• Friday, 22 November 2024
logo

من يريد تصفية الوجود المسيحي والتنوع الديني والمذهبي بالعراق؟

من يريد تصفية الوجود المسيحي والتنوع الديني والمذهبي بالعراق؟
العراق يواجه تصفيات شتى لشعبه، تشارك فيها منظمات وقوى محلية وأخرى إقليمية، إضافة إلى منظمات دولية ودول. العراق يراد له بإصرار أن لا يستقر، أن لا يهدأ، أن لا يتطور، يراد له أن لا ينعم شعبه بثروته النفطية، أن يفقد الثقة بنفسه، أن تتفسخ وحدة نسيجه الوطني الاجتماعي. العراق يراد له أن لا يستفيد من تنوعه القومي والثقافي والديني والمذهبي، أن لا تبقى تلك اللوحة الفسيفسائية الجميلة تشع بتنوعها الثقافي، بل يراد له أن يتحول هذا التنوع إلى صراع ونزاع دائمين يقودان إلى المزيد من الموت والخراب والدمار. يراد له أن يفقد مسيحييه كما فقد قبل ذاك وفي نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي ما يقرب من 150000 يهودي عراقي من النساء والرجال، من الأطفال والشباب وهم شكلوا الغالبية العظمى، إضافة إلى أقلية من كبار السن، غالبية مثقفة ومتعلمة ومهنية. لقد فقدهم العراق نهائياً. لقد أشرت قبل سنوات إلى ما يراد للعراق حتى قبل الحرب الأخيرة في العام 2003، وأكدته بعد الحرب والاحتلال، ثم أكدته الأمانة العامة لـ"هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق" منذ سنوات وأعادت التذكير به مرات ومرات وخلال مؤتمرها الأخير بالسليمانية في نهاية العام 2012 ، ثم طرحته وناقشته بعمق ومسؤولية منظمة أصدقاء برطلة (المدينة المسيحية العراقية) في مؤتمرها الأول في خريف العام 2013 بأربيل وبرطلة. لقد أكد المؤتمر وبوضوح كبير أن هناك خطة شريرة لتهجير المسيحيين خارج الوطن العراقي، وعلى العراقيات والعراقيين مواجهة هذه الجريمة البشعة المرتقبة والتي تمارس بأساليب كثيرة ولكن لغاية واحدة أن لا يبقى مسيحي واحد بالعراق. ولكن هل أن المسيحيين وحدهم يواجهون جريمة أفراغ العراق منهم، أم أن هناك أتباع ديانات أخرى يتعرضون لذات الهدف؟ نعم، في واقع الحال ليس المسيحيين وحدهم يواجهون هذه الجريمة، بل واجهها وما يزال يواجهها معهم أتباع الديانة المندائية الذين أصبح نفوسهم بالعراق لا يزيد على عدة آلاف نسمة بعد أن كان أكثر من 70000 نسمة. والصابئة المندائيون لم يكونوا في شمال العراق ولا في إقليم كردستان، بل كانوا في الوسط والجنوب وبغداد. هُجروا منها عنوة واغتصبت دورهم ومحلات عملهم واغتصب بعض نسائهم وقتلت مجموعة منهم بأساليب شتى. لم يبق إلا العدد القليل منهم في الوسط والجنوب وبغداد، إذ تحول أغلب المندائيين للسكن بإقليم كردستان العراق، حيث يجد الأمن الاستقرار والاحتضان أو في الشتات العراقي. ولم يعد يلتق المسافر إلى الوسط والجنوب مواطنات ومواطنين مسيحيين، إلا ربما أفراداً بالبصرة، إذ هجروا عنوة وتحت تهديد القتل وفقدوا دورهم ومحلات عملهم واغتصبت بعض نسائهم ولكن في الغالب الأعم قتل منهم الكثير بالتفجيرات والاغتيالات وحرق الكنائس والدور ببغداد والموصل. استقرت مجموعة كبيرة من العائلات المسيحية التي هاجرت قسراً من الجنوب والوسط وبغداد بإقليم كردستان. وها نحن أمام وصول جمهرة كبيرة يتراوح عددها بين (15000-20000) نسمة من مسيحيي الموصل إلى الإقليم أيضاً. كما أجبر شبك الموصل للتحول إلى الإقليم، بعد أن قتل منهم ما يقرب من 100 مواطن ومواطنة، وكذلك تركمان تلعفر وغيرها إلى بغداد وبابل وغيرها.
كلنا يعرف بأن المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، مثل مليشيات جيش المهدي وحزب الله وبدر، وكذلك المنظمات المسلحة التي شكلتها إيران في حينها هي التي طاردت المسيحيين في الوسط والجنوب بعد سقوط الدكتاتورية، وهي التي اغتصبت دورهم ومحلات عملهم وهجرتهم قسراً وتحت التهديد بالقتل، كما تعرض المسيحيون ببغداد إلى ذات المعاملة. ولكن بغداد شهدت بشكل خاص مشاركة كبيرة من تنظيم القاعدة الإجرامي، إضافة إلى بعض المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وجماعات الجريمة المنظمة، إذ كان هم هؤلاء ليس سرقة أموال المسيحيين والصابئة المندائيين والسيطرة على دورهم ومحلات عملهم وحرق كنائسهم، ومنها بشكل خاص تفجير كنيسة سيدة النجاة والمجزرة التي حصلت فيها، فحسب، بل وإلى إنهاء وجودهم بالعراق. أما بالموصل فقد مارست قوى القاعدة وبعض القوى الدينية المحلية المتشددة عمليات إجرامية بما فيها قتل عدد من القساوسة وحرق الكنائس والتهديد بقتل الكثير من المسيحيين قبل أن تجتاح داعش وأخواتها وبعثيوها ونقشبنديوها ومن لف لفهم الموصل ومناطق أخرى من غرب العراق وشمال غربه.
إن مواطناتنا ومواطنينا من المسيحيين والصابئة المندائيين هم من أصل أهل البلاد، هم العراقيون منذ ألاف السنين، هم الذين شاركوا بحيوية ودأب كبيرين في بناء الحضارة العراقية القديمة والحديثة. ولا شك بأن المسيحيين وقبل أن يتحولوا إلى الدين المسيحي كانوا من القبائل الآشورية والكلدانية والسريانية التي قطنت العراق قبل العرب والمسلمين. وهم اليوم مهددون بانتهاء وجودهم بالعراق. وما تزال تكتشف الكثير من الكنائس والأديرة المسيحية في مدن عراقية غير الموصل وبغداد والبصرة، مثل كربلاء والنجف مثلاً على وجودهم في سائر أرجاء العراق البابلي والعراق ما بعد الهيمنة الهيمنة العربية والإسلامية على العراق.
جريمة أفراغ العراق من أتباع الديانات الأخرى بدأت قبل اجتياح داعش للموصل، ولم تتخذ الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط الدكتاتورية أية إجراءات ضرورية تتصدى بها لمثل هذه الجريمة البشعة، بل سكتت عنها، والسكوت علامة الرضا، ولا ندري أي جناح منها ساهم فيها أيضاً، ولكن، وبقناعة كبيرة نقول بأن المليشيات الطائفية المسلحة كانت الأداة التي استخدمت لتحقيق هدف تصفية الوجود المسيحي والمندائي بالعراق.
وعلينا أن نشير هنا إلى أن الهدف ليس المسيحيين والصابئة وحدهم، رغم كونهم المستهدف الأول، فحسب، بل إن الهدف يمتد ليشمل تحقيق الاقتتال بين المسلمين شيعة وسنة، بدفع كل منهم لقتل أكبر عدد من الطرف الآخر لضمان استمرار غياب الدولة الهشة وغياب القانون وعدم الاستقرار. لقد زرع البيت الأبيض النظام الطائفي المحاصصي والأثني بالعراق، وترك إنجاز لُبّ الهدف أو الباقي على عاتق القوى المحلية والدول الإقليمية.
إن مهمة مواجهة هذا التيار الإجرامي والموجة الجارفة حالياً نبيلة وكبيرة ومعقدة وصعبة في آن، ولكن لا يجوز بأي حال تجاوزها، إنها مهمة المهمات ويتحمل عبئها كل عراقية وعراقي يحسان بوطنيتهم وبخسارتهم الفادحة لكل قتيل يسقط على أرض العراق من أبناء هذا الشعب المبتلى وهذا الوطن المستباح بالطائفية والتكفير والاستبداد والإرهاب، وكل مسيحي أو مندائي أو إيزيدي أو مسلم شيعي أو سني أو غيرهم يهاجر العراق ولن يعود إليه ثانية.
إن على القوى الديمقراطية العراقية، على كل شرفاء العراق من النساء والرجال، أن ينهضوا بمهمة مواجهة كل هذه القوى التي كانت وما تزال وراء ما جرى ويجري بالعراق. إن القوى المدافعة عن حقوق الإنسان، منظمات وجمعيات حقوق الإنسان بالداخل والخارج، التي تعمل على عقد مؤتمرها ببرلين في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام (2014) تضع نصب عينيها مواجهة مثل هذه المخططات المناهضة لحقوق الإنسان وحقه في وطنه وفي الحياة والعمل والكرامة، وتضع نصب عينيها نشر فكر ومبادئ وشرعة حقوق الإنسان التي ترفض العنصرية والشوفينية والطائفية والتعصب والتمييز بمختلف أشكاله، التي تريد تعبئة كل القوى المناضلة في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان بالداخل والخارج لصالح الخلاص من الأوضاع الشاذة والموت والخراب الذي يحاصر الإنسان العراقي في كل مكان.
إن من مهمات المجتمع الدولي والرأي العام العالمي تقديم الدعم والمساندة للمكونات القومية والدينية المهددة من قبل القوى الإرهابية الدولية والإقليمية والمحلية، تقديم الدعم العاجل للاجئين المسيحيين والشبك وغيرهم من إرهاب قوى داعش وحلفائها إلى محافظات إقليم كردستان العراق ، إذ من غير الممكن والمعقول أن تتحمل حكومة إقليم كردستان هذا العبء الإنساني وحدها دون دعم دولي وإقليمي وعراقي ضروري وملح. وكل الدلائل تشير إلى إنهم استقبلوا واحتضنوا بأخوة من قبل شعب كردستان ومن أخوتهم المسيحيين بأربيل ودهوك بشكل خاص.
إن من مهماتنا المباشرة رفع المعنويات والفعاليات والنشاطات المعبئة للناس والمحفزة للنضال، وأن نكافح الإحباط الذي يتهددنا بسبب ما يجري بعراقنا المستباح منذ سنوات. إن علينا أن نرفع من عزائم بعضنا البعض الآخر لمواجهة ما يجري بالعراق ونسعى للتغيير المنشود ولصالح الاحتفاظ بهذه المكونات العزيزة علينا جميعاً ولصالح العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الحر والموحد.
إن الحل الوحيد والناجح لما يعاني منه العراق حالياً هو التخلص من الحكومة الطائفية والمحاصصة الطائفية والأثنية غير السليمة والالتزام بمبدأ المواطنة وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تستطيع تخليص العراق من محنته الكبرى الحالية والدفع به صوب الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية التي تحترم كل القوميات وأتباع كل الديانات والمذاهب وترفض كل أشكال التمييز وتحقق التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتحافظ على كل مكونات المجتمع التي تتعرض اليوم لمخاطر كبيرة وحقيقية وتتسبب بخسائر إنسانية فادحة لا يمكن تعويضها ابداً.
Top