في التعددية
الكائنات في المنظور التجريبي علائق و"بيْنِيات" لا تحيل إلى أطرافها المكوّنة. فالوجود الفعلي هو للروابط، ما كان جان فال يعبر عنه بقوله: "الوجود للمعيات et وليس للماهيات est". العلائق لا تردّ إلى أطرافها. العلاقة هي الأصل في الذات، وليس العكس. العلائق هي ما يُوَلد العناصر، وليست هي ما يتولد بيْن العناصر. هناك أوْلوية للعلاقات والبيْنيات على الأطراف والحدود. فلا شيء يتحقق بذاته، كل عنصر يتولد عما يتجاوزه. ولا وجود لكل موحِّد. كل ما يوجد هو الإنفتاح اللانهائي وحركة التداخل والتعدد التي لا تنقطع.
هذا المفهوم عن الكائن من حيث هو ترابط ظرفي حركي لا يخضع لأيّ مبدأ قار، لا بدّ وأن يدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم الهوية ذاته. وربما كان هذا هوالسبب في تعقد مسألة التعددية، إذ أن طرحها لا بد وأن يجر معه طرح مفهومات عدة لعل أهمها مسألة الهوية ذاتها. فنحن لا يمكننا مطلقا أن نرفع شعار التعددية، ونحتفظ في الوقت ذاته للهوية بمعناها التقليدي. وما دمنا ننظر إلى الهوية كمعطى جاهز، ومحددات قارة ، فلا يمكننا أن نتبنى "التعددية".
فإذا نحن سلمنا بما قلناه عن الكائن كترابط ظرفي حركي، تصبح الهوية مفهوما ثانويا، أعني يأتي ثانية، ما دامت توليفا بين أطراف. ورغم ذلك، فإن الإختيار لن يطرح هنا بين إثبات للهوية وبين نفيها، وإنما بين هوية مفتوحة على إمكانات متعددة، وأخرى محددة تحديدا أزليا. ستغدو الهوية هنا جمعا يقال على المفرد. إنها، على حد قول دولوز، تركيب جغرافي، وليست نشأة تاريخية.
لن تعود المسألة الأساسية هي تحرير المتعدّد، وإنما توجيه الفكر نحو مفهوم متجدّد للواحد.لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن التقابل يقوم أساسا بين الهوية وبين التعدّد، وإنما بين هذا الأخير وبين مفهوم الكثرة. فالتعدّد لا يقابل الوحدة، وإنما يقابل الكثرة.
الكثرة هي تعددية "الكم المنفصل"، وهي تعددية حسابية لكونها تقوم أساسا على آلية توليد مجموعة الأعداد الطبيعية نفسها، و أعني عن طريق إضافة وحَدة إلى الوحَدات، إضافة صوت إلى الأصوات، لغة إلى اللغات، رأي إلى الآراء، حزب إلى الأحزاب.
فإذا كانت الكثرة تقوم على مفهوم الوحَدة و تنحل إلى "تعداد"، إذا كانت الكثرة كثرة من الوحَدات، فان التعددية تروم خلخلة مفهوم الوحْدة ذاته، و تفكيك الثنائي وحدة/تعدد. الكثرة كثرة "خارجية"، أما التعددية فتقيم "داخل" الوحْدة، فتجعل الاتصال ينطوي على انفصال، و الوحدة تشمل حركة و تضم أطرافا. فليست علاقة الوحْدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء، أو المجموع بمكوّناته، وإنما كعلاقة الهوية بالإختلاف.
التوحيد في الكثرة توحيد اختزالي، يُرجع العناصر جميعَها إلى عنصر أساس، و يردها إليه و"يختزلها" فيه (كما تختزل الكسور في الحساب، فتُردّ إلى كسور مبسطة كما يقال)، بحيث لا تغدو العناصر الأخرى تفردات تقوم جنبا إلى جنب، و إنما مشتقات تنبع من مصدر، و فروعا تصدر عن أصل) هو أبسط الكسور اختزالا في علم العدد). هذا التوحيد اختزال réduction لأنه يميّز في الكثير بين أصل و فروع، بين كائن مبسط ومركبات، بين مرتبة أساس و مراتب ثانوية، فيرد هذه إلى تلك.
أما التعددية فبما أنها ليست حسابية و لا تنتمي لعلم النظام ( أي علم العدد)، فإنها لا تجعل عناصرها "تنتظم" في مراتب، وإنما "تمتدّ" في فضاء يترك لكل عنصر نصيبه من التميّز، و يسمح للتفرّدات بنصيبها في الوجود. ها هنا تكون الوحدة من الحيوية بحيث تستطيع أن تستوعب التعدّد، و يصبح التعدّد مفهوما باطنيا "يصدّع الوحدة و يضم أطرافها"، فيغدو إنسان التعددية ليس ذاك الذي يحمل عدة جوازات، و يتكلم عدة لغات، و إنما ذلك الكائن السّندبادي الذي "يوجد" بين لغات، و بين ثقافات.
نفهم والحالة هذه أن يرتبط مفهوم التعدد بـ "مفهوم" الإختلاف في الخطاب المعاصر، مادام كل منهما "يصدّع الوحدة ويضم أطرافها".
لا يعني التعدّد إذاً التوالد اللامنقطع. إنه لا يفيد الكثرة الكثيرة، ففي المجال السياسي على سبيل المثال، ليس المهمّ تكاثر الأحزاب وتوالدها، المهم أن يكون الحزب من الحيوية بحيث يستطيع أن يستوعب تعدد الأصوات والآراء. التعددية مفهوم باطني، وليست مفهوما خارجيا. تعدّد الآراء ليس كثرتها، وإنما عدم تصلبها وتحجرها، إنه تصدعها و"انفجارها"، وبالمثل، فليس تعدد الأحزاب توالدها اللامنقطع، وقوة الحزب وتعدديته هو أن يمكنك من أن تقيم "فيه" مخالفا، وليس خارجه منافسا.
بهذا المعنى تغدو التعددية خلاصا وسبيلا الى الإنفصال عن الذات، شريطة ألا ننظر إليها بطبيعة الحال على أنها مجرد تكثير وإضافة واحد إلى الآحاد. الأمر يمكن أن يقاس هنا على التعدد اللغوي الذي ليس، كما نعلم، تساكنا بين عدة أشكال للأحادية اللغوية plusieurs monolinguismes. كتب دولوز:" إن علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغة بذاتها: علينا أن نحوز لغة أقلية داخل لغتنا نفسها بالذات ، علينا أن نستخدم لغتنا نفسها استخداما أقليا. ليست التعددية اللغوية حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانسا في ذاته ، فحسب ، بل هي، أوَّلا، خط الهروب أو التنويع الذي يمسّ كل نظام مانعا إياه من التجانس. لا أن نتكلم كإيرلندي أو رومانى بلغة أخرى سوى لغتنا، بل بالعكس ، أن نتكلم في لغتنا نفسها كأجنبي".