• Friday, 22 November 2024
logo

في جينيالوجيا نيتشه

في جينيالوجيا نيتشه
نستعمل اللفظ الأجنبي هنا استبعادا لكل تحريف. ذلك أن الترجمات التي استعملت حتى الآن لتأدية معناه مثل "علم النسابة" أو "علم النشأة" أو"علم التكوين"، غالبا ما أدت إلى التضحية بدلالاته أو قلبها في معظم الأحوال. وربما أمكننا أن نؤكد أن الجنيالوجيا إن كانت تعني شيئا، فهو أساسا، قيامها ضد المفهوم التكويني التطوري للتاريخ. وإذا كانت اللفظة تحيل بالفعل في اشتقاقها إلى النشأة والتكوّن، فان التاريخ الجينيالوجي، كما تبَلور عند صاحبه، يكاد يكون رد فعل ضد كل تاريخ تكويني يعتبر أن من شأن متابعة التطور أن تُمكننا من الوقوف على المحددات ورصد الهويات. قامت الجينيالوجيا لتثبت أن متابعة التطور لا تفي بالغرض، وأنها تدع الأساسي يفلت من قبضتها. وحدها العودة إلى الوراء تمكننا، لا من رصد الهويات فحسب، بل تسمح لنا بتبيّن الاختلافات، والوقوف على التراتبات.
الجنيالوجيا ليست "علم نسابة" ولا تقصّيا لأصل. إنها ليست شجرة أنساب متجذرة في أصل، ممتدة الأغصان عالية نحو السماء. لكنها أيضا ليست تاريخا تكوينيا تطوريا. إنها أساسا قيام ضد مفهوم الأصل في معناه الميتافيزيقي، ذلك الأصل الذي تضعه الميتافيزيقا دوما "قبل السقطة وقبل الجسد، قبل العالم وقبل الزمن".
ذلك أن الميتافيزيقا يحلو لها أن تعتقد أن الأشياء في بداياتها كانت كاملة، وأنها خرجت من يد مبدعها، وفي نور أول صباح، مشعة وضاءة. أما الجنيالوجيا فإنها ترى أن "وراء الأشياء شيئا آخر، لكنه ليس الحقيقة الخالدة للأشياء، بل كونها بدون "حقيقة".
في هذا الصدد ينبغي بدءا أن نميّز بين مفهومين عن الأصل: أصل ميتافيزيقيّ، هو الذي كرّسته الميتافيزيقا في "بحثها عن الدلالات المثالية والغائيات غير المحدّدة"، وآخر يريد أن يكون مضادّا، وهو بالضبط ما يسعى التاريخ الجنيالوجيّ إلى إقامته.
الأصل الأوّل هو أصل "أوّل". إنّه اللحظة الممتازة التي تحدّدت فيها الخصائص وتعيّنت فيها الهوية، اللحظة التي اتّخذت فيها الأشياء صورتها الثابتة التي تسبق كلّ ما سيعرض وسيتعاقب، اللحظة التي تكون فيها الأمور قد "تمّت وحصلت"، كي تُحدد أساس كلّ ما سيتمّ ويحصل. إنّه موطن حقيقة الأشياء: أي ما يجعلها ما هي عليه، وما يجعل معرفتها وإدراك حقيقتها أمرا ممكنا، ما "يؤسّسـ"ها، وما "يؤسّس" معرفتها.
ضدّ هذا الأصل تقوم الجينيالوجيا لتولي عنايتها إلى التاريخ عوض التصديق بالميتافيزيقا، ولتسعى أن تبيّن أنّ السرّ الجوهريّ للأشياء هو كونها دون سرّ جوهري، وأنّ الماهيات تتشكّل شيئا فشيئا انطلاقا من أشياء غريبة عنها. ولتكشف أنّ ما نعثر عليه في البدء ليس "حقيقة" الأشياء، ليس الأصل الذي يؤسّس، وليس الهوية التي تحفظ وتصون، وإنما التبعثر والتشتّت.
فبينما يحاول التاريخ الميتافيزيقي أن يذيب الحدث الفريد في حركة مستمرة تصدر عن نقطة -أصل لتتجه نحو غاية بعينها، فإن الجنيالوجيا ترصد الحدث في ما يجعل منه فريدا. ذلك أن ما يقوم به التاريخ التطوري هو وقوف عند حالة بعينها، عند تأويل معين ليضفي عليه صفة الغاية والهدف، فيغدو هو معنى التاريخ واتجاهه. ولن يعود التاريخ إلا انتشارا لذلك الأصل- الغاية. أما الجنيالوجيا، فإن لم تكن إثباتا لأصل مطلق صدرت عنه الأشياء، ولا وقوفا عند غاية بعينها، فذلك لأنها محاولة لإعادة تأويل غير منقطعة. فهي ليست بحثا عن معنى أول، وإنما إثبات للأولويات والأسبقيات التي أعطيت لمعنى على آخر. الجينيالوجيا إذ تقف عند الأصول، فلتفضحها وتثبت أنها فروع، ولتنظر إليها من حيث هي منطبقة مع الحركة التي تظهر الأشياء في الواقع عندما تعطيها معنى وقيمة.
نعلم أن صاحب الجينيالوجيا يميز في هذا المفهوم بين مستويات ثلاثة: تحليل مشخص للأعراض، تصبح الجينيالوجيا بفضله سيميولوجيا تؤوّل العلامات والدلائل تبعا للقوى الثاوية من ورائها. وهذا ما يطلق عليه سمبتوماتولوجيا .ثم إن الجينيالوجيا نوع من النمذجة typologie يؤوّل القوى انطلاقا من اعتبارها مجرد كيفيات فاعلة أو منفعلة. وأخيرا تعود الجينيالوجيا بتلك الأعراض والنماذج إلى أصول تفاضلية، أي إلى أصول تؤسس تاريخ التراتبات القيمية وتحدد كيفيات ظهورها.
وهكذا لا تكتفي الجينيالوجيا بالوقوف عند النشأة، وهي لا تقتصر على الوصف، وإنما تتساءل كيف تظهر التفاضلات والتفاوتات وكيف تزول وتختفي؟ كيف تتناوب القوى على المعاني وكيف تتملكها؟ لا تكتفي الجينيالوجيا برصد نشأة الهويات، وإنما تنشغل بمتابعة كيفية تولّد القيم، تلك الكيفية التي تتوقف على العنصر التفاضلي الذي يقسم العالم بموضوعاته ورموزه إلى تعارضات متفاوتة. ما إن يسمع الجينيالوجي الحديث عن المعاني والقيم حتى يأخذ في البحث عن استراتيجيات الهيمنة والتسلط. إنه لا يرى في ذلك إلا لعبة إرادات. إلا أن هذه اللعبة ليست تطورا تقدميا لعقل كوني، وإنما هي لعبة خاضعة لصدف الصراع. لن يعود فهم التاريخ، والحالة هذه، رصد منطقه الكلي، وتحديد الغاية التي يسير نحوها. لن يعود متابعةً لتكوّن المعنى، وإنما وضع اليد على مجموعة من القواعد التي لا تتمتع بأية دلالة مطلقة بهدف "فضح العملية التي يتم وفقها خلق المثل العليا". ذلك أن همّ الجينيالوجي ليس تاريخ الحقيقة، وسؤاله، كما بين دولوز، ليس من وما هو الصادق، وإنما من وما يوجد وراء حقيقة الأشياء ومن يعطيها قيمتها؟
فإن كان التأويل هو إبراز معنى "أصلي"، فإن الميتافيزيقا وحدها هي الكفيلة بأن تفسر مصير الإنسانية. ولكن إن كان التأويل أقرب إلى الأولوية منه إلى المعنى الأول، فهو سيعني أن نضع أيدينا على مجموعة من القواعد التي لا تتمتع بأية دلالة جوهرية كي نوجهها وجهة معينة، وندخلها ضمن آلية أخرى، وقواعد مغايرة. وحينئذ سيكون مصير البشرية سلسلة متحولة متقلبة من التأويلات، وتكون الجنيالوجيا تاريخ ذلك المصير. وإن كان هذا المصير متقلبا متحولا فلأنه يطبع بالصراع والسيطرة. لذا فإن الجنيالوجي لا يخوض مشروع بحث سلمي عن المعنى، وإنما معارك وحروبا تأويلية، وهو ما إن يسمع الحديث عن المعنى، حتى يأخذ في البحث عن استراتيجيات الهيمنة. فهو يرى التاريخ من حيث كونه "حلبة صراع". إنه لا يرى فيه إلا قوة وتسلطا. فليس التاريخ عنده تقدما لعقل كوني، وإنما لعبة انتقال لا يكل من سيطرة إلى أخرى.
وعلى رغم ذلك فلا مفرّ من الوقوف الطويل عند البدايات، لكنها البدايات بكلّ تفاصيلها، ليس من حيث هي ضرورة وإنما من حيث هي جواز، ليس من حيث هي حقيقة، حقيقة الحقائق، وإنّما من حيث هي " نوع من الخطأ لمّا يدحض بعد، عمل النضج التاريخيّ على تثبيته". إنها البدايات التي لا ترتدّ إلى منبع أساس، وإنما تلك التي تحافظ على ما حدث ضمن شتاته وتبعثره.
البحث عن الأصل إذن لا يؤسّس، إنّه يربك ما ندركه ثابتا، ويحرّك ما نفترضه ساكنا، ويجزّئ ما نراه موحّدا، ويفكّك ما نعتبره متطابقا. تقصّي الأصول والحالة هذه هو التقويض الدائم لهويتنا، ذلك أنّ الهوية التي نسعى للحفاظ عليها وإخفائها تحت قناع، ليست هي ذاتها إلا محاكاة ساخرة: فالتعدّد يقطنها ونفوس عدّة تتنازع داخلها والمنظومات تتعارض فيها ويقهر بعضها البعض. لذلك يؤكّد صاحب الجينيالوجيا أننا:" عندما ندرس التاريخ فإنّنا، على عكس الميتافيزيقيين، نسعد لا لما نكشفه من نفس خالدة ترقد فينا، وإنما لما نحمله بين جنبينا من أنفس فانية".
Top