حكومة المهام الاستراتيجية الكبرى وبرامج العمل والبناء
إنَّ إشكالية الحضور المباشر للفئات المجتمعية من شبيبة ومن نساء ومن تكنوقراط ليست الغاية، لكنها واحدة من الأدوات التي ينبغي التفكير بها. ولعلها خطوة إيجابية إذا ما جاءت في أفقها. بخاصة في ظرف كانت الجهود منصبة على مسابقة الزمن من جهة وعلى محاولة حسم التشكيلة بما ينتقل للخطة البرنامجية العملية.
ومن هنا فإنّ القراءة المنتظرة لمجمل أنشطة الحكومة ستنصب على التالي من خطواتها. ولكن ما ينبغي تذكره دائماً، أنه مع حضور الجهد التقويمي والرقابتين البرلمانية والشعبية يلزمنا الحرص قبل ذلك على دعم خطى البناء والتفاعل إيجاباً معها. إذ أنّ الحكومة لوحدها ليست بقادرة على الأداء من دون وحدة الجهد الجمعي الرسمي والشعبي وتحفيز الوعي العام على مشاركة بنَّاءة في مهام العمل وتسيير الشأن العام. وليس سليما منطق حصر مواقفنا في التقويم والنقد من دون مشاركة في أداء المهام والمسؤوليات؛ لأنَّنا حينذاك سنكون أسوأ من سلبيين!
وما يضاعف الموقف مطلباً منا لمعاضدة الحكومة هو الظرف الاستثنائي الذي تشكلت فيه. حيث تستقبل كوردستان مئات آلاف اللاجئين والنازحين بكل المطالب الإنسانية والحاجات التي تأتي لتضاعف أزمة الحصار الاقتصادي وما تقوم به الحكومة (الاتحادية) ببغداد من قطع المرتبات وغيرها من إجراءات مجحفة!
يُضاف على هذه المواجع المعيشية التهديدات السياسية والأمنية الناجمة عن عمليات التجييش والتحشيد الطائفي بل الاحتراب بأسسه الطائفية من جهة وبمقدار الشحن الإرهابي الخطير عبر تمكين مجاميع الجريمة الدموية الأبشع من ميادين جديدة بمحاذاة كوردستان. ولانتشار تلك القوى على تخوم الإقليم فإن الانتباه يتطلب مضاعفة الجهد ومساندة أكثر وضوحا مع الحكومة الجديدة.
فيما التحديات السياسية مركبة بخاصة مع انطواء صفحة وولادة أخرى في العراق الاتحادي منذ مطلع حزيران يونيو الجاري حيث ظهور مواقف جديدة في الساحة العراقية بالتحولات الجارية في المنطقتين الغربية وشمالها أي بنينوى والأنبار وبعض ما بينهما. فالقضية ليست محصورة بتحدٍ مع داعش الإرهابية ولكنها من التعقيد ما لا يجوز المرور عليها بشكل عابر وقد كان ومازال خطاب القيادة الكوردستانية مدركاً لطابع تلك المجريات، ولكن المشكلة في تعنت وانفراد في الموقف وتأسيسه على جوهر طائفي من طرف من قاد الحكومة الاتحادية ببغداد.
إنّ الموقف الثابت للسياسة الكوردستانية في تجنب الوقوع بين فكي حرب طائفية هو الموقف الأكثر سلامة وصواباً، وهو الأنضج عندما يحمل الهمّ العراقي الفديرالي من بوابة فهم مطالب جميع الأطراف كونها مطالب تبحث عن تلبية العدالة الاجتماعية والمساواة على أساس المواطنة بدل واقع من دفع باتجاه سياسة الإقصاء والتهميش. وهذه مهمة كبرى تجابه الحكومة في خطابها السياسي على المستوى الوطني الفديرالي. وهي مهمة معقدة تتطلب إدارتها ليس الاكتفاء بمسك العصا من الوسط بل تحمل مسؤوليات تترتب على علاقة تحكمها شروطٌ وتعقيدات منها ما يقع في باب خلافي حاد اختلقته عناصر في كلا طرفي المعادلة لأحزاب الإسلام السياسي ببغداد.
وإقليميا ندرك حجم التدخلات من الجيران تحت مختلف الذرائع والحجج، ومنها حال اختلاط الأوراق وأشكال التضليل القائمة على أشكال من محاولات ترحيل أزمات داخلية ملتهبة ووضعها على كواهل الآخرين وهنا طبعاً على كاهل كوردستان! ونحن نعرف معنى وجود لاجئين سوريين وانفتاح الممرات دول الجوار ما فتح بوابات اختراقات عنفية أحيانا وأخرى سياسية بطابع أمني.
هنا ننتقل إلى التحديات الأمنية؛ حيث محاولات هزّ الاستقرار الأمني بكوردستان هدف ليس لقوى الإرهاب حسب بل ربما لقوى أخرى لها مصلحة بالضغط على القيادة لمطامع ومآرب مختلفة. من هنا فإنّ هذه القضية ستحتفظ بأولوية ما بقيت الأوضاع المحيطة بالإقليم بهذا المشهد العنفي المتدهور والمنفلش على الآخر...
وربما تطلبت الأوضاع بل هي كذلك، تطلب ولوج مهام عسكرية وأمنية جديدة في تخوم كودرستان حيث التصدي للتهديدات الإجرامية الداعشية وغيرها. وقد تفرض الالتزامات الفديرالية ولوجا أبعد عند الضرورة والذهاب إلى بغداد وغيرها من المدن التي يُحتمل أن تتداعى فيها الحاجات لحضور جدي فاعل يعول عليه الكوردستانيون بل مجموع العراقيين الذين يضعون كتمل الثقة في قدرات كل من البيشمركة والآسايش.
إذن هناك مهام كبرى تجابه كوردستان وكابينتها مثلما قيادتها في جميع المناحي الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية. وإذا كنا أشرنا إلى جانب من تلك المهام الكبرى في المستوى الوطني العراقي فإن مهمة تشكيل المؤسستين التشريعية والتنفيذية الجديدتين وانطلاقها ستجابه عقداً في المنشار وليس عقدة واحدة.. ويزيد الطين بلّة طابع الأوضاع الجارية في البلاد وما تفرضه من مهام.
وعليهِ، فلابد من اتخاذ موقف بهذا الاتجاه في ضوء المستجدات. إذ لم تعد الأوضاع تقبل بانعقاد تقليدي يمكن لجهة أو طرف أن يفرض إرادته مثلما جرى في الدورات والسنوات المنصرمة. حيث طفَت سمة الانفراد وسحب الصلاحيات من الآخرين والتحكم بالمشهد بطريقة إقصائية لم تفضِ إلا لمزيد تدهور في الأوضاع العامة...
وما يُنتظَر اليوم هو موقف يستجيب للمتغيرات النوعية التي حدثت. حيث لزوم الاستجابة الجدية للمطالب العادلة للفئات الاجتماعية المهمشة من البصرة وميسان وذي قار حتى الأنبار ونينوى. وهي قضية ستجابه رفضاً وتعنتاً من قوى تدعي تمثيل الأغلبية وتمارس باسم هذا التمثيل المزعوم الاستبداد على من تسميهم الأقلية وتصمهم بالحواضن للإرهاب بلا تمييز بين من أغلقوا بوجهه فرص المطالبة السلمية بحقوقه ودفعوه لانتفاض وبين قوى الإرهاب التي تأسر مناطق واسعة من البلاد اليوم وتحتلها وتخضها لسلطة التقتيل والبلطجة والاستباحة!
من جهة أخرى سيكون واجبا الفصل بين مكافحة الإرهاب والحرب الانتقامية الطائفية وهي حرب تنطلق شراراتها بكثرة هذه الأيام بسبب فشل موقف من يواصل نهجه في إدارة الوضع ببغداد. وتجنيبا لكوردستان من الوقوع بمصيدة ذاك الفشل والنهج الطائفي تحديداً.
الكابينة الثامنة، إذاً بمجابهة مع علاقات فديرالية وإقليمية ودولية معقدة. ولكنها بوصفها المهام الكبرى تقتضي الانتباه على أن الإمكانات المباشرة الخاصة بإدارة الوضع كوردستانيا بكل مستحقاته ستجابه التزامات مستجدة على وفق ما يحيط بكوردستان من ضغوط متنوعة مختلفة.
لكنَّ تطمين تلك المطالب إذا جاءت بتفاعل إيجابي من الحركات السياسية ومن منظمات المجتمع المدني وهو الأمر الموثوق به فإنه سيتمكن أن يواصل طريق الاستقرار والسلم الأهلي من جهة والعمل والبناء وإدامة زخم مسيرة التقدم والتنمية بفاعلية.. إذ أنَّ تلك المسيرة هي التي جعلت كوردستان واحةً للسلامِ والتقدمِ في منطقةٍ تعجُّ بالاضطراباتِ والمشاكل العصية.
إنّ مهام التكنوقراط الكوردستاني ترتقي اليوم مع ولوج الإقليم مرحلة نوعية أكثر اندماجاً بالمجتمع الأممي الدولي حيث ظواهر العولمة وما تقتضيه من طابع مخصوص بها من تفاعلات. فمن جهة تبني خطط التنمية النوعية والإصلاح الاقتصادي والخروج من شرنقة تضع شعب كوردستان تحت رحمة ضغوط سلبية من أطراف تتحكم بالوضع ببغداد وهذا يمكن أن يتم بزيادة جوهرية في الناتج القومي الكوردستاني باعتماد نهج التصنيع والاستثمارات فيه وبخطط زراعية تستثمر في مجال المحاصيل الاستراتيجية وتلك التي تمد الصناعة بأولياتها والشعب بغذائه.. أما في العلاقات بنطاق العولمة فيقع على الحكومة ثقل توفير الممرات المعتمدة الآمنة استراتيجيا وتكتيكياً..
هذه الأمور بقدر تعلقها بالمجتمع الكوردستاني ستكون أسهل منها عندما تتعلق بالتفاعل مع بغداد. فكوردستانيا الأمور تجري مؤسسيا والخطط مرسومة بجدية ونضج وباعتماد لخطاب العصر ومنطق الفعل والأداء فيه. ولكنها تجد العراقيل في الروتين وفي الخلل بالبنى المؤسسية ببغداد وفي عمق الشرخ الذي تتسم به من جهات عدم استقلاليتها وتبعيتها لمركزية مقيتة فضلا عن تفشي الفساد وسوء الإدارة وما شابه من تفاصيل خبرها الكوردستانيون.
صحيح أنّنا شعبيا بالمستوى العراقي يدرك الجميع عمق التلاحم والوحدة بين القوى الوطنية العراقية وبين قوى حركة التحرر القومي الكوردية والقيادة الكوردستانية لاتفاق الخطاب بجوهره المدني الديموقراطي وبروحه الفديرالي إلا أن المستوى الرسمي في ظل أمراض خطاب الطائفية السياسية يعاني من مشكلات نوعية خطيرة.
ومن هنا فإنّ القوى الوطنية الديموقراطية إذ تحافظ على تفاعلها إيجابا مع كوردستان وتضع في أجندة نضالاتها تلبية أعلى سقف للمطالب العادلة المشروعة فهي أيضا تؤكد على حق كوردستان في التوجه نحو صيفة العلاقة الكونفديرالية والبحث في أسس التعديل الدستوري الضامن لتلك الحقوق من الاعتداء والتجاوزات السافرة مثلما مشكلة قطع الرواتب. وهي قضية من أولويات مهام الحكومة في التعاطي مع المستجدات وطابعها.
وبالمحصلة فسينعقد للحكومة الكوردستانية الجديدة جملة من المهام التي تتطلب عناية فائقة بشؤون التعليم ومنه التعليم العالي لخلق الكوادر العلمية لحاضر كوردستان ومستقبلها كما سيكون مهما العناية بالبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات المعنية به فضلا عن اهتمام بأولوية الثقافة بتنوعات مساراتها لتحصين الوعي من الاختراقات والتصدي لأحصنة طروادة ممثلة بالخطابات القائمة على منطق ماضوي متكلس متخلف يمكن أن يطيح بمسيرة بناء مؤسسات دولة مدنية بسبب من اسلوب النخر الذي يتدرج به فيصيب المجتمع بأمراض مكشوفة بمجرد النظر في المحيط المباشر لكوردستان.
كما سيتطلب الأمر عناية جدية بمؤسستي الجيش والشرطة وتمكينها من العمل الأنضج بفضل التدريب النوعي والأسلحة التي تستخدمها والخبرات المتحصلة والطابع العقائدي في دفاعها عن قضية مؤمنة بها.
بمقابل هذا ستكون إتاحة فرص الأنشطة لمؤسسات المجتمع المدني ومنحها الرعاية والدعم الكافيين حالة منتظرة مؤملة كيما تتعزز إمكانات تفعيل الجهد الشعبي في تحمل المسؤولية بمنطق من يحيا في دولة مدنية البنية حداثية المنهج على طراز الدول الحديثة المتمدنة في العالم المتقدم.
هذه خطوط ومحاور عريضة تشير إلى أن الكابينة الحكومية الثامنة بصرف النظر عن ملاحظات بعضهم التي انصبت على توصيفها عبر البحث عن إلصاق مثالب فيها بالاستناد إلى معايير مصطنعة هي حكومة برنامج عمل ومهام كوردستانية وعراقية ودولية كبرى.. وهي في ضوء ذلك تتطلب تضافر الجهود لدعمها وللاشتراك في برامجها للبناء والتقدم والتنمية بدل حصر بعض الحوارات بملاحظات بيزنطية لا طائل ولا ثمار منها بقدر ما هي مساعدة لأعداء كوردستان تضع العصي في دولاب التقدم! كونها جمل حق تقع بمصيدة الباطل...
وبالتأكيد فإن مجموع القوى المدنية والحركات السياسية الكوردستانية ستمضي لتعزيز مسيرة التغيير والإصلاح. وفي ضوء التجربة فإنّ وحدة القوى المجتمعية التنويرية ستمنح الحكومة ثقتها مثلما منحها إياها البرلمان وهنا يكون معنى منح الثقة مشاركة فاعلة في جهود البناء.
ومع تمنيات بالتوفيق للحكومة في أداء مهامها الكبرى نضع ثقلنا مع ذياك التوجه بثبات ورسوخ.