• Friday, 22 November 2024
logo

في الذكرى السادسة والعشرين لجينوسايد حزب البعث ونظامه الفاشي في حلبجة وإقليم كردستان العراق

في الذكرى السادسة والعشرين لجينوسايد حزب البعث ونظامه الفاشي في حلبجة وإقليم كردستان العراق
كاظم حبيب
حين وقعت جرائم قتل مليون أرمني في العام 1915 من قبل السلطنة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى بذهنية عنصرية ودينية مقيتة، قيل بعدها إن الشعوب والحكومات قد تعلمت منها ولن تتكرر. وحين ارتكبت جرائم الهولوكوست من قبل النظام الهتلري قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية بذهنية عنصرية ضد يهود أوروبا وغيرهم، قيل في حينها بأن الشعوب والحكومات قد تعلمت منها كثيراً ولن تتكرر مثل هذه الجرائم البشعة بعد الآن. وحين ارتكبت جرائم رمي القنابل النووية على هيروشيما ونغازاكي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية، قيل إن هذه جرائم بشعة يجب أن يحرم استخدام الأسلحة ذات القتل والتدمير الشاملين، وأن الشعوب ستتصدى لها وتوقف الحكومات عن ارتكاب جرائم من هذا النوع. وحين ارتكبت جرائم صبرا وشاتيلا من قبل إسرائيل في بيروت، قيل بعدها لن تتكرر مرة أخرى في أي مكان من العالم. وحين وقعت مجزرة رمي مدينة حلبجة الكردستانية بالسلاح الكيميائي ضمن عمليات الأنفال باعتبارها واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية التي ارتكبت في النصف الثاني من القرن العشرين من قبل حزب البعث القومي والعنصري ونظامه الدكتاتوري الفاشي، إذ سقط في حلبجة أكثر من 5000 شهيد وأكثر من 5000 جريح، حتى بلغ حجم جرائم الأنفال إلى ما يقرب من 182000 إنسان من بنات وأبناء، من أطفال وشيوخ ونساء كردستان العراق. كان ذلك في العام 1988. في حينها سكت العالم كله، وكأن العالم كله كان قد أصيب بالثلاثة: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ, بل ولا يفقهون!! ما يجري حولهم. كما إن جريمة نزوح أكثر من مليوني إنسان من إقليم كردستان العراق باتجاه تركيا وإيران للخلاص من جرائم ملاحقة البعث لهم مع انتفاضة ربيع العام1991.
لقد كانت الجريمة المرتكبة كارثة مريعة، ولكن الكارثة الأخرى التي استكملها برزت في اندهاش وغضب الشعب الكردي أمام العالم الذي صمت كأبي الهول لا يتحدث عن الجرائم المرتكبة، لا يشير إليها ولا إلى المجرم الفاعل صدام حسين، بل إن البعض من ساسة الولايات المتحدة حاولوا اتهام إيران بها حينذاك، بالضد مما كانوا يعلمون به علم اليقين. إنه التعبير الصارخ عن بشاعة الانتهازية إزاء المصالح الدولية الضيقة التي سلبت الشعوب إرادتها وأسكتت المجتمع الدولي كله تقريباً.
إلا إن أصواتا قليلة نظيفة تلك التي حاولت التعريف بجريمة حلبجة وجرائم الأنفال وإدانتها، وكان العرب في غالبيتهم والحكومات العربية المستبدة الأكثر صمماً وبكماً وعمياً في مواجهة ما حصل في إقليم كردستان العراق في الفترة الواقعة بين شباط/فبراير وتشرين الأول/أكتوبر من العام 1988.
نحن الآن نمر في الذكرى السادسة والعشرين على ارتكاب تلك الجرائم، فهل تعلمت الشعوب والحكومات العربية، وهل تعلم العراق وحكومته الاتحادية، من دروس تلك الفترة والعوامل التي تسببت بها؟
كل الدلائل التي تحت تصرفي تشير إلى إن الحكومات العربية لم تتعلم من تلك الدروس، وكذلك الشعوب، فهي لم تتصد للحكومات التي تمارس المجازر بحق شعوبها في العديد من هذه البلدان في الوقت الحاضر. والأمثلة كثيرة على ذلك، سواء أكان ذلك في سوريا أم السودان أم ليبيا أم في الجزائر أم في لبنان، أم في سياسات إسرائيل إزاء الشعب الفلسطيني وسياسات حماس أيضاً. والأكثر بشاعة هو إن المجتمع الدولي لم يتعلم من تلك الدروس ولم يسع إلى وضع حدٍ لارتكاب الجرائم بحق الشعوب.
والسؤال الجوهري الذي يدور في بالي في الذكرى السادسة والعشرين لجريمة حلبجة وجرائم الأنفال هو: لماذا ارتكبت جرائم حلبجة والأنفال ضد الشعب الكردي بكردستان العراق؟ وهل يمكن أن تتكرر بصيغة ما؟ وهل سنقف مكتوفي الأيدي وصامتين أمام تطور الأحداث بالاتجاه العدواني ذاته؟
لقد ارتكب حزب ونظام الحكم البعثي تلك الجرائم البشعة تحت تأثير مجموعة من العوامل المحددة لطبيعتهما والتي يمكن بلورتها فيما يلي:
1 . الفكر العنصري الذي التزم به حزب البعث منذ تأسيسه في العام 1947/1948 في لبنان وسوريا والساعي إلى صهر كل القوميات التي تقيم في المنطقة الواقعة "بين المحيط " في القومية العربية، ومن لا يرغب من القوميات الأخرى فعليه الهجرة أو السجن والموت.
2 . الفكر الفاشي المتسم بممارسة العنف في فرض الإرادات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية البعثية على المجتمع، لا يجوز أن يوجد في المنطقة أكثر من فكر واحد ونهج سياسي واحد وحزب واحد. حتى لو اعترف تحت ظروف معينة بقومية أخرى أو بفكر وحزب آخر، فهو اعتراف مؤقت إلى حين تسنح له فرصة مناسبة لوأد ذلك.
3 . الهيمنة الفكرية والسياسية المطلقة على المجتمع والاقتصاد والثقافة والحياة العامة.
4 . الذهنية العسكرية التي تكمل الأركان الأخرى. فالقوة والحق أو الحق والقوة هما وجهان لرؤية وعملة واحدة ولا بد من عسكرة المجتمع. وما يريده حزب ونظام البعث هو الحق، ويؤخذ بالقوة في المحصلة النهائية.
5 . وحزب البعث ونظامه السياسي يؤمنان بدور القائد المطلق، القائد الضرورة، الذي يأمر فيطاع ولا مرد لقراراته، وأقواله قوانين ملزمة.
6 . وهذا التشكيلة الفكرية والسياسية والتنظيمية كانت تعني في عراق البعث الصدَّامي لا وجود لحقوق الإنسان ولا لحقوق القوميات، بل عراق عربي من "زاخو لحدود البصرة"، وهو إضافة إلى ذلك حزب ونظام يسعيان للتوسع والعدوان.
اصطدمت هذه الرؤية الفكرية الشوفينية لحزب البعث ونظامه السياسي بالرؤية الفكرية والنهج السياسي لأبناء وبنات القوميات الأخرى والأحزاب السياسية الأخرى، كما اصطدمت وبشكل مباشر بإرادة الشعب الكردي وأحزابه السياسية وحقوقه القومية في إقليم كردستان العراق. وإذ اعترف في العام 1970 في بيان الحادي عشر من آذار بالحكم الذاتي للشعب الكردي تحت واقع ظروف قاهرة لم يكن قادراً على إنقاذ نظامه البعثي إلا بالمساومة المؤقتة والمناورة والتآمر، حتى حانت له الفرصة بتمزيق تلك الاتفاقية وعقد الاتفاق الخياني مع شاه إيران في اتفاقية الجزائر لعام 1975 التي وفرت له الفرصة لضرب حركة التحرر الكردية المسلحة مؤقتاً والتي عادت للعمل والنضال مجدداً ولكن بقوة أكبر وشعبية أوسع وتعدد منابر النضال ضد الدكتاتورية الفاشية.
لقد كان الفكر العنصر والفاشي والعسكري والتوسعي قد هيمن بشكل جامح على سياسات وسلوك البعث وصدام حسين مما دفع بهما إلى شن حرب عدوانية ضد إيران دامت قرابة ثماني سنوات عجاف ومريرة خسر البلدان فيها أكثر من مليون قتيل وما يقرب من مليوني جريح وأسير ومغيب، إضافة إلى مئات المليارات من الدولارات الأمريكية ودمار في الاقتصاد والبنية التحتية. وقبل نهاية الحرب العراقية الإيرانية مارس النظام البعثي وقادته الأوباش جرائم الإبادة الجماعية في حلبجة وفي الكثير من مناطق إقليم كردستان العراق وضد الإنسانية. ومثل هذا النظام لا يمكن أن لا يتركب المزيد من الجرائم العدوانية فكان الغزو العدواني ضد الكويت، وكانت حرب تحرير الكويت، وقبل ذاك فرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق ومن ثم حرب الخليج الثالثة في العام 2003 التي سقط فيها الدكتاتور وسقط حزبه ونظامه السياسي.
هل هذا الاستعراض المكثف لفكر وسياسات حزب ونظام شوفيني يساعدنا في التعرف على الدروس المهمة لتجنب السقوط في أوضاع مماثلة تقود إلى عواقب مماثلة؟ هذا ممكن بطبيعة الحال، والشرط في ذلك أن تكون ذاكرة الشعوب وذاكرة الحكام والسياسيين عموماً نشطة وغير قصيرة الأمد، وأن تبتعد كلية عن أي فكر شوفيني أو عنصري أو متعصب وعن نهج سياسي استبدادي لا يعي مضمون الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات أو يتسم بالشوفينية والطائفية أو ضيق الأفق القومي أو الديني أو المذهبي، التي تقود كلها إلى نشوء ظروف مماثلة تقود بدورها إلى عواقب مماثلة.
منذ سقوط النظام الدكتاتوري بالعراق نشأ على أنقاضه نظام المحاصصة الطائفية والأثنية المقيت، وأقر المجتمع دستوراً لا يتسم بالنضوج والوعي بواقع العراق وحاجات شعبه بقومياته المختلفة، بل إن فيه الكثير من النواقص الجدية والكثير من مواده حمالة أوجه. كما لم تسن القوانين المنظمة للعلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والحكومات المحلية الأخرى بالبلاد. ولم تنفذ الاتفاقات التي عقدت بين الأطراف السياسية حتى وفق هذا الدستور بنواقصه المعروفة للجميع.
أدى هذا الوضع إلى نشوء حالة انعدام كاملة للثقة المتبادلة وسيادة لعبة جر الحبل وتبادل الاتهامات. وزاد في الطين بلة ثلاث ظواهر سلبية حادة هي:
** السياسة الطائفية التي تمارسها الحكومة الاتحادية وابتعادها كلية عن أجواء الحرية والديمقراطية المحدودة ما بعد سقوط الدكتاتورية، وبروز ظاهرة الهيمنة الحزبية والفردية الضيقتين في الحكم. وقاد هذا إلى تفكك الحكومة وعجزها عن القيام بأي شيء مشترك، بل لم تعد هناك حكومة يعترف بها المجتمع أو الأحزاب والقوى السياسية.
** تفاقم الإرهاب بالبلاد وتمكن قوى الإرهاب التكفيرية من إنزال ضربات موجعة بالشعب العراقي وبالأمن والاستقرار وإضعاف متواصل للحكومة الاتحادية.
** تعاظم الفساد المالي والإداري من حيث حجم الأموال وسعة التعامل به وتحوله إلى نظام سائد في التعامل اليوم على صعيدي الدولة والمجتمع.
في مثل هذه الظروف وفي ظل ضعف الوعي الفردي والجمعي لدروس الماضي القريب, وفي الأجواء المعقدة السائدة في منطقة الشرق الأوسط وتدخل دول الجوار الفظ في الشأن الداخلي، تنشأ، شاء الإنسان أم أبى، تلك الأجواء المحفزة والدافعة إلى ارتكاب أخطاء سياسية قاهرة وترتكب جرائم تقود إلى وقوع ما لا يحمد عقباه على مستوى البلاد بأسرها.
إن غياب الحوار وتفاقم لغة العقوبات والتهديدات بين الأطراف المتصارعة واتخاذ إجراءات عقابية تشدد من الأجواء المتوترة أصلاً وردود فعل لا تعبر عن عقلانية ضرورية، وفي ظل عجز المجتمع عن تحقيق التغيير المنشود على مستوى نهج الحكم الاتحادي وسياساته التفصيلية، يساعد على تعميق الاصطفاف الطائفي والقومي واستقطابه بالبلاد وإلى عواقب غير إيجابية في الانتخابات القادمة وانعكاسات ذلك على نتائجه التي يسعى إليها الطائفيون والقوميون. وهي في المحصلة النهائية مساهمة سيئة لا تعالج المشكلات التي يعاني منها العراق على مختلف المستويات بصورة ديمقراطية ولصالح المجتمع وبناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية بالعراق.
ومع كل التفاؤل الذي يتملكني حول مستقبل العراق الديمقراطي، فأن المعطيات التي أراها لا تبشر بخير عميم في الحياة السياسية العراقية الراهنة. هذه الحقيقة لا تعني أن علينا أن نركن إلى الهدوء وعدم النضال لتغيير هذه الحالة الراهنة والمرضية في المجتمع والدولة العراقية، بل هي تستوجب منا جميعاً المزيد من الروح النضالية من أجل تغيير شروط اللعبة السياسية لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان والحقوق القومية وحقوق المرأة ...الخ. إنها مهمة صعبة ولكنها واجبة وضرورية وملحة، كما إن القوى الطائفية بشكل خاص ترتكب اليوم من الأخطاء الفاحشة والمتوقعة التي سيكون في مقدورها مساعدة القوى الحرة والديمقراطية على تشديد النضال وكسب المزيد من البشر لمواجهة ما يراد للعراق من عواقب سيئة في الفترة القادمة.
Top