استراتيجيات التنمية ودور المرأة فيها
إنّ استراتيجية حقيقية لا يمكن أنْ تكون مجرد شعارات أو حالات استنساخ توضع على الورق، من دون وسائل تنفيذها وتلبية شروطها ومتطلباتها. ومن هنا فإن الاستراتيجيات التي وُضعت عراقيا حكوميا في مرحلة سابقة، ربما تناولت بعض جوانب مهمة بخاصة في شأن السكان والمرأة إلا أنَّنا لمْ نلمسْ نتائج ميدانية تُذكر. وأخطر أولوية هي ما تعلق بالتنمية البشرية وبالتحديد في أبرز فئة مجتمعية أقصد هنا النساء. وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة أجدُ الأمر واجباً ومناسباً أنْ أتناول تصوراً أوليا موجزا في استراتيجية التنمية ودور النساء فيها...
أما التنمية المجتمعية فتشمل أركان ومحاور متنوعة اقتصادية اجتماعية ثقافية وغيرها. ولكننا نركز هنا في معالجة التنمية على محورالمرأة ودورها. فلطالما كانت المرأة في العقد الأخير الطرف الأكثر عزلا ومحاصرة وتعرضاً لأبشع أشكال التجهيل والتعطيل والاستغلال..
فمع انتهاء عقد وبدء عقد جديد من تاريخ التغيير في العراق، ما زال يعيش حوالي نصف المجتمع ضمن اقتصاديات الحد الأدنى أو الكفاف، ومعظم هذه النسبة تجد حالها مطحونة بين حجري رحى التردي البيئي بكل تنوعات ما يضمه مصطلح البيئة من جوانب جغرافية طبيعية ومجتمعية. وفي هذه الأجواء الكئيبة تقع النسوة ضحية أمراض مجتمعية؛ لكنهنّ يبقين فوق ذلك مساهِمات رئيسات في اقتصاديات الحد الأدنى، إذ يعانين ويشقين ساعات أطول ويساهمن بانشغالات عمل أكبر في كثير من الأحيان لدعم دخل الأسرة. وعلى سبيل المثال نشير هنا إلى نسوة الريف مثلما نشير إلى الأعمال المنزلية بتنوعاتها أيضا في المدينة وفي شرائح مجتمعية متوسطة أو عليا.. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ مجتمعا [كالمجتمع العراقي] يحسب الأمور وقيمها (الاقتصادية تحديدا) بالأوراق المالية وتداولها بين أطرافها، لا يَعُدّ مثل هكذا مجتمع النساءَ منتجات.. وفي ضوء ذلك، تضع المؤسسات الحكومية وإحصاءات الاقتصاديين وضمنا رجال العائلة، يضعون جميعاً المرأةَ في باب العطالة وانعدام القيمة المنتجة.
وهكذا مثلما يُبخس حق طاقة عمل الشغيلة وقيمتها الفعلية في النُظُم الاستغلالية، فإن مجتمعنا اليوم يبخس عمل المرأة ويضعه دون قيمته الحقيقية الفعلية، وتبقى المساهمات النوعية المهمة التي تباشرها النساء من ساعات طوال يوميا، لرعاية عوائلهن ومجتمعاتهن؛ تبقى تلك المساهمات لا تحظى بما تستحقه من قيمة ومن اعتراف منتظر.
إن هذا التجاهل لقيمة مساهمات النسوة الاقتصادية والاجتماعية من شأنه أنْ يؤدي إلى شلل أية جهود تستهدف تحقيق التنمية المنشودة، كما أنّ غياب الاستثمار المبرمج في جهودهن من شأنه أن يتدنى بمستوى إنتاجيتهن ويهمِّش ما يقمن به.
وهكذا سيكون من الطبيعي لأية استراتيجيات تنموية تهمل قدرات النسوة وتحد من أدوارهن وتهمّش تقييمها، أنْ تحدّ بالنتيجة من إمكانات تقدم المجتمع وتطوره. بينما سيتطلب تغيير الموقف من المرأة والارتقاء بدورها وبالتعامل الإنساني المنصف معها، سيتطلب إعادة توجيه خطط التنمية وإزالة حال التهميش والنظر السلبي تجاه إنتاجية المرأة وقيمتها الفعلية اقتصاديا اجتماعيا.
من أجل ذلك بالتحديد، ينبغي أن تتركز استراتيجيات التنمية على إيجاد بيئة تستطيع فيها المرأة أسوة بالرجل تحقيق النجاحات المادية الملموسة، وهو الأمر الذي يعني توفير برامج تنمية لمشاركة المرأة في إدارة موارد الأسرة وتحسين إنتاجيتها ودرجة تقييمها؛ مع إقرار حقوقها الاجتماعية وتلبيتها، والاتساع بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، بما تمثله من موقع بارز في سلم الأولويات التنموية.
وإنّ هذا يقتضي التفاتا مخصوصا لقراءة إحصاءات مساهمة النسوة في سوق العمل وقراءته بما يلبي وضع الخطط المدروسة بشأنه، وطبعا يقتضي تأسيسا نوعيا لشخصية المرأة من جهة الرعاية الصحية المجتمعية ومن جهة مستوى التعليم وملاءمته لمستويات التقدم العالي دوليا.
ومن المهم أن يبحث راسم الخطط الاستراتيجية لا التنفيذ الشكلي لبعض الأرقام التي وردت بالدستور من قبيل نسبة التمثيل السياسي النسوي في الهيآت الرسمية؛ وإنما يجب البحث في (نوعية) الدور الذي يمكن أن ترتقي به المرأة وتلعبه في تكوين قوة العمل ...
إننا طوال العشر العجاف التي عانى فيها العراق بكل المجالات، وجدنا المرأة العراقية ليس في داخل الوطن حسب بل حتى في المهجر، وجدناها قد خضعت لأتعس ظروف الاستغلال وتمّ إغفالها أو إقصاء دورها الفعلي اقتصاديا مجتمعيا، ولعل أبرز عامل وقف وراء هذه النظرة السلبية أو الموقف السلبي، كان يكمن في الثقافة الذكورية من جهة وفي مفردة التبرير الأخلاقي الذي عادة ما كان يتم إسقاط القدسية الدينية عليه بمعنى تغليف كل موقف سبلي بذريعة دينية، وهذه التبريرات وذرائعها إن هي إلا ادعاءات ومزاعم ثقافة مرضية لا علاقة لها بجوهر الدين حقيقة؛ وبالنتيجة كانت الأمور تسير دوما باتجاهات إقصائية استغلالية، تتعارض والتنمية...
ولكن كيف يمكننا تحقيق استراتيجيات مناسبة تشمل موقفا إيجابيا مناسبا تجاه المرأة ودورها في الحياة العامة وفي خطط التنية الملموسة..؟
قد نستطيع هنا إجمال الأمر في محاور بمستويات وتصنيفات متنوعة الأسس، ربما توافر لآخرين فرص ترتيبها بطريقة أكثر تفصيلا وتكاملا.. وهذا بعض ما مطلوب هنا:
فأولا: ينبغي تحديث الخطط وتحسين آليات الأداء حيث إيجاد فرص ملائمة للقوى البشرية النسوية مع توفير الأجواء العامة المناسبة لأفضل استثمار في تلك الفرص بطريقة تكاملية سليمة...
وثانيا: يلزم تطوير آليات إدارة الاستثمار والعمل وتنسيق الفعاليات؛ الأمر الذي يتطلب إيكال المهمة إلى نسوة ذوات خبرة وكفاية، فضلا عن أشكال الدعم المادي والأدبي المعنوي المنتظر في هذا الباب...
وثالثا: يلزم تطوير دور القطاع الأهلي وبشكل أوسع اصطلاحا، القطاع الخاص، سواء بإصدار تراخيص ممارسة الأنشطة الاقتصادية أم بتوفير وسائل الحماية والدفاع عن حق العمل بمجابهة النظرة الدونية التي تتمترس بتقاليد مجتمعية سلبية مرضية معشعشة في أجوائنا.
وتجدر الإشارة إلى أن جملة القرارات التي صدرت في إطار وزارة المرأة أم في إطار المؤسسة الحكومية ببغداد وحتى في القطاع الخاص: أما تم تفريغها من مضامينها أو جاءت شكلية شعاراتية للمزايدة أو أنها كانت تستجيب لضيم وظلم من ثقافة ذكورية مترسبة تفاقمت في ظل توجهات عامة سادت في العقد الماضي بحجج واهية؛ على طريقة تكفير المجتمع والاتجاه به إلى دين يمتلئ بطقسيات مفتعلة مصطنعة ودخيلة على المجتمع العراقي.
وهكذا فإن الملاحظة الرابعة المنتظرة تتمثل في قراءة إحصائية دقيقة تكشف الحجم كميا وتفاصيل مستوياته النوعية وتصنيفات مجالاته وتوزيعه وانتشاره سواء جغرافيا أم مهنيا...
وعليه فإنَّ تعزيز رصد البيانات المتعلقة بالمرأة وجمعها وتحليلها مع واجب تحديثها باستمرار؛ يبقى مهمة تأسيسية رئيسة في صياغة السياسات والاستراتيجيات، بخاصة عندما يكون الحصول على تلك البيانات بالاستناد إلى الأدلة الملموسة الميدانية العملية وإلى الحقوق الثابتة.
وخامسا: ينبغي تشجيع الحوارات والمناقشات التنسيقية التنظيمية في السياسات المشتركة بين ميادين العمل وحقوله وقضاياه المرتبطة بالمرأة وشؤونها ذات الأولوية وما يجابهها والمجتمع برمته من تحديات يجب مواجهتها ووضع الخطط الخاصة بمعالجتها وحلها، مع دعمها بالقوانين والتشريعات من خلال فعل برلماني مخصوص.
سادسا: مطلوب لاستراتيجية تنموية تلتفت إلى المرأة العراقية بتقديم دعم استثنائي لصياغة السياسة التنموية بوساطة تفعيل لجنة وطنية متخصصة تتألف بعضويتها من ممثلي الوزارات والجامعات ومراكز البحث العلمي ومن ممثلي منظمات المجتمع المدني وبالتأكيد من ممثلي ذات المؤسسات النظيرة بتجاريبها الكوردستانية المميزة.
سابعا: العمل بثبات على دعم مراكز البحث العلمي والمؤسسات الجامعية والأكاديمية بعامة بقصد إنجاز الدراسات والتحليلات الخاصة بقضيتنا هذه وتحديد موقعها ودورها في التنمية.. على سبيل المثال بتبني برامج بحثية مخصوصة أو فتح برامج الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه بما يعالج القضية علميا بدقة وموضوعية مناسبة، ويفعّل دورها في التنمية واستراتيجياتها.
وبالخلاصة الموجزة أقول:
إن التغييرات المنتظرة لرسم الاستراتيجيات التنموية السليمة بخاصة بشأن المرأة ودورها تبقى بحاجة لتوسيع قاعدة الاختيارات أمام المرأة كما تتطلب خدمات ورعاية مجتمعية من قبيل الصحة العامة والرعاية بشأن الإنجاب والعناية بالولادات الحديثة مع العمل على جعل النسوة في شراكة تقوم على مبدأ المساواة في التنمية ما يقتضي تخصيص نسب اهتمام وموازنات تتناسب والاتجاه الذي يُعنى بقوة العمل التي تمثلها المرأة وقيمة مساهمتها الفعلية ومحاولات تطويرها وتنميتها في إطار استراتيجيات التنمية الشاملة.