• Sunday, 05 May 2024
logo

تخبط السياسة الاقتصادية للحكومة الاتحادية بالعراق

تخبط السياسة الاقتصادية للحكومة الاتحادية بالعراق
يواجه الشعب العراقي محناً كثيرة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والبيئية والعدالة الاجتماعية وفي العلاقات الداخلية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وبين الأولى ومجالس المحافظات، وكذلك في العلاقات الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وهي غالباً ما تهدد بالتصعيد والتفاقم، إذ حالما تنفرج قليلاً حتى يظهر من يعيد العلاقات إلى أبعد من نقطة الصفر. ويواجه المجتمع العراقي فاقة فكرية وسياسية مرعبة لدى النخب الحاكمة التي كانت وما تزال تتسبب بخلق كوارث متواصلة ومدمرة للحياة الاعتيادية للفرد العراقي وللغالبية العظمى من المجتمع. فهي عاجزة عن التفكير المستقل والمتنور والمسؤول والتخلي عن مصالحها الذاتية لصالح المجتمع وتحسين مستوى حياته ومعيشته. فالسياسات التي تمارسها الحكومة الحالية لا يمكن وصفها بالغبية والذاتية حسب، بل وبمضامينها السيئة والخاطئة والمليئة بالعثرات، إضافة إلى وجهتها غير العقلانية المتعارضة مع مصالح العراق وسيادته واستقلاله وبدورها المفرق للصفوف على المستويات القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية في آن واحد. إنها السياسات المفتتة لهوية المواطنة الحرة والمتساوية لصالح الهويات الفرعية المتصارعة والمكرسة للانشقاق والصراع والنزاع في المجتمع. ويبدو إن سياسة "فرق تسد"، التي مارسها المستعمرون بالعراق وفي جميع الدول التي سيطرت عليها الدول الاستعمارية عقوداً طويلة، قد انتقلت عبر انقلابات عسكرية أو عبر المحتل الأمريكي ونهج اللبرالية الجديدة إلى النخب الحاكمة بالعراق لكي تحافظ على وجودها في الحكم أطول فترة ممكنة، لأن الكثير من هذه النخب ما يزال يرى بأنه قد جاء إلى السلطة بغفلة من الزمن فلا بد له أن يحتفظ بها حتى وأن امتلأ العراق بالمقابر الجماعية. لقد حدث هذا في زمن البعث "جئنا لنبقى!"، ويحصل هذا اليوم "أخذناها بعد ما ننطيها!". إنها لغة المستبدين المناوئين للديمقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان والمجتمع!!! والعراق لا يعاني من الطائفية الحاكمة حسب، بل ومن نشاط قوى الإرهاب والتكفيريين الدمويين الذين لا يريدون للبلاد الاستقرار والأمن والتطور. فالشعب العراقي يسحق بين رحى الإرهاب الدموي والطائفية المفرقة للصفوف، إضافة إلى التدخلات الفظة والشرسة من جانب دول الجوار.
وإذا كان الشعب العراقي يعاني من السياسات المعادية للديمقراطية التي يمارسها النظام الطائفي السائد حالياً ومن الإرهاب المعطل المستنزف للقوى والموارد، فأن السياسة الاقتصادية للنظام الحالي أكثر بؤساً وفاقة وأكثر تخبطاً وهدراً للموارد المالية والوقت. نحن أمام واقع اقتصادي مزري ومتفاقم في تخلفه وتشوهه. فاقتصاديو العراق يتحدثون ويبحثون في أسبابه وسبل الخلاص منه، وهو أمر مطلوب لا شك في ذلك. ولكن الخلل في البعض الذي لا يريد أن يرى الواقع الاقتصادي العراقي الراهن باعتباره نتاجاً منطقياً للواقع السياسي ولبنية السلطة الطبقية الرثة، وأن الفكر المتخلف الذي يقود السياسة في البلاد هو الذي يحدد طبيعة ومشكلات الاقتصاد العراقي. وهذا يعني دون أدنى شك بأن تغيير الاقتصاد العراقي يرتبط عضوياً بالتغيير السياسي المنشود، بالتخلص من الطائفية والحكام الطائفيين أياً كانت الطائفة التي ينتسبون إليها ويتحدثون زوراً وبهتاناً بأسماء المذاهب "المؤمنين!" بها من جهة، ومن الإرهاب الدموي التكفيري الذي تقوده قوى طائفية متطرفة وإرهابية محلية وإقليمية ودولية من جهة أخرى. وعلينا أن نشخص الحقيقة التي لا غبار عليها والقائلة بأن السياسة والاقتصاد هما وجهان لعملة واحدة.
كانت جميع قوى المعارضة قبل وصولها للسلطة تتحدث عن الاستبداد والقسوة والقمع وغياب العدالة الاجتماعية وتخلف الاقتصاد وتشوهه وريعيته. ويطرح السؤال التالي نفسه علينا: هل غيّرت هذه القوى ما عارضته في سياسات النظام السابق، أم إنها واصلت السياسات ذاتها، وبشكل خاص في تغييب الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفاقم ريعية الاقتصاد وتخلفه؟ لنتابع الإجابة عن هذا السؤال في مناقشات خبراء الاقتصاد والمال بالعراق في ندوة عقدها معهد الإنماء والتقدم ما يلي: أكد رئيس المعهد ووزير التخطيط الأسبق الدكتور مهدي الحافظ بهذا الصدد ما يلي: " منذ التغيير الذي وقع في العراق وأدى إلى استبدال النظام السياسي القديم بنظام جديد بقيت للأسف الشديد المعالم والأسس القديمة للبناء الاقتصادي على حالها ، بل إن بعضها قد تفاقم واتسع بحيث لا يمكن أن تجري مقارنة موضوعية مقنعة بين الأداء الاقتصادي في المرحلتين ، ولعل دور النفط أصبح أكثر ضرراً في سلم الموارد المالية والتنمية الاقتصادية ."
نعم، لقد أصبح دور النفط أكثر ضرراً لأسباب ترتبط بعوامل كثيرة نشير إلى بعض منها فيما يلي:
1. المزيد من الإنتاج دون أن يستطيع العراق استخدام تلك الموارد في التنمية الاقتصادية بسبب علد قدرته إدارياً وفنياً على النهوض بهذه المهمة.
2. وجود هذه الموارد المالية الكبيرة تدفع بالعراق بعيداً عن التنمية الفعلية التي يحتاجها العراق وهي التنمية الصناعية وتحديث الزراعة، وبالتالي تفاقم حالة التخلف والتشوه والريعية النفطية في بنية الاقتصاد العراقي.
3. عجز العراق عن توفير فرص عمل جديدة للزيادة السنوية المتواصلة في عدد الداخلين لسوق العمل بالعراق بسبب غياب التنمية الوطنية.
4. الانكشاف المتزايد على الخارج مما يعمق التبعية والعجز عن مواجهة أي وضع سياسي يماثل ما حصل حين رفض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق. وقد ارتفعت استيرادات العراق منذ العام 2003 حتى العام 2013 على النحو التالي، كما أشار إلى ذلك الخبير الاقتصادي ومستشار البك الدولي لإعادة هيكلة النظام المصرفي بالعراق حيث ورد في ذات الندوة ما يلي: ان حجم الاستيراد ارتفع من حوالي 9,6 مليار دولار عام 2003 إلى ما يزيد عن 58 مليار دولار عام 2010، والى أكثر من 64 مليار دولار عام 2011، والى 75.2 في عام 2012، وتشمل الاستيراد الحكومي والخاص والخدمات، وهي في تصاعد مستمر".
5. تفاقم حالة الفساد المالي التي يتعرض لها المال العام الناتج عن زيادة استخراج وتصدير النفط الخام، حيث تشير منظمة الشفافية الدولية إلى احتلال العراق واحد من المراتب الأربعة الأولى في سلم سيادة الفساد المالي على الصعيد العالمي.
6. كما إن التفريط بهذه الثروة ووفق الحالة الراهنة يحرم الأجيال القادمة من أبناء وبنات العراق من الاستفادة الجيدة من ثروة العراق النفطية الناضبة.
وجاء في تقرير المعهد عن الندوة تأكيد الدكتور ماجد الصوري الواقع المزري الذي يعاني منه القطاع المصرفي العراقي والمشاكل الكبيرة التي يواجهها وحاجته الماسة إلى إجراء تغيير جذري في هيكل ونشاط النظام المصرفي العراقي باتجاهين: "إن الإصلاح القانوني للقطاع المصرفي سيؤدي إلى تحسين أداء المصارف العراقية وتحسين سمعتها المحلية والعالمية، إلا انه لن يعمل على تفعيل دورها الاقتصادي، ما لم يتم إجراء التعديلات اللازمة في قانون المصارف التي تنسجم مع متطلبات الاقتصاد العراقي المتنامية. .. داعيا إلى التمييز بين نشاط المصارف على أساس الأهداف التي تنشأ من اجلها، وتحديد مجالات عملها وفقا" لمتطلبات المرحلة على أساس مصارف تجارية ذات نشاط صيرفي ومصارف استثمارية: يتحدد عملها في مجال الاستثمار .."
الاقتصاديون يعرفون بأن السياسة المالية، بما فيها السياسة النقدية، هي الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية. وبما أن السياسة الاقتصادية تعاني من غياب فعلي لأي إستراتيجية تنموية بالبلاد وتتخبط في ظلام ، فن هذا الواقع ينعكس بدوره على السياسة المالية والمصرفية التي شخصت بشكل دقيق في هذه الندوة والتي أشار إلى ذلك بوضوح الخبير المالي والمصرفي الدكتور مظهر محمد صالح بقوله: " إن مشروع هيكلة المصارف فشلت لأسباب غير معروفة .. مبيناً إن المصارف الأهلية محاصرة بأنظمة وقوانين قديمة وان الرقابة لا قيمة لها.. متسائلاً ما علاقة السوق المصرفية فيما بينها.. فالسوق الحكومية لا تتكامل مع السوق الخاصة.. كما إن صكوك المصارف الخاصة غير مقبولة لدى الحكومية هذه الظروف أدت إلى حدوث انشقاق داخل السوق هذا الانشقاق دفع رؤوس الأموال إلى الهروب خارج العراق نتيجة انعدام الثقة التي حركت بدورها رؤوس الأموال القصيرة الأجل." ثم اقترح الدكتور صالح " الحلول لتحسين الواقع المصرفي في العراق .. مشي إلى انه ما لم يصدر قانون مصارف الاستثمار فلابد من تعديل المادة 28 لمساعدة المصارف الأهلية ومنح تلك المصارف قرض تشجيعي لمساعدتها على حل مشاكلها يرافق ذلك إصدار قانون المصارف الحكومية.. ودعا صالح إلى تشكيل شركة لضمان الودائع العراقية وإلغاء القيود على الصكوك التي تصدرها المصارف الخاصة وإنشاء معهد لإعداد مراقبي صيرفة متخصصين وإخضاع مصارف إقليم كردستان إلى الرقابة أسوة بباقي مصارف العراق مع ضرورة التفكير بإنشاء هيئة عليا للرقابة المصرفية."
إن العراق يعاني اليوم من علل كثيرة جداً، ولكن أخطر تلك العلل السياسية التي تقود إلى عواقب في جميع مجالات الحياة العراقية، هي سيادة الطائفية السياسية في الحكم وفي قيام نظام الحكم على المحاصصة الطائفية والصراع الدائم على السلطة والمال والنفوذ الاجتماعي أو الجاه، بدلاً من استناد الحكم القائم على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، واعتماد مصالح الشعب بدلاً من المصالح الذاتية الأنانية للحكام.
Top