• Sunday, 05 May 2024
logo

السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة

السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة
تؤكد الدراسات السياسية والاقتصادية على وحدة العملية السياسية والاقتصادية وتجلياتهما على الواقع الاجتماعي والثقافي والبيئي. فالسياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة, رغم إمكانية تفكيكهما وإعادة تشكيلهما بهدف معرفة دور كل منهما في الواقع المعاش في هذا البلد أو ذاك. والعراق لا يختلف عن بقية الدول في هذا المجال.
حين صرح وزير التخطيط العراقي مؤكداً فشل تنفيذ الحد الأدنى من الخطة الاقتصادية الخدمية لم يتفاجأ أي عراقي يعي ما يجري في العراق. ولكنه بقوله إن محافظات كردستان العراق كانت الأولى في التنفيذ. وهو أمر كان معروفاً للغالبية العظمى من شعب العراق, رغم النواقص التي تحيط بغياب وجود استثمارات إنتاجية على صعيد العراق كله.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن الناس الواعين هو: لماذا فشلت الخطة؟ والجواب لا يحتاج إلا إلى رؤية واقعية لما يجري في البلاد ويتلخص السبب في الفشل السياسي الذي يعاني منه نظام المحاصصة الطائفية وجمهرة السياسيين الطائفيين المتصارعين على تحقق السلطة والمال والجاه الخاص لهم وليس للشعب العراقي الذي لم يعد يحظى بأي قدر من اهتمام هذه الجمهرة الفاشلة سياسياً.
الدلائل كلها تشير إلى تراجع شديد في الحريات النسبية التي سادت في العراق بعد سقوط الدكتاتورية. فالحاكم أصبح فردياً والحكم غابت عنه الحكمة وراح يعتمد على الأجهزة الأمنية والحلول العسكرية لمعالجة مطالب الفئات الاجتماعية المختلفة بدلاً من الإصغاء لها والاستجابة لها فعمق الخلافات والصراعات وساهم في مساعدة القوى المتطرفة والإرهابية على النفوذ إلى صفوف المحتجين والمطالبين بحقوقهم المشروعة والعادلة عموماً. والنظام يمارس بلا حياء التمييز بين الهويات الدينية والطائفية ويعتمد المصالح الحزبية الضيقة بمواجهة مصالح الشعب الأساسية. ومن هنا برزت للعيان احتمالات نشوء مستلزمات وقوع كارثة الصراع والحرب الطائفية اللعينة.
ومن هنا بدأ الإرهابيون والبعثيون القتلة والمتطرفون يكثفون هجماتهم على الفئات الفقيرة وعلى مراكز الشرطة ونقاط التفتيش ويصعدون من حملات الاختطاف والتغييب والاغتيال. وفي فترة قصيرة استشهد المئات من الناس وجرح أضعافهم أو أصيبوا بعوق يشلهم عن العمل.
وفي ظل هذه الأوضاع تفككت التحالفات السابقة وتصارعت في ما بينها ولم تنشأ حتى الآن تحالفات جديدة لصعوبة توحيد الأهداف المتعارضة التي تسعى الأطراف الحاكمة لتحقيقها لصالحها وفي غير مصلحة الآخرين. إن العراق يعيش مخاضاً سياسياً عسيرا لا يمكن التنبؤ بعواقبه, ولكن يحمل معه الكثير من الموت والخراب للناس الأبرياء الذين عانوا الأمرين على أيدي الحكم الدكتاتوري السابق, وإذا بهم يواجهون تطوراً يدفع بذات الاتجاه ولكن تحت شعارات طائفية يمينية متطرفة بدلاً من شعارات قومية يمينية متطرفة. فالحكومة الراهنة برئاسة نوري المالكي تلتزم خطاً طائفياً متشدداً, وهي مارست خلال السنوات الخمس الأخيرة نهجاً تصعيدياً بهدف تشديد الاصطفاف والاستقطاب الطائفيين المقيتين من اجل الفوز في انتخابات مجالس المحافظات للتصويت لصالح حزب الدعوة بشكل خاص وبقية القوى والأحزاب الشيعية وستواصل هذا النهج بهدف الفوز في الانتخابات القادمة للبرلمان العراقي في العام 2014. وفي المقابل لم يقصر أتباع القائمة العراقية والأحزاب الإسلامية السياسية والقوى المتطرفة عن ممارسة ذات السياسة بتحقيق الاصطفاف السني إلى جانبها. ولا يمكن لأحد تبرئة هذه القوى المتنفذة في البلاد عن مسؤوليتها المباشرة عما يجري في البلاد وعن موت الأبرياء من الناس على أيدي الإرهابيين والبعثيين المسلحين وهيئة علماء المسلمين السنة. فهل في مثل هذه الأوضاع يمكن وضع وتنفيذ خطة اقتصادية وطنية لصالح الشعب والاقتصاد الوطني؟
يشير واقع الاقتصاد العراقي إلى ستة اتجاهات أساسية في سياسة الحكم الاقتصادية, وهي:
1. استمرار الحكم في الاعتماد على قطاع النفط الاستخراجي في تحقيق أقصى الموارد المالية استخراجاً وتصديراً وعبر الاتفاق على المزيد من العقود غير الضرورية والمضرة باقتصاد العراق على المدى المتوسط والبعيد.
2. الابتعاد الكلي عن التصنيع وتحديث الزراعة وتوظيف الاستثمارات فيهما, إضافة إلى عدم تأمين مستلزمات تنمية القطاع الخاص, وخاصة البنية التحتية, ليمارس دوره في هذه القطاعات الإنتاجية التي تحقق التراكم الرأسمالي المعظم للثروة الوطنية وتوفير فرص عمل جديدة وتغيير بنية الدخل القومي وزيادة معدلات النمو وتحسين طبيعة السيولة النقدية.
3. إغراق الأسواق المحلية بالسلع الصناعية والزراعية المستوردة مما أثر ويؤثر حتى على الصناعات الصغيرة والمنتجات الزراعية المحلية والتي ترهق ميزانية الدولة وتنمي النزعة الاستهلاكية.
4. العجز الفاضح عن إعادة بناء وتطوير البنية التحتية في المجالات كافة وخاصة الطاقة الكهربائية ومجالات التعليم المهني والفني ...الخ.
5. العجز عن محاربة الفساد المالي, إضافة على تفاقم الفساد الإداري والبطالة المقنعة في أجهزة الإدارة والدولة.
6. الهيمنة الحكومية المتمثلة بشخص الحاكم الأول على الهيئات المستقلة التي أقرها الدستور, وبشكل خاص البنك المركزي واحتياطي هذا البنك, والمفوضية المستقلة للانتخابات وتراجع استقلالية القضاء العراقي والصراع المحتدم بين قوى مجلس النواب والحكومة الحالية.
إن هذه السياسة غير العقلانية تكرس وتعمق مجموعة من الظواهر السلبية في الاقتصاد العراقي والمجتمع والتي يمكن بلورتها في نقاط أساسية هي:
1. بقاء الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً نفطياً واستهلاكياً وغير منتج, إضافة إلى بقائه متخلفاً في تحقيق الخدمات الأساسية الضرورية للمجتمع. ومثل هذه البنية الاقتصادية الريعية تشكل أرضية صالحة لبروز الاستبداد ومصادرة الديمقراطية والحريات العامة والفردية.
2. وهذه الوجهة في السياسة الاقتصادية تجعل الاقتصاد العراقي عاجزاً عن تحقيق التغيير اللازم في البنية الطبقية للمجتمع, البنية المشوهة والمتخلفة حالياً. وهي التي تؤثر بدورها على ضعف وعي الإنسان العراقي الفردي والجمعي لغياب جدي للبرجوازية الصناعية المتوسطة والطبقة العاملة الصناعية, وهما حاملتا المجتمع المدني المنشود في العراق.
3. وقد تسببت السياسات الاقتصادية السابقة للنظم التي حكمت العراق خلال الخمسين سنة المنصرمة إلى انكشاف شديد للاقتصاد العراقي على الخارج وبرزت مخاطر ذلك بوضوح كبير أثناء الحروب التي خاضتها الدكتاتورية. واليوم فقد اصبح الانكشاف تاماً وكاملاً وهو الذي يزيد من فقدان العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية.
4. وهذا الواقع يزيد من مصاعب العراق الاجتماعية والنفسية بسبب تفاقم البطالة المكشوفة وتزايد حجم البطالة المقنعة والمكدسين بنسبة عالية جداً في أجهزة الدولة والإدارات المحلية.
5. ويترتب عن ذلك استمرار وجود نسبة عالية من السكان تعيش تحت خطر الفقر المعروف دولياً أو على أو فوقه بقليل, مما يعمق ويشدد من المشكلات الاجتماعية إضافة إلى مساهمته في توفير أرضية صالحة لنشاط الإرهابيين وكسبهم لمجموعات من الناس المعوزين.
6. وفي مثل هذه الأوضاع وحيث يسود الفساد المالي يتفاقم التناقض الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء ويحتدم تدريجاً الصراع السياسي, إذ إن فرص الاغتناء غير المشروع ونشوء أصحاب الملايين والمليارات من الدولارات بين اوساط النخب الحاكمة والمقاولات والعقارات وموقعي العقود في الاقتصاد والسلاح وغيرها متوفرة على نطاق واسع جداً.
7. والخطورة الكبرى في مثل هذه الأوضاع يكمن في تنامي قدرة الدول المجاورة والدول الكبرى على التدخل المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية للعراق, خاصة وإنها تمتلك قواعد سياسية واجتماعية وإمكانيات ومصالح اقتصادية تؤهلها في التأثير على مسيرة العراق الراهنة باتجاه مناهض لمصالح الشعب العراق ووحدته الوطنية.
والسؤال الذي يقلق الناس بالعراق ويقض مضاجعهم هو: كيف يمكن الخلاص من هذا الواقع؟
ولكن الإجابة عن هذا السؤال هي في أيدي الناس أنفسهم, ففي مقدورهم تغيير ميزان القوى عبر الانتخابات والتصويت لغير الحاكمين ممن يرشح لها ويتمتع بمصداقية وبعيد عن الطائفية السياسية التي تمارسها النخب الحاكمة حالياً. وفي هذه النقطة يسعى الحكام الحاليون إلى تكريس الصراع الطائفي وتعميقه ودفعه أكثر فأكثر في صفوف الشعب, بل وأحياناً غير قليلة في صفوف المتعلمين ومن يدعون الثقافة. وإبقاء المجتمع متخلفاً اقتصادياً وخاضعاً للهيمنة العشائرية وعاداتها وتقاليدها الموروثة والبالية, إضافة إلى تنشيط دور المؤسسة الدينية الفعلي وليس ما يظهر إلى الناس.
إن الخلاص من هذا الواقع سوف لن يكون قريباً ويحتاج إلى عمل دؤوب من القوى المدنية والديمقراطية واللبرالية, وكذلك تلك القوى الواعية لمخاطر الوضع من القوى الإسلامية الجديدة التي لا تريد ربط الدين بالدولة والسياسة, لتشكيل جبهة وطنية واسعة تساهم في تعزيز قوى التيار الديمقراطية وترفده بقدرات جديدة وإضافية يحتاجها النضال من أجل تغيير السياسات التي تمارسها القوى الحاكمة حالياً.
إن على القوى المعارضة المشاركة في ما يطلق عليه بالعملية السياسية المعطلة حالياً أن تدرك جسامة المسؤولية التي تتحملها, وكذلك بعض الأطراف الديمقراطية التي تساهم في الحكم, ولكنها تمارس النقد ضد سياسات الحاكم الفرد, وأن تعي أهمية عملها ونضالها المشترك لتحقيق التغيير المنشود باتجاه وضع العراق على طريق المدنية والحرية والديمقراطية والخلاص من الأوضاع الراهنة.
إن تحقيق مكاسب في الانتخابات المحلية والعامة مهم جداً دون أدنى شك, وما تحقق لقوى التيار الديمقراطي وبعض الشخصيات الديمقراطية ينبغي تطويره والبناء عليه, ولكن الأهم من كل ذلك هو الوصول إلى فئات الشعب وشرائحه المختلفة وتبني أوضاعها وأهدافها وحاجاتها الملموسة والدفاع عنها لكي تشارك في النضال من أجل تحقيق ما تسعى إليه. إن مهمة الدخول القوي في النقاش ضد قوى الإسلام السياسي المتطرفة وتلك التي تمارس الطائفية السياسية والتي تريد ربط الدين بالدولة ضروري جداً لكي يمكن المشاركة في رفع وعي الناس بما يجري وبأكاذيب ووعود من كان في الحكم ولم ينفذ ما التزم به خلال السنوات المنصرمة. وأكبر دليل على ذلك اعتراف وزير التخطيط في الحكومة الاتحادية بفشل الحكومة في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي وضعتها في الخطة الخدمية دع عنك غياب فعلي وكامل لخطط الاستثمار والتنمية الصناعية والزراعية.
إن فئات الشعب هي التي يفترض بها أن تتحمل مسؤوليتها وتخوض النضال لصالح أهدافها المشروعة كما تتحمل القوى الديمقراطية بمختلف أجنحتها مسؤولية قيادة هذا النضال صوب تحقيق التغيير السلمي والديمقراطي المنشود بدلاً من السماح بسقوط المجتمع العراقي في حرب طائفية مدمرة تحرق الأخضر واليابس وتكلف عشرات ألوف الناس حياتهم.
Top