• Friday, 22 November 2024
logo

أضواء على كلمة السيد نيجيرفان البارزاني

أضواء على كلمة السيد نيجيرفان البارزاني
استوقفتني كلمة السيد نيجيرفان البارزاني هذه المرة في بارزان بتاريخ
20-5-2013، حيث بدت كلمته هذه المرة مختلفة تماما عن سابقاتها، ليس القصد التباين في شكلها ولغتها ونسيجها، بل في مضامينها ومفرداتها، ولقد بدا لي كأنني استمع إلى حديث رجل يسبر حقائق التاريخ، ويتناول موضوعاته بطريقة سلسة جلية، ولقد استمتعت بحديثه، لأنه أخذنا إلى ماض مجيد، وتاريخ مشرق، ونضال عظيم لأبناء بارزان خلال قرن من الزمان، لا جرم أن بارزان اسم عظيم في صفحات التاريخ الكردي، وكان ولا يزال رمز الصمود والإباء، رمز التمرد على الظلم، والدفاع عن العدالة، ومناصرة المظلومين، ومقارعة الظالمين والمستبدين، ولقد حدثنا أحد مشايخ غرب كردستان أنه ذهب إلى السفارة الصينية في دمشق، وأراد أن يعطيهم بعض المنشورات عن الكرد وكردستان، لكنه أبى أن يأخذها، وكأنه استغرب الأمر، فقال له: هذه منشورات حول البارزاني وكرر له ذلك، فأخذها بشدة، لقد كان شعار البارزانيين على مدى التاريخ الذود والدفاع عن الكرد وكردستان، ولم يتحول يوما ما إلى شعار عشائري أو مناطقي أو طائفي أو مذهبي، هذه حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها.
إن انتصار مشائخ بارزان على منافسيهم من الأغوات يرتد إلى تمسك المشيخة بمبادئ الدين الداعية إلى تحقيق العدالة، ورفع الظلم، والدفاع عن أتباع الديانات الأخري كاليهود والمسيحيين، فلم يكن يشعر اليهودي ولا المسيحي أنه يعيش في أرض الغربة، بل كان مساويا مع المسلمين في جميع الحقوق، كتب القنصل البريطاني في ديار بكر:" إن الشيخ عبد السلام بحق من أحسن شيوخ المنطقة، فلم يكن له مع الحكومة إلى فترة قريبة أية مشاكل، وهو عادل في معاملة رعيته، وحام للنصارى".
فعندما ألقت الدولة العثمانية القبض على الشيخ عبد السلام الثاني، وحكمت عليه بالإعدام، قدمت عائلة (غباي) اليهودية آنذاك – وقد كانت أغنى عائلة في كردستان- كيسا من ذهب، وأرسلته مع (إلياهو غباي) إلى أسطنبول من أجل إنقاذ حياة الشيخ، وقد عاد (إلياهو غباي) مع أمر يلغي عقوبة الإعدام، ولكن العملية نفذت بحق الشيخ"، وهذا واضح في مدى نجاح المشيخة في كسب قلوب الجميع، وإلا ما الداعي للإقدام على هذا العمل الجبار من أجل إنقاذ روح الشيخ عبد السلام، فالسبب واضح، وهو أن إعدام هذا الشيخ نهاية للعدالة الاجتماعية، ووأد للتعايش الديني، لأن ذلك كله تحقق في عهدهم، ولم يتحقق في عهد الأغوات.
ولأجل هذا بقيت المنطقة آمنة مطمئنة، وكان هذا هو سر محبة الناس وتقديرهم لهم، وهذا ما أشار إليه السيد نيجيرفان بقوله: أن مشائخ بارزان اعتمدوا على قلوب الناس، وليس على قوتهم وسلاحهم، لأن كسب القلوب بداية لكل نصر، وما خسارة بعض القادة لشعوبها إلا لعدم كسب قلوبها، فإغوات الزيباريين – مع قوتهم والدعم الذي كانوا يتلقونه من الدولة العثمانية- خسروا في صراعهم مع مشيخة بارزان لأنهم لم يكسبوا قلوب الناس على اختلاف مشاربهم، بل على العكس ملأوا قلوب الناس الكراهية والحقد والضغينة، وذلك بسبب ظلمهم وطمعهم وجشعهم.
ولا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن أي صراع أو عداء حصل بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم في التاريخ، لم يكن ذلك بسبب الاختلاف الديني، بل كان أساسه مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو ما شابه، ولكن كل طرف يحاول تغيير مسار المشكلة، من مشكلة اجتماعية مثلا إلى مشكلة دينية، وهذه الخدع يكشف زيفها مشيخة بارزان، فيرجعون إلى أصل المشكلة، وينتهي الأمر، وأفضل مثال على ذلك الصراع بين قبيلة تخوما المسيحية وبعض جيرانهم المسلمين، ومحاولة بعض المسلمين الإعلان عن الجهاد ضد المسيحيين، من أجل مصالح مادية محددة، لكن الشيخ عبد السلام الثاني تدارك الأمر، وأصلح بين تينك القبيلتين.
ثم أشار سيادته إلى دور التصوف في الثورات الكردية بالأخص في بارزان، وتأثيره البليغ في المقاومة والحراك الشعبي، لا ريب التصوف عادة ينأى بنفسه عن السياسة، لكن مشيخة بارزان فعلوا العكس، حيث تحول المشائخ الصوفية ومريدو الطريقة إلى رجال أقوياء في ميادين القتال وساحات الوغى، ولهذا كانوا جنودا أوفياء في جميع الثورات الكردية، ولم يصبحوا في تاريخم الطويل في صف أعداء كردستان، وهذه حقيقة أشار إليها السيد نيجيرفان في كلمته.
لكني أختلف عن السيد نيجيرفان في كون مولانا خالد هو الذي أعطى الطريقة النقشبندية لمشيخة بارزان، وذلك لأن مولانا خالد دخل الطريقة القادرية على يد الشيخ عبد الله النهري، ومن ثم ذهبا معا إلى الهند، ونقلوا الطريقة النقشبندية إلى كردستان، وعليه، فإن النهريين تحولوا من الطريقة القادرية إلى الطريقة النقشبندية، ومن ثم أعطوا مشيخة بارزان الطريقة النقشبندية، فمشيخة بارزان كانوا متبعين للطريقة النقشبندية التي جاء بها النهريون، وليس للطريقة التي جاء بها مولانا خالد، وإن كانت الطريقتان واحدة، وكان لا بد من الإشارة إلى دور شيوخ نهري، وهذا ما لم نلحظه في كلمة سيادته.
ولقد كان مشيخة بارزان أهل علم ومعرفة، فلم يكونوا صوفية منعزلين عن مسالك الحياة، ومن هؤلاء الشيخ عبد الله البارزاني - الذي أخذ الإجازة العلمية من العلامة الشيخ يحيى المزوري، والشيخ عبد السلام البارزاني الأول - الذي نظم ديوانا رائعا يقع في مائة بيت، حيث قدم تعريفا عاما بدين الإسلام، وكان لي شرف ترجمته إلى اللغة العربية- ولهذا لا تزال بعض المسائل التشريعية الدينية في بارزان على طبيعتها، خذ مثلا تحريم الشغار وزواج الإكراه وتزويج الصغيرة، وتحريم أكل المهور، والاختلاط في الأعراس، وهي مسائل شرعية راجحة في الإسلام، ناهيك عن اهتمام المشيخة بالبيئة، ولأجل ذلك تحولت المنطقة إلى غابة مكتظة بالأشجار، والزروع والثمار والبساتين، بل حتى الحيوانات تنعم بالحرية والعيش بأمان.
كانت بارزان مجرد قرية، لكنها تحولت من قرية صغيرة إلى قلعة للصمود، ومدينة للعلم والمعرفة، ومركزا للثقافة، فلقد كان الحافظ العراقي محدث الإسلام والحاخام أهارون البارزاني كبير حاخامات كردستان، والقس داود بن الشماس يوحنان البارزاني من أبناء بارزان، وقديما كانوا يقولون: التشريع من سندور، وكلمة الرب من بارزان، كان في هذه القرية مسجد للمسلمين وكنيسة للمسيحيين وكنيست لليهود، وهذا نموذج رائع في التعايش السلمي، ولبنة قوية للحوار الديني، كما أشار إلى ذلك السيد رئيس الحكومة.
دمرت هذه القرية مرارا وتكرارا، وبقيت خاوية على عروشها لفترات زمنية، لكن قلوب أبناءها لم تدمر، بل زادت قوة وصلابة وتمردا، وكانت من أهم القلاع المتنية ضد أعدائها عبر التاريخ.
ولقد استطاع مشيخة بارزان كسب قلوب الكرد في جميع أجزاء كردستان، ومن النماذج الحقيقة، أنهم استطاعوا جمع العشائر الكبيرة في هذه الدائرة، فقديما كانت بارزان قرية تابعة للزيباريين، ولكنها الآن غدت مصطلحا مهما يقصد به العشائر السبع المعروفة، وهي( دولةمةري، شيَرواني، مزوري، نزاري، بةروَذي، طةردي، هةركي بنةجي)، ولولا سياسة المشيخة العادلة، لما انضمت تلك العشائر إلى هذه الدائرة، خذ مثلا عشيرة هركي بنجي، كانت هذه العشيرة آخر العشائر انضماما إلى بارزان، لأنها كانت تابعة للمشيخة النهرية، ولما انتهت تلك المشيخة سياسيا وإداريا وروحيا، انضمت العشيرة تلك إلى بارزان، فغيرت عمامتها السوداء إلى حمراء، ليس خوفا ورهبة من بارزان، بل عن قناعة ورغبة، لأنهم عرفوا أن أحدا لن يظلم في ظل حكم مشيخة بارازن، وخاصة في عهد الشيخ أحمد البارزاني.
لا ريب أن العداء المستمر من قبل الدولة العثمانية والإنجليز آنذاك والحكومات العراقية المتعاقبة، وحتى هذه اللحظة من قبل المالكي وبعض قوى المعارضة يرتد إلى أن بارزان رمز المقاومة، وعنوان الصمود، وسر التمرد، فالقضاء على بارزان نهاية للحلم الكردي، ووأد للدولة الكردية القادمة، ونسف للبيت الكردي، ولهذا كانت هجمات أعدائها عليها شرسة قاسية، وما أنفلة ثمانية آلاف بارزاني إلا دليل قاطع لما نحن بصدده، لقد قدمت بارزان الكثير الغزير للأمة الكردية، وإنه من المؤسف أن يأتي بعض الكتاب فينسف هذا التاريخ نسفا، بروح دنئية، ولمآرب شخصية وسياسة هابطة، إنه تاريخ مشرف للكرد وكردستان، ولقد بدأ التركيز في الآونة الأخيرة على شخصية ملا مصطفى البارزاني، حيث أغرقوا الرجل في تهم خطيرة، وشوهوا تاريخه، وزيفوا حقيقة هذا العملاق، والرجل لم ير راحة في حياته بسبب أعداءه، واليوم لا يدعونه يتسريح في قبره بسبب قسوة بني جلدته، والحقيقة أن بارزان ستبقى رمزا للكرد وكردستان، ويبقى مشيخة بارزان رمزا للعدالة والتعايش السلمي بين الأديان والمذاهب، ويبقى ملا مصطفى أسطورة في تاريخنا، ولعل أفضل مثال على ذلك بقاء ملا مصطفى البارزاني الطويل في روسيا قلب الشيوعية، حيث بقي البارزاني مع أتباعه في روسيا ما يقارب اثنتي عشرة سنة، إلا أنه بقي على عقيدته الدينية، وبقي مدافعا عظيما عن قضيته القومية، من الذي يستطيع أن يترك وطنه وأهله، ويبقى لهذه المدة الطويلة لولا إيمانه العميق بقضيته العادلة، كان بإمكانه أن يعيش عيشة الملوك، ولكن نفسه الأبية، وحسه القومي وشعوره الوطني منعه من ذلك، آثر العيش التعيس على مغريات الدنيا، وينضاف إليه أن الرجل لم يطرح في يوم من الأيام التي قضاها في روسيا الطرح الشيوعي للقضية الكردية بالرغم من إلحاح السياسيين والمفكرين، لأنه كان يفقه الواقع الكردستاني، ويدرك تماما ما هو الحل الأمثل والأصوب لقضيته، فعندما قام البارزاني في عام(1956) بزيارة أرمينيا للقاء الكرد، قال له نادوي خدو محمودوف: إن طريق تحرير الشعب الكردي يمر عبر الماركسية اللينينية، والأيدولوجية الشيوعية، استاء البارزاني علنا من كلامه هذا، كعادته شد فكيه على بعضها البعض، قائلا له: نادو، نادو، نحن أيضا نعرف الماركسية – اللينينية، ونعرف الأيدولوجية الشيوعية، ونعرف أيضا الطرق والوسائل الأفضل لنيل حقوق الشعب الكردي.
لقد عانت بارزان كثيرا، قتل من أبناءها الكثير، وشرد منهم الكثير، وسجن منهم الكثير، لكن ذلك كله لم يذهب سدى، بل آتت تلك التضحيات أكلها، ها نحن اليوم نعيش في حرية كنا نحلم بها، وحكومة مكونة من أبناء كردستان، وهكذا فيما يخص البرلمان والجامعات والمراكز الأخرى.
ومهما قدمت حكومة إقليم كردستان لهذه المنطقة من خدمات، فهي قليلة مقارنة بضخامة تضحياتها، وكلنا أمل أن تقوم هذه الحكومة بإعمار هذه المنطقة التي تسكنها العشائر البارزانية السبع، وخاصة منطقة عشيرة (هركي بنجي) المحرومة من أبسط الخدمات خلال قرن من الزمان.
كلمة أخيرة، على القيادة البارزانية أن تدرك جيدا أن سر نجاحها وقوتها في اقتفاء مسلك مشيخة بارزان القدماء، والعودة إلى طريقتهم الداعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، بغض الطرف عن هويات الناس ومشاربهم وقومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم، والاختلاط مع طبقات الفقراء والمحاويج والمعوزين من ذوي الاحتياجات، والكادحين من المناضلين القدماء، ليست عظمة بارزان في كثرة رجالاتها، وقوة عدتها، وووفرة ثرواتها، بل سر عظمتها يكمن في التفاف الناس حولها، محبة ورغبة ووفاء وولاء، وما اكتسبت بارزان هذه الكاريزما إلا بالطريقة التي كان عليها المشيخة الأوائل، فاللجوء إلى أي وسيلة لكسب قلوب الناس دون التعويل على طريقة المشائخ الأوائل تهديد لهذه الكاريزما، وما تضعضع هذه الكاريزما يوما بعد يوم إلا بسبب الابتعاد عن هذا المسلك الذي ندندن حوله، على القيادة البارزانية أن تعود إلى سابق عهدها، عهد العلم والمعرفة في زمن الشيخ عبد الله البارزاني والشيخ عبد السلام الأول، عهد العدالة الاجتماعية في عهد الشيخ أحمد البارزاني، عهد الجمع بين الدين والقومية في زمن الشيخ عبد السلام الثاني، عهد الإيثار والتقشف والتفاني في عهد ملا مصطفى البارزاني، لن تعود الكاريزما البارزانية الحقيقة إلا بالعودة إلى هذه الطريقة، فهي الوسيلة الوحيدة في تحقيق ذلك كله، ولعل هذه الأسطر ستكون نقطة انطلاق في إعادة التفكير في الأمر، فإن الأمر جد، لأننا نمر بمرحلة مذبذبة، فالوقائع في تطور، والأحداث في تقلب، ولسنا ندري ما الذي يخفيه لنا الغد القادم، أليس الصبح بقريب؟.
انتهى
Top