• Friday, 22 November 2024
logo

حين تكون الفئات الرثة في الحكم تنتشر الرثاثة في كل مكان!

حين تكون الفئات الرثة في الحكم تنتشر الرثاثة في كل مكان!
نشر الزميل الدكتور فارس كمال نظمي في موقع الحوار المتمدن/ العدد 4342، بتاريخ 22/1/2014 مقالاً قيماً يستحق القراءة والتعليق والترويج له لأهميته في فهم سلوك الحكام الجدد تحت عنوان "سيكولوجية إنتاج الرثاثة في المدينة العراقية". وأهمية هذا المقال تكمن في تشخيصه الدقيق لجملة من الظواهر الاجتماعية والنفسية والسلوكية المميزة في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ البلاد على صعيد المجتمع والدولة والمدينة العراقية والناشئة عن طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة والمرتبطة عضوياً بالبنية الطبقية للمجتمع من جهة وللفئات الحاكمة من جهة أخرى. وهذا التشخيص ينسجم تماماً مع التشخيص الذي انتهيت له في تحليلي للواقع العراقي في مقالي المكثف والمنشور في موقع الحوار المتمدن/ العدد 4004، بتاريخ 15/2/2013 ومواقع أخرى كثيرة (صوت العراق، الناس ومركز النور...) تحت عنوان "السياسة الاقتصادية والبنية الطبقية للنخبة الحاكمة بالعراق" والذي أكد بأن القراءة الموضوعية لواقع الاقتصاد العراقي وسياسات الحكومة الاتحادية تكشف لنا بما لا يقبل الشك إن جزءاً أساسياً وغالباً من النخبة الحاكمة الحالية ينحدر من فئات اجتماعية هامشية وغير هامشية والتي أطلق عليها مصطلح "الفئات الرثة", سواء من هم في الحكومة أم في مجلس النواب أم يجلسون على مقاعد وثيرة في أجهزة الدولة والقوات المسلحة أم، وبشكل أوسع، في الجزء الأكبر من النخبة السياسية العراقية. وهذه الفئة تسعى إلى الاغتناء على طريقة القطط السمان وتستنزف موارد الدولة من الباطن وبأساليب المافيا المعروفة وأساليب الرشاوى والنهب والسلب العلنيين. وهذا الجزء المؤثر والحاسم في النخبة الحاكمة يطبع عمل الحكومة كله ويميزه ويمنحه سلوكية معينة وإجراءات محددة تسعى هذه الفئة من خلاله إلى إنعاش الفئات التي يصطلح عليها بالطفيلية, سواء في المضاربات المالية أم في العقار أم في المقاولات أم في العقود النفطية والسلاح والتجارة الأخرى أم في المجالات الاقتصادية الأخرى وفي المجتمع. وتنشط هنا إلى جانب ذلك العلاقات والسلوكيات العشائرية التي لم تعد تنسجم مع القرن الواحد والعشرين، بل تعود لعلاقات ما قبل الرأسمالية أو في فترة الهيمنة الإمبريالية على سياسات واقتصاد العراق. وتزيد في الوقت ذاته من اعتمادها على شيوخ الدين والمؤسسة الدينية عموماً لأنها تمارس الطائفية وباسمها تتحرك المافيات المتنوعة في البلاد. ولا يوجد أي تناقض بين هاتين الظاهرتين بل تتكاملان لتعيقا التطور الاقتصادي وتحافظا على ما هو قائم وتعيدان إنتاج ذات العلاقات , وتحت شعار ليس في الإمكان أبدع مما كان. إلا إن الواقع يشير إلى تدهور مستمر في الأوضاع. فالوضع القائم بالبلاد يعكس تشابكاً عجيباً, ولكنه قائم فعلاً ويخدم على المدى القريب مصالح النخب الحاكمة من الفئات الرثة ذات النعمة الحديثة التي لا يهمها تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني والمجتمع المدني, بل همها يتركز في سبل زيادة ثروتها من السحت الحرام وتعظيم حساباتها المصرفية الخاصة على حساب الاقتصاد الوطني وقوت الشعب, وتركز ذكائها في هدف أساسي هو: كيف تحافظ على الوضع القائم وعلى وجودها في السلطة وإدامته بما يسهم في زيادة فرص نهبها لموارد الدولة". ويزيد في الطين بلِة طبيعة الاقتصاد العراقي الريعية والاستهلاكية التي تسعى الفئات الحاكمة إلى الحفاظ عليه وإعادة إنتاجه وتكريسه.
لم تخل المجتمعات الرأسمالية من وجود مثل هذه الفئات البينية التي تبرز في مراحل وفترات انتقالية في إطار النمط الإنتاجي الرأسمالي أو في أثناء عملية التحول من النمط السابق للرأسمالية، وكذلك في مرحلة التراكم البدائي لرأس المال أو حتى في مرحلة متطورة منه. ويختلف دور وتأثير هذه الفئات في المراحل المختلفة من تطور الرأسمالية. ونشأت مثل هذه الفئات في البلدان النامية بفعل السياسات التي مارستها وفرضتها الدول الاستعمارية على اقتصادياتها وبالتعاون الوثيق مع الفئات الاجتماعية لنمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي الرافضة للتطور الصناعي والتنمية الاقتصادية أو المعرقلة له والمكافحة ضد الحداثة وتغيير البنية الاجتماعية. وقد نشأت مثل هذه الفئة الرثة في الدول الاشتراكية وأحزابها الحاكمة لأنها تخلت عملياً عن المبادئ التي حملتها عندما وصلت إلى السلطة، وكان أهم أسباب انهيارها من الداخل أولاً وقبل كل شيء.
وإذا كان العراق قد عرف الفئة الهامشية أو الرثة في ظل الهيمنة البريطانية على العراق والسياسات الاقتصادية التي مارستها النخب الحاكمة المعبرة عن مصالح شركات النفط الاحتكارية ودولها الرأسمالية ومصالح فئة الكومبرادور التجاري وكبار الإقطاعيين والملاكين للأرض الزراعية وفي ظل اقتصاد نفطي ريعي، إلا إنها لم تكن ذات تأثير كبير على المجتمع والاقتصاد العراقي في ظل الحكم الملكي، كما إنها لم تكن في الحكم، فإن العراق أصبح في ظل حكم البعث والقوميين، الذي بدأ في العام 1963 تحت هيمنة هذه الفئة الرثة بكل أوساخها وما أفرزته من عواقب وخيمة على المجتمع والاقتصاد الوطني ومستقبل أجيال العراق. وقد تواصل وجود هذه الفئة في العقود اللاحقة تحت سيطرة القوميين ومن ثم البعثيين، وبشكل خاص منذ منتصف العقد التاسع من القرن الماضي. ومع تفاقم عواقب الحروب والحصار الاقتصادي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المناهضة لمصالح الشعب، اتسعت قاعدة الفئات الاجتماعية الهامشية، وتبلورت أكثر فأكثر هذه الفئة الاجتماعية الواسعة والمتسعة باستمرار والمتنوعة من حيث المنحدر الطبقي وازداد دورها في الفترة التي سبقت سقوط الدكتاتورية. لقد كانت قيادة البعث والحكم البعثي النموذج الفعلي للفئة الرثة التي قادت بالبلاد لمدة 35 عاماً وزجته في أعقد وأسوأ المحن والكوارث والموت الشنيع لمئات الألوف من أبناء وبنات العراقي. ولكن هذه الفئة الرثة التي توجهت لقيادتها ضربة قاسية مع سقوط الدكتاتورية البعثية الصدَّامية الغاشمة وهيمنة الاحتلال الأمريكي – البريطاني على العراق، أخلت مكانها بالقوة إلى ذات الفئة الرثة، ولكن بقيادات وكوادر وأحزاب أخرى لتحكم البلاد بذات الذهنية الرثة ولكي تسود الرثاثة بالعراق. هذه الفئة المتسعة والمتعاظم دورها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر الدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والقمعية على نحو خاص هي التي نطلق عليها بالفئة الرثة، وهي الحاكمة بالعراق في الوقت الحاضر، بل ومنذ 2003. وهي التي وجدت الدعم والتأييد والمساندة الكاملة من سلطان البيت الأبيض، جورج دبليو بوش، وواليه المستبد بأمره وبالعراق، باول بريمر.
هذه الفئة الرثة ليست حديثة العهد بل كانت في قوى المعارضة السياسية للنظام السابق، وهي التي اتفقت مع الإدارة الأمريكية ومنذ مؤتمر المعارضة ببيروت أن تتسلم الحكم بذريعة أنها تمثل الغالبية العظمى من السكان من الناحية الدينية ومن ثم المذهبية. وبالتالي فأن غالبية قوى المعارضة حسمت الأمر على هذه الصورة الطائفية والأثنية في بنية قيادة المعارضة التي وافقت على شن الحرب في العام 2003 ضد النظام الصدَّامي. وكانت تشكيلة الحكم الطائفية القائمة على أساس المحاصصة مطلوبة من الإدارة الأمريكية ومناسبة لمصالحها بالعراق ومنطقتي الخليج والشرق الأوسط، إذ بهذا الصورة يبقي العراق دون استقرار وفي صراع ونزاع مستمرين يبعده عن التنمية والتغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لما بعد حكم صدام حسين الشوفيني المقيت.
ما هي السمات التي تميز الفئة الاجتماعية الرثة والتي تخلق الرثاثة بالبلاد؟ علينا ابتداءً أن نشير إلى ضرورة التمييز بين الفئات الهامشية والفئة الرثة، فهما لا يعنيان بشكل أوتوماتيكي شيئاً واحداً، كما إنهما ليسا مترادفين، ولكنهما يلتقيان ببعض السمات المشتركة وأهمهما، موقعهما من الإنتاج ومن الملكية لوسائل الإنتاج وفي بعض الأخلاقيات. فالفئة الرثة الحاكمة بالعراق لا علاقة لها بالإنتاج المادي، وهي غير مالكة حتى الآن لوسائل الإنتاج، ولكنها تهيمن على الاقتصاد الوطني من خلال موقعها في الدولة والحكم وفي الأحزاب السياسية المهيمنة حالياً على الساحة السياسية العراقية والحكم. وهي تهيمن على موارد البلاد، وخاصة النفط الخام وعوائده المالية المتأتية من التصدير السنوي للنفط الخام، والذي يشكل أكثر من 97% من صادرات العراق، ونسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي ومن الدخل القومي. وهو بيد هذه الفئة الاجتماعية الرثة التي توجه الموارد المالية صوب مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة وبعيداً كل البعد عن مصالح الشعب والاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية، وبشكل خاص التنمية الصناعية أو حتى استخدام النفط في التصفية وفي الصناعة التحويلية أو في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية ونظافة المدن والبناء والشوارع ..الخ. وهي فئة نهابة للثروة الوطنية ويسود بالبلاد في ظل حكمها الفساد المالي والإداري بكل صوره وأبعاده وعواقبه على الاقتصاد والمجتمع، كما أنه ينتشر الخراب والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية والاجتماعية والمدنية والحضارية في المدن. إنها الرثاثة التي تنشرها الفئة الرثة في المدن وفي عموم البلاد. ويزيدها سوءاً انتشار الإرهاب الدموي المنطلق من ذات المواقع الفكرية والسياسية، وبسادية وقسوة مرضيتين وبصورة أكثر دموية وتخريباً وتدميرا. ومن هنا يأتي اتفاقي مع تحليل السيد الدكتور فارس كمال نظمي لواقع المدينة العراقية والفئات التي تقف وراء هذه الرثاثة والعواقب الوخيمة لما يجري بالعراق على مستقبل الشعب وثقافة المجتمع وفنونه الإنسانية وتطوره اللاحق وعلى المرأة التي تعتبر في عرف الفئة الرثة "ناقصة عقل!".وكان على حق كبير حين بين الرثاثة في المدن العراقية الكبيرة والصغيرة في الوسط والجنوب وغرب بغداد حيث الحكومة الاتحادية مسؤولة عنها، وبين التطور والتحسن الكبيرين في المدن الكردستانية التي تفقد يوماً بعد آخر الرثاثة التي ورثتها من النظم الرثة السابقة.
إن الفئات الرثة العراقية تفتح لها حساباتها المصرفية في خارج البلاد وتغتني على حساب ثروة الشعب وموارده المالية وعلى حساب حياته ومعيشته. ولكنها لا تعيش على موارد البلاد حسب، بل وعلى موارد من يدفع لها من الخارج لكي تنسق معه وتتعاون في مختلف المجالات. فلا تكتفي أجزاء مهمة من الفئة الرثة بما تحت تصرفها من أموال الشعب والسبل المشبوهة في استخدامه في غير صالح المجتمع، فهي تمول أجهزتها الإعلامية بأموال تأتيها شهرياً من إيران، وبعضها من السعودية والخليج. ويمكنكم أن تستفسروا من رؤساء الأحزاب الإسلامية الشيعية منها والسنية أو من شبكة الإعلام العراقية حول من يدفع رواتب ومصروفات قنوات التلفزة التي سجلت باسمها وصاحبها دافع مصروفاتها الشهرية. الفئة الرثة لا تعرف الوطن ولا الدين الذي تتبناه شكلياً ولا المذهب الذي تدعي الانتساب إليه ولا الطائفة التي تتبجح كذباً بالدفاع عنه، فمصالح كل فرد فيها هو الغاية الأساسية، هو الوسيلة والهدف، إنها السلطة بما تعنيه من نفوذ وهيمنة ومال وجاه واستئصال للفكر الآخر والشخص الآخر والحزب الآخر. ولو كان في مقدورها أن تحكم بدون الناس لتخلصت منهم أيضاً. فلا عجب أن يعيش العراق بعد عشر سنوات في خضم هذا الصراع والنزاع والخراب والدمار والموت غير المنقطع، إضافة إلى هيمنة الثقافة الصفراء بكل ما تعني من انتشار للجراد المسموم في الثقافة العراقية، فالعملة الرديئة الرثة بدأت بطرد العملة الجيدة لأن الفئة الرديئة والرثة في السلطة. هذه هي الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها في رؤية الوضع بالعراق وما يجري فيه وما سيؤول إليه إن استمرت الفئة الرثة في حكم البلاد.
Top