نيتشه: السطوح والأعماق
على ذكر الإغريق، لا يمكننا إلا أن نستحضر قولة هيراقليط :"ما يميّز الظهور هو الإختفاء". ذلك أن الحكيم اليوناني يرى أن الوجود، بما هو حقيقة وانكشاف ولا-اختفاء (آليتيا)، يُخفي عندما يُظهر. قوة ظهور الأشياء، وهي ما أطلق عليه الإغريق إسم الوجود، تختفي لتفوّض أمرها، و"ترسل" ممثلا عنها يمثلها بجميع معاني الكلمة بما فيها القدرة على التشبّه simulation التي تجعل الأمور تتشابه على المدرك. ما يظهر ويضيء يتخَفَّى ويكتم حقيقته فيتيه بالموجود، ويقيم عالما من الضّلال. لذا فإن كل حصول تاريخي لا يكشف نفسه في العراء. وهكذا يتستر الوجود بكيفيات مختلفة ليفسح المجال لانكشاف يُفَكّر في الحضور من خلاله.
نفيُ "عري" الكائن هو نفي الواقع الخام، نفيُ الإحالة. ذلك أن القول بالواقع الخام هو قول بالشفافية وحضور المعنى، ونفي لخبث العلامة ومكرها. في حين أن العلامة لا يمكن أن تحيل إلا إلى علامة أخرى. في هذا الصدد يقول زرادوشترا نيتشه:" إن جميع أسماء الخير والشر ليست إلا مجموعة من الرموز. إنها لم تعد تعبر عن شيء، وإنما هي تدل وتعني".
على هذا النحو يغدو تاريخ الحقيقة تاريخ مكبوتاتها. فهي تخفي خداعها بأن تظهره في المجاز. الوجود هو دوما مؤشر لخداع مجازي، وهو دائما معان ثانية connotations وليس قط معانيَ أولى dénotations. إنه لايظهر إلا خلف قناع. و"إذا كان هناك قناع، فلا شيء من ورائه. إنه سطح لا يخفي شيئا سوى ذاته".
هذه " المسْرَحة" التي تسدل الستار حتى إن رفعته، وتَضَع اللثام حتى إن أماطته، و تلبس الحجاب حتى إن نزعته تطال الكائن في جميع أبعاده، وهي التي تتحكم في إنتاج المعاني وتحديد الدلالات. ليس العمق، والحالة هذه، هو "الأغوار الميتافيزيقية"، إنه ليس إلا نتيجة للوهم الذي يبعثه فينا السطح الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح. ولكنه ليس السّطح الهش الشفاف، وإنما هو سطح سميك ثري.
حينما يُكشف الستار ويُماط اللثام والحالة هذه، فإنه لا يَكشف عن شيء، وإنما لا يكشف إلا عن بنية الإختفاء ذاتها. هذا المفهوم يرجع للمظهر كل قوته، مثلما يعيد للحجاب سُمكه وللسطح عمقه. تساءل نيتشه: «ما هو الظاهر عندي؟» فأجاب: «من المؤكد أنه ليس عكس الوجود. فما عسى يمكنني أن أقول عن الموجود، مهما كان، اللهم صفات ظاهره. الظاهر ليس عندي ستارا لا حياة فيه. إنه عندي هو الحياة والفعالية ذاتها. إنها الحياة التي تسْخر من ذاتها كي توهمني أن لا وجود إلا للمظاهر».
ليس السّتار، والحالة هذه، غطاء يوضع «فوق» ما يستره، بل هو انثناء ما يظهر. إنه فعل الطيّ ذاته. على هذا النحو يتخذ فنّ التستر بعدا أنطلوجيا ويغدو من صميم الكائن، ولا تعود السّرية أعماق خفية و"أسرارا مكنونة"، بل إنها لن تغدو معانيَ تحتجب، وأقوالا تُكتم، وإنما تشير إلى جدلية الظهور والاختفاء. لكن الأهمّ من ذلك أنها تجعل التحجّب بنية للكائن وليس كتمانا للأسرار، وصونا للجواهر، وحفاظا على الألباب،كما تجعل الحياء، قبل أن يغدو حالة سيكلوجية أو وظيفة اجتماعية أو أخلاقية، تجعله خاصية العلامة، وصفة الكائن، وبنية الوجود.