حقوق الانسان بين الخصوصية والكونية
هذا التباين بين المنزع الشمولي للمفهوم وظرفية تأصيله كان منبعا لجدال اتخذ، في بعض الأحيان طابع الحدة، بين من يقولون بكونية مطلقة لحقوق الإنسان، معتبرين أن الإعلان الذي أعلنته الثورة الفرنسية عنها إعلان "عالمي"، ومن يواجهون ذلك بالتشبث بالخصوصيات الثقافية. وقد تمخض هذا الجدال الثنائي عن موقف وسط يدعو إلى التحفظ إزاء كل نزعة شمولية انطلاقا من مراجعة أسسها الإيديولوجية بهدف تجاوز كل هيمنة مركزية. وقد ظهر هذا الموقف الوسط سواء داخل الفضاء الفكري الفلسفي والحقوقي بالغرب نفسه، أو بالشرق الأسيوي حيث تخلل العديد مما يسمى بالدراسات مابعدالكولونيالية.
سنحاول،فيما يلي، أن نعرض لكل موقف من هذه المواقف الثلاثة، تمهيدا لطرح القضايا التي تخصّنا، وبلورةً لموقف يراعي ملابساتنا التاريخية، وتطور مؤسساتنا السياسية، وجدالاتنا الثقافية.
يرى دعاة الموقف الأول أن ما لحق المفهوم من تعويم فتمويه جعل أصوله تتوارى وتغيب، كما جعل ظروف نشأته وملابسات ظهوره لا تؤخذ بعين الاعتبار. في هذا الإطار يتساءل هؤلاء عما إذا كان لنا الحق في أن نتكلم عن حقوق الإنسان قبل الحداثة الفكرية؟ وهم يرون أن من يُسلم بذلك لا يفعل سوى إسقاط الحاضر على الماضي. ذلك أن ظهور مفهوم حقوق الإنسان تولد في نظرهم عن شروط فلسفية لم تتوفر حقا إلا في العصور الحديثة. وأهم هذه الشروط وأساسها ظهور الإنسان داخل الكون كقيمة عليا بحيث ترتبط فكرة الحق به هو، وبحيث يغدو هو وحده محط ذلك الحق. فبدل أن نجعل الطبيعة بكاملها، بحيواناتها ونباتاتها تتمتع بالحق، فإن الفكر الحديث لا يجعل باقي ما في العالم يرقى إلى مستوى الموضوع القانوني إلا انطلاقا من الإنسان وبدلالته. يؤكد هؤلاء أن بزوغ هذه الذاتية القانونية لم يتخذ معناه السياسي إلا في الفكر الحديث وداخل مدرسة الحق الطبيعي. ولم يتحقق الانفصال عن الفكر القديم، وعن الأرسطية في هذا المضمار، إلا مع الفيلسوف هوبز حيث أصبح القانون صفة تلحق بالإنسان الفرد. فمع ظهور الإشكالية الحديثة للعقد الاجتماعي والحالة الطبيعية، لم يعد مفهوم المشروعية منفصلا عن مفهوم الذاتية subjectivité ، حينئذ لن تعتبر مشروعة سوى السلطة التي انبثقت عن تعاقد من طرف الذوات الفاعلة التي تخضع لتلك السلطة بمعنى من المعاني. عندئذ ستوضع الذاتية كأصل لكل مشروعية. ولا يخفى الإرتباط الوثيق بين فكرة الحقوق الذاتية هذه، وبين الشروط السياسية لإقامتها. لذا كان لازما أن تبلور نظرية الإرادة العامة كما هي عند روسو هذه المشروعية وتذهب بالتفكير السياسي الذي تعتمده نظرية الحق الطبيعي إلى مداه البعيد، وذلك تبعا للشروط التي يمكن فيها، وفيها وحدها، أن ينظر للشعب على أنه يتمتع بالسيادة، أي على أنه ذات فاعلةsujet حقيقية هي صاحبة كل مشروعية سياسية.
وراء مفهوم حقوق الإنسان إذن مفهوم الذاتية سواء أكانت الذات الفاعلة فردا أو شعبا بكامله. وغير خاف أن المفهوم الفلسفي للذاتية، هو من إبداع الحداثة الفكرية إن لم يكن هو المميّز الأساس للفكر الحديث بما هو كذلك كما أثبت هايدغر.
ضد هذا الموقف الذي ينشد العالمية بعد أن يثبت ظرفية النشأة، يقوم موقف مضاد ينادي باحترام ثوابت وخصوصيات جميع الثقافات، مؤكدا أن العالمية لا تعني تعميم خصوصية بعينها.
بين هذا الموقف وذاك يقوم موقف ثالث يدعو إلى نقد المركزيات أنّى كان موقعها ، مُركزا بالأساس على تاريخية القيم ، وبالتالي نسبيتها القائمة على علائق القوى بين الدول وبين المجموعات البشرية، وعلى انفتاح الأفق أمام ممكنات عدة قد يتحقق بعضها دون أن يستنفذ المتحقق منها فضاء الممكن، بما في ذلك إمكانية نحت تجارب جماعية متجددة على نحو متفرد، بعيدا عن كل مرجعية نمطية . وإذ يؤكد هذا الموقف على البعد التاريخي للتجارب البشرية يقوض في الوقت نفسه دعائم النزعة التاريخانية التي تلزم- ضمن مفترضها- بوحدة المسار الزمني للشعوب، بل وحدة النموذج والمعيار.
على هذا الإعتراض وذاك، يرد دعاة "الكونية" أننا عندما نقف عند التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، فلا يعني ذلك ردّاً إلى نسبية تاريخية، وربطا للمفهوم بملابسات بعينها وخصوصية تاريخية معينة. إذ لا ينبغي أن ننسى أن الإعلان العالمي لم يكن عند مولده وصفا لواقع الحال، بقدر ما كان ارتفاعا بالواقع إلى ما ينبغي أن يكون، إنه لم يكن فحسب من صنع تاريخ بعينه وظرفية خاصة، وإنما كان أيضا مساهمة في "صنع" التاريخ، وهذه المعيارية بالضبط هي التي من شأنها أن ترفع الحقوق إلى مستوى "الكونية"، وتعطي لمفهوم الحق بعده القيمي فلا تجعله مجرد انعكاس لواقع، وإنما رفعا للواقع إلى ما ينبغي أن يكون، وسعيا وراء قيمة، وتطلعا إلى ممكنات.