هل هناك شكوك تحيط بحق الشعب الكُردي في تقرير مصيره بنفسه؟
ولكن هناك البعض من القوى والأحزاب السياسية الذي اعترف منذ البدء بمبدأ حق تقرير المصير، ضمن حقوق القوميات والشعوب أياً كان حجم تلك الشعوب أو القوميات التي تعيش في وطنها العراق. ومن المعروف دولياً أن حق تقرير المصير يمارس من جانب الشعب ذاته الذي يطالب بممارسة هذا الحق وله الحق في ذلك ولا يتطلب موافقة كل الشعوب التي تعيش بالعراق من جهة، كما إنه يعني حق الشعب المعني إقامة حكم ذاتي أو فيدرالية أو كونفدرالية في الدولة المعنية أو حتى ممارسة الحق في الانفصال عن الدولة العراقية وإقامة دولته الوطنية المستقلة. وهذا الحق المطلق من حيث المبدأ والنسبي من حيث التطبيق خاضع لظروف الشعب الكُردي من جهة أخرى، على وفق التشريعات واللوائح الدولية التي أقرت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والتي تأكدت بوضوح في مبادئ عصبة الأمم، والتي أخل بها في حينها، ومن ثم في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
الأحزاب القومية العربية بمختلف مسمياتها السياسية ( القومية، الناصرية، البعثية) رفضت الاعتراف بحرية ممارسة هذا الحق منذ البدء، ولكن بعضها أجبر على قبول الحد الأدنى منه مثل الإدارة الذاتية، الذي طرحه الدكتور عبد الرحمن البزاز في العام 1966 أثناء حكم عبد الرحمن عارف والاتحاد العربي الاشتراكي، أو الحكم الذاتي، الذي سعى إلى تفريغه حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين في بيان آذار/مارس في العام 1970 وأجهضه فعلاً بعد فترة وجيزة وأجهز عليه عملياً في الحرب وفي محاولة اغتيال الملا مصطفى البارزاني قائد الثورة، ومن ثم في اتفاقية الجزائر الخيانية في العام 1975 وما بعدها.
الأحزاب الإسلامية السياسية كلها دون استثناء لا تعترف بحرية حق لتقرير المصير من منطلق إسلامي لم يعد ينسجم مع حضارة القرن الحادي والعشرين. فهم يعتقدون بأن المسلمين كلهم يشكلون أمة إسلامية واحدة وتخضع لحكم الخليفة أو ولي الله على الأرض، وإن المناطق المختلفة تحكم من قبل ولاة يعينهم الخليفة أو الولي أو السلطان أو أية أسماء أخرى للحكام في مركز الدولة. وحين تجبر هذه القوى والأحزاب على الموافقة بوجود فيدرالية ضمن دولة اتحادية، فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتخلص من حكم ذاتي أو فيدرالية وفي الحد الأقصى القبول بذلك، وبالرغم منهم مع مواصلة تقليص الصلاحيات. وهو ما يمارس اليوم بالعراق.
الحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى والشخصيات اليسارية العراقية، في الماضي وفي الحاضر، كانت وما تزال القوى الوحيدة التي اعترفت منذ البدء بحق الشعب الكُردي في تقرير مصيره بنفسه بما فيه حق الانفصال وإقامة الدولة الوطنية، إضافة إلى الحقوق الإدارية والثقافية للقوميات الأخرى في المجتمع ومناطق سكناها. وهذا الحق مطلق من حيث المبدأ ونسبي من حيث التطبيق وخاضع لظروف الشعب الكُردي ذاته وليس لغيره. وإذا كان الحزب الشيوعي العراقي قد دعا في العام 1935 وفي أول عدد من جريدته "كفاح الشعب" إلى استقلال كردستان، فأن لم يتحدث عن تقرير المصير إلا في العام 1953 ومن ثم توسع به في كونفرانس الحزب الثاني في العام 1956. وأما الأستاذ عزيز شريف، عضو مجلس اللام العالمي وصديق الشعب الكردي، فقد أكد على ذلك في فترة مبكرة وفي الكراس الذي أصدره في العام 1950 تحت عنوان "المسألة الكردية في العراق"، إذ كتب بصواب ما يلي:
"إن حرية تقرير المصير تتضمن حرية الشعب في أن يختار الطريق الذي يرتضيه فإما أن يختار الانفصال وتكوين دولة مستقلة وإما أن يختار الاتحاد. وحرية تقرير المصير شرط أساسي ليكون الاتحاد اختيارياً". وفي هذا يبدو عزيز شريف صارماً يرفض المساومة على حرية الاختيار بين الاتحاد والانفصال، فهو حق ثابت ومطلق للشعب الكردي. (راجع: عزيز شريف. المسألة الكردية في العراق, الطبعة الرابعة، مطبعة مكتب الإعلام المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني. السليمانية 2004).
هذه المواقف المتباينة تتخذها القوى والأحزاب السياسية غير الكُردية، أما الأحزاب الكُردية فهي من حيث المبدأ تؤكد جميعها على حقها في تقرير مصيرها بنفسها ابتداءً من الإدارة الذاتية ومروراً بالحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية ووصولاً إلى الانفصال التام وإقامة الدولة الوطنية الكُردستانية المستقلة. ولكنها تختلف في ما بينها في تحديد الشروط الضرورية أو مدى توفر مستلزمات ممارسة هذا الحق بمختلف مستويات وأشكال تحقيقه. ولهذا يتطلب الأمر، حين البت في أي شكل من الأشكال الوصول إلى وحدة الموقف أو الغالبية العظمى من الشعب الكُردي والقوى والأحزاب السياسية الفاعلة والمؤثرة.
لقد خاض الشعب الكُردي نضالات متواصلة منذ إلحاق ولاية الموصل بالدولة الملكية العراقية في العام 1926 والتي ضمت في حينها إقليم كُردستان الجنوبي، الذي ندعوه اليوم بـ "إقليم كُردستان العراق"، إذ هناك أقاليم كُردستانية أخرى ملحقة بإيران وتركيا وسوريا، وكلها تشكل كُردستان الكبرى الذي تعيش فيه الأمة الكُردية مع شعوب أو قوميات أخرى. وما تحقق للكُرد بالعراق لم يتحقق بالدول الأخرى التي فيها أقاليم وشعوب كُردية حتى الآن، إذ خاض نضالات بطولية وقدم تضحيات غالية وكثيرة والتحم بشكل سليم في نضاله مع القوميات الأخرى، وخاصة مع الأكثرية العربية وقواها الديمقراطية من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية والديمقراطية وحقوق القوميات. وما تزال الشعوب الكُردية في أقاليمها الأخرى تناضل في سبيل الوصول إلى ما حققه الشعب الكُردي في إقليم كُردستان العراق.
إن الهدف من هذا الاستعراض الكثيف هو تشخيص عدد من الاستنتاجات الأساسية التي تمس حرية حق الشعب الكُردي في تقرير مصيره بنفسه والتي يفترض أن تكون واضحة للجميع، ومنها:
1. إن مبدأ حق تقرير المصير لأي شعب من الشعوب هو حق ثابت ومطلق ينسجم تماماً مع القوانين واللوائح الدولية ومع لائحة حقوق الإنسان وحقوق القوميات ولا يجوز التشكيك به أو إضعافه تحت أية واجهة كانت. ويشمل هذا الحق الشعب الكُردي بالعراق أيضاً.
2. إن ممارسة هذا الحق بصورة عملية تخضع لظروف الشعب الكُردي وتهيئة مستلزمات تطبيق أي شكل من أشكاله ابتداءً من الاتحاد الاختياري ومروراً بالإدارة الذاتي والحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية وانتهاءً بالانفصال التام وتشكيل الدولة الوطنية المستقلة.
3. إن ممارسة هذا الحق لا تتطلب موافقة القوميات الأخرى المتعايشة مع الشعب الكُردي بالعراق، بل هو حق الشعب الكُردي ذاته.
4. حين يتوفر للشعوب القاطنة بالعراق نظام سياسي ديمقراطي وحياة ومؤسسات دستورية ومساواة فعلية وشراكة حقيقة لكل الشعوب فيه، عندها لا تظهر في الواقع العملي رغبات في الانفصال، ولكن العكس صحيح أيضاً حين تسود الدكتاتورية وتنعدم المساواة والشراكة الفعلية في الوطن وفي الصلاحيات والواجبات.
5. وفي هذا الإطار لا يحتاج قادة الشعب الكُردي إلى الإعلان عن رغبتهم في الانفصال بين فترة وأخرى حين تتفاقم الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لأن إعلان الانفصال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة هو حق ثابت من حقوق الشعب الكُردي واستخدامه يعود له وليس لغيره، وعليه أن يوفر ظروف ومستلزمات إعلانه. إذ أن تكرار الحديث عن الانفصال أو الدولة الوطنية المستقلة دون ممارسة ذلك بسبب عدم توفر مستلزمات إعلانه تضعف الشعور بالثقة وتشكك بمثل هذا الحق أو بممارسته حين تتوفر مستلزمات تنفيذه.
6. ليس غريباً أن تظهر خلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في ظل غياب القوانين المنظمة للعلاقة بين الطرفين من جهة، وغياب الاستقلالية للقضاء العراقي عن السلطة التنفيذية من جهة أخرى، والضعف الشديد والتخلف الفكري والسياسي للغالبية العظمى من أعضاء مجلس النواب وعجزه عن ممارسة مهماته بسبب تسلط السلطة التنفيذية وعرقلة تأدية مهماته، والعكس صحيح أيضاً من جهة ثالثة، وبالتالي لا يحتاج القائد السياسي إلى الحديث عن الانفصال، إذ يمكن أن تحصل تغييرات في السلطة التنفيذية تفرض معالجة تلك المشكلات بطريقة ترضي الطرفين، خاصة وأن المشكلة من حيث المبدأ تكمن في الضعف الجدي للتشريع العراقي الراهن وفي غياب وجود الحدود الفاصلة للواجبات والصلاحيات.
7. إن تكرار الحديث عن إقامة الدولة الوطنية المستقلة تستفيد منه القوى السلبية والسيئة في طرف الحكومة الاتحادية، التي تحاول رمي عبء الأخطاء على حكومة الإقليم وتثير مشاعر العرب ضد الكُرد في الوقت الذي عجز صدام حسين عن تحقيق هذا الهدف المسيء للتضامن بين الشعبين العربي والكُردي بالعراق. وغالباً ما يسعى رئيس الحكومة الاتحادية إلى إثارة الطرف الكُردي ليطرح مثل هذه التصريحات ليعبئ القوى ضد الكُرد.
8. إن الصداقة الواعية والصادقة للشعب الكُردي تتطلب طرح الملاحظات على سياسة الإقليم بصراحة تامة وشفافية، والتي كما أرى، تستوجب في هذا الجانب إعادة النظر بها وتدقيقها بما لا يوفر فرصة سانحة للحكومة الاتحادية أو القوى الأخرى المناهضة للكُرد من منطلق قومي أو طائفي استعداء العرب على الكُرد.