل الذي هدد سكان مدينتي الموصل وبغداد بالغرق. وقبل ذاك هرب الشبك وسكان تلعفر التركمان وقتل المئات منهم أيضاً.
لقد فرض هذا الواقع على حكومة الإقليم تحمل تبعات استقبال مئات ألوف النازحين من مناطق سكناهم من المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان، وبعضهم نزح إلى مناطق وسط العراق وبغداد، وتأمين ملجأً آمناً لهم، إضافة إلى العمل لإنقاذ من علق في جبل سنجار الذين تعرضوا لاحتمال الإبادة أو الموت عطشاً وجوعاً وخاصة الأطفال والشيوخ والمرضى وهو ما حصل فعلاً. وقد نهض الإقليم بهذه المهمات بشكل جيد يستحق الثناء.
إن الحالة التي حلت بهذه المكونات الدينية العراقية قد نبهت العالم ولو بصورة متأخرة إلى حجم الكارثة المرعبة وأبعادها وعواقبها على العراق ودول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط فتنادت إلى تقديم الدعم باتجاهين: دعم إنساني لإغاثة اللاجئين النازحين من المناطق التي سيطرت عليها عصابات الدولة الإسلامية من جهة، وتقديم الدعم العسكري بشكلين: الأول توجيه ضربات جوية من السلاح الجوي الأمريكي على مواقع وتحركات داعش وتسهيل مهمة إنقاذ الهاربين وتسهيل مهمة تقدم قوات البيشمركة في مواجهة عصابات القتل الغازية، والثاني تقديم السلاح والذخيرة والمعدات الضرورية لقوات البيشمركة ليتسنى لها التصدي لتلك القوات وطردها من كل المناطق التي احتلتها حتى الآن. كما حصل تعاون بين القوات العراقية وقوات البيشمركة بعد خراب الموصل!
لقد استشهد الآلاف من الأبرياء على أيدي هذه العصابات المجرمة ووقع في أسرهم وسبيهم "الإسلامي" مئات النساء العراقيات، وما يزال الآلاف من الناس يتعرضون للاغتصاب والتعذيب والموت على أيدي هؤلاء القتلة. كما استشهد الكثير من مناضلي قوات البيشمركة الشجعان أثناء تصديهم ومقاومتهم لعصابات الدولة الإسلامية. وما كان ليحصل كل ذلك لو كانت سياسات حكومة بغداد ورئيسها المستبد بأمره قد مارس سياسة وطنية رشيدة وغير طائفية متشددة.
إن تكليف السيد العبادي بتشكيل الحكومة الجديدة لن يخدم العراق إن واصل نهج المالكي المفرق للصفوف، بل يجب أن تتغير جذرياً، أي أن تكون حكومة إنقاذ وطني، حكومة يلتزم الوزراء بقاعدة الوطن والمواطنة، وأنهم جميعاً مسؤولون عن العراق كله، بما فيه إقليم كردستان العراق، وأن تكون مصالح الوطن فوق المصالح الذاتية بذريعة الدفاع عن طائفته أو قوميته. إن تشكيل حكومة جديدة سينهي دور المالكي الجاري، ولكن لن ينهي نهج المالكي ما لم يوضع نهج جديد يتجاوز الطائفية السياسية التي انتهكت حقوق الوطن والمواطنة، وبرنامج مرحلي جديد يسهم في إنقاذ البلاد من التركة الثقيلة التي خلفها النظام الدكتاتوري البعثي السابق والنظام السياسي الطائفي ونهج المالكي الطائفي الاستبدادي. ويفترض أن يتضمن البرنامج الوطني المسائل التالية:
أولاً: الحقل السياسي، ومنه العسكري:
1. وضع إستراتيجية بناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية، بعيداً عن إقامة دولة ثيوقراطية طائفية في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية. ويفترض أن يتجلى ذلك في تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، حكومة إنقاذ وطني واسعة، تعتمد مبدأ الشراكة في الوطن وليس المشاركة، قوامها عناصر تمتلك الكفاءة والإمكانية والنزاهة والرغبة الفعلية على تغيير الوضع البائس الراهن.
2. الإسراع في توفير الحماية لمئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب العراقي الذين حوصروا وهجروا من الموصل وتلعفر وسنجار وزمار وجلولاء ومخمور وغيرها من مناطق العراق وتوفير الغذاء والماء والسكن والدواء وما إلى ذلك إلى حين التخلص من قوى الإرهاب وإعادتهم إلى مناطق سكناهم.
3. البدء الفوري بمناقشة ومعالجة القضايا العالقة كافة في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على وفق برنامج محدد زمنياً، كما يستوجب تطوير التنسيق بينهما في مجال القوات المسلحة والأمن الداخلي لمواجهة القوى الظلامية والانتصار عليها بأسرع وقت ممكن.
4. تعبئة كل القوى الوطنية العراقية لدعم المعارك التي تخوضها قوات البيشمركة في شمال العراق وإقليم كردستان العراق والقوات العراقية في المناطق الغربية من العراق وفي غيرها، ومدها بكل ما يمكنها من تحقيق النصر على الغزاة الأشرار. ويتطلب الأمر إعادة نظر فعلية في بنية القوات المسلحة العراقية لكي تكون عراقية ولا تقوم على أساس طائف مقيت ومضر.
5. البدء بتشكيل لجان سريعة على المستويات والمجالات التالية دون:
أ‌. لجنة وزارية تمتلك صلاحيات فعلية لمعالجة المشكلات العالقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم في كافة المجالات مع إبداء المرونة من الطرفين للوصول إلى حلول لمصلحة العراق وقومياته دون استثناء.
ب‌. لجنة وزارية تمتلك صلاحيات معالجة المشكلات العالقة بين الحكومة الاتحادية من جهة، ومجالس المحافظات في المنطقة الغربية والشمالية الغربية من العراق والاستجابة للمطالب المشروعة والمطروحة منذ سنوات بروح المسؤولية العالية لصالح الشعب العراقي من جهة أخرى. إن هذا التوجه يوفر أرضية صالحة للفرز بين القوى الوطنية والنزيهة والقوى التكفيرية أو المتشددة طائفياً.
ج‌. لجنة وزارية لمعالجة المشكلات العالقة بين مجالس المحافظات والحكومة الاتحادية باتجاه الإدارة اللامركزية لتلك المحافظات ومنحها الصلاحيات بموجب قوانين توضع لهذا الغرض.
د‌. لجنة ذات اختصاص تبحث في التعديلات الضرورية للدستور العراقي ليكون مناسباً لدولة مدنية اتحادية ديمقراطية غير طائفية ويحدد لها موعداً لتقديم تلك التعديلات لمجلس الوزراء ومن ثم لمجلس النواب العراقي. وإذا تعذر ذلك يفترض إجراء انتخابات جديدة في ضوء التحولات الجارية في أوضاع البلاد والمهمات التي تواجه المجتمع والدولة العراقية.
ذ‌. إعادة العمل بقانون الهيئات المستقلة عن السلطة التنفيذية والتي انتهكها بفظاظة نوري المالكي، وخاصة قانون البنك المركزي وقانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وغيره من القوانين على وفق الدستور وإعادة الاعتبار لكل الذين أساء لهم وحاول تشويه سمعتهم.
ر‌. طرح ومناقشة القوانين المعطلة حتى الآن، ومنها قانون الأحزاب وقانون النفط والإعلام ...الخ في دولة مدنية ديمقراطية اتحادية، إضافة إلى الإسراع بإقرار الميزانية العامة لعام 2014 وصرف المستحقات للإقليم ولبقية المحافظات.
ز‌. البت بسرعة بقضايا الموقوفين على وفق المادة 4 إرهاب أو الموقوفين السياسيين ومنع التعذيب بمختلف أشكاله وتطبيق البنود الخاصة بحقوق السجين أو المعتقل ...الخ، والتفكير بقانون عفو عام عن الذين لم تلطخ أيديهم بدماء الشعب.
س‌. رفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للحياة السياسية العراقية والقوى العاملة في العملية السياسية، سواء أكان من إيران أم السعودية أم قطر أم أي دولة أخرى. فالحياة السياسية العراقية هي من شأن الشعب العراقي وأحزابه فقط.
ش‌. إيقاف نشاط كل المليشيات الطائفية المسلحة التي تقوم الآن بالتخريب والقتل على الهوية وكل ما هو مناهض للمشاعر الوطنية وتعمل على وفق مصالح ذاتية وأجندات طائفية أو أجنبية.
وفي المجال الاقتصادي يتطلب الأمر:
1. تشكيل لجنة من المختصين العراقيين والعراقيات في مجال الاقتصاد والعلوم الاجتماعية لوضع إستراتيجية تنموية واضحة المعالم وهادفة على المدى المتوسط والبعيد من أجل إخراج العراق من التخلف والتشوه والانكشاف الاقتصادي على الخارج وتبعيته الشديدة والمضرة لنفط الخام المستخرج والمصدر سنوياً.
2. وأن يجري التركيز على تأمين مستلزمات التنمية الإنتاجية لقطاعي الزراعة والصناعة لتغيير بنية الاقتصاد المشوهة والوحيدة الجانب وإخراجه من طابعه الريعي المتحكم حالياً، وربط التجارة الخارجية بعملية ومهمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإشباع الفعلي والأساسي لحاجات السكان الاستهلاكية.
3. تأمين علاقة فعالة ومحفزة للنمو والتثمير الإنتاجي بين قطاعات ثلاثة هي القطاع العام والخاص والمختلط في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وأن لا يستبعد من التصور الإستراتيجي إمكانية وضرورة الاستفادة القصوى من الاستثمارات الأجنبية والتقنيات والخبرات الفنية والتنسيق على المستويين الإقليمي والدولي.
4. جعل السياسة النفطية وكميات الاستخراج والتصدير خاضعة لإستراتيجية التنمية الوطنية، ومنها إبرام العقود النفطية وطبيعة هذه العقود ومداها وشروطها ..الخ. كما يفترض إقرار عاجل لقانون النفط وبذل أقصى الجهود لتأمين علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمحافظات في مجال اقتصاد النفط والاستفادة من خبرات الكثير من الدول الاتحادية في تأمين مثل هذه العلاقة.
5. تأمين علاقة سليمة وعقلانية فعالة بين السياسة الاقتصادية والسياسات المالية والنقدية والجمركية والتأمين ..الخ. فالسياسات الأخيرة تعتبر الأداة التنفيذية الفعلية للسياسة الاقتصادية وبدون هذا التناغم والتفاعل ومعرفة القوانين الاقتصادية الفاعلة فيها يصعب تحقيق أي تنمية ونمو في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
6. على الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم انتهاج سياسة اقتصادية منسقة ومتكاملة ومتفاعلة في ما بينها، إذ إن النظام الفيدرالي لا يعني بأي حال استقلال السياسات الاقتصادية للأقاليم عن سياسات الحكومة الاتحادية، بل يعني التنسيق والتكامل في التخطيط والاستقلالية في التنفيذ.
7. إن الفساد المالي والإداري سائدان بالعراق كنظام فاعل ومهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وعلى حياة الإنسان العراقي، وبالتالي فأن الخلاص منها لن ينتهي خلال فترة قصيرة وبمعجزة، بل من خلال نهج ثابت في سياسة الحكم ووضع خطط مدروسة قابلة للتحقيق. ولا يمكن تحقيقه ما لم يبدأ بالنخب السياسية الحاكمة وعائلاتها وحواشيها أولاً وبالتعاون الوثيق مع المجتمع ومنظمات المجتمع المدني.
8. إن العراق لا يعيش في بادية أو معزول عن العالم، وبالتالي فأن الحاجة ماسة لأن تكون له سياسة عربية وإقليمية ودولة واعية وناضجة وفعالة لصالح التعاون المتبادل والمتكافئ لتسريع التنمية والتطور الاقتصادي وتغيير بنية الاقتصاد الوطني لصالح التنوع وتحسين مستوى مشاركة القطاعات الإنتاجية الأخرى غير النفط في تكوين الدخل القومي العراقي.
9. إن مثل هذه السياسة بخطوطها العامة يمكن أن توفر أرضية صالحة للعدالة الاجتماعية النسبية ومكافحة الاغتناء على حساب الشعب وتقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء المتفاقمة حالياً. إن مكافحة الفقر والبطالة والحرمان لا تأتي من خلال الدعاء والابتهال إلى الله، بل من خلال العمل ووضع وتنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية واعية ومدركة لعواقب استمرار الفقر والجوع والحرمان وغياب العدالة الاجتماعية ووجود المزيد من القطط السمان التي تعيش عل السحت الحارم على حساب المجتمع.
آب/ أغسطس 2014 كاظم حبيب
Top