• Friday, 22 November 2024
logo

فكر الإختلاف

فكر الإختلاف
لا نقول فلسفة الإختلاف، فالأمر لا يتعلق لا بالفلسفة بالمعنى المعهود للكلمة، ولا بالأوْلى بمذهب أو تيار فلسفيين. نحن أمام فكر ربما يتعذر ضمه تحت إسم بعينه، فكر غير متجانس. يقول دريدا متحدثا عن جيله من الفلاسفة والمفكرين:"لا شيء حقا كان يخدم المصالحة. كانت الاختلافات والخلافات على أشدها في ذلك الوسط الذي يمكن نعته بأي شيء ما عدا أن يكون متجانسا". إن كان ولابد من ضم أصحاب فكر الإختلاف تحت إسم واحد، فهم يؤثرون لفظ شبكة، هم يشعرون أنهم ينخرطون في شبكات مقاومة، وأغلبهم يستعملون اللفظ عندما يتحدثون عن "حركتهم". كل هذا ليبرزوا أن هدفهم الأساس هو أن ينفصلوا عن الفلسفة، عن تاريخ الفلسفة ويتجاوزونه، أو كما يقول بعضهم "يخرجون منه". لا يعني ذلك أنهم يناصبون العداء لكل تأريخ فلسفي على غرار بعض الوضعيين. ربما كان عكس ذلك هو الصحيح. إذ يمكن أن نؤكد أنهم من أكثر المفكرين اهتماما بتاريخ الفلسفة، فهم فقهاء النصوص الفلسفية بامتياز، وأغلبهم مارس الفلسفة داخل أسوار الجامعة. ويكفي أن نذكر أسماء هايدغر ودريدا ودولوز كي نقتنع بذلك. غير أن اهتمامهم هذا يتوخى بالضبط الإنفصال عن الفلسفة، أو الميتافيزيقا كما يحلو لهم أن يقولوا. يتسلحون من أجل هذه الغاية بما يسمّيه بعضهم تقويضا، أو ما يدعوه الآخر تفكيكا، أو "خروجا". الكلمة التي يؤثرها أغلبهم هي كلمة "تجاوز" dépassement، تجاوز الميتافيزيقا، تاريخا ومنطقا، قاصدين بالميتافيزيقا لا فرعا من فروع الفلسفة، ولا فنا من فنون الدراسة، وإنما تاريخ الكائن، أو بنية الوجود.
نستطيع أن نقول إن حوار هؤلاء يتوجه أساسا صوب هيجل، أو لنقل صوب الفكر الجدلي بصفة عامة. إلا أن ذلك الحوار سرعان ما يمتد، عبر هيجل، إلى تاريخ الفلسفة بمجمله، وسيقول بعضهم تاريخ الكينونة، ليكشف عن بنيته الأنثو- تيو- لوجية كما يقول أتباع هايدغر، أو بنيته الأفلاطونية، كما يقول أتباع نيتشه، إن صح الحديث هنا عن أتباع.
يعيب هؤلاء على الفكر الجدلي وامتدادته كونه ظل يوظف مفهوما فقيرا عن الإختلاف، وكونه، بالتالي، بقي عاجزا عن أن ينحت مفهوما عن الهوية يبعدها عن التطابق. ذلك أنهم يميزون الذاتي le même عن المتطابق. كما يعتبرون أن الذات مشروخة منخورة، وهي في تباعد ملازم عن نفسها، لذا فهم لا يحتاجون لتعارض "خارجي" ما داموا ينظرون إلى الآخر على أنه بُعدُ الذات عن نفسها. فليس السلب عندهم هو ذاك الذي يَفِد من خارج الذات ليتعارض معها، وإنما ما ينخرها من "داخل". السلب هو حركة تباعد الذات عن نفسها. وفي هذا الإطار يعتبر ميشيل فوكو علامة التساوي التي يضعها منطق الميتافيزيقا ليعبّرعن تطابق الهوية مع نفسها، إشارة إلى القنطرة التي تصدّع الذات وتجعلها في هروب عن نفسها. فبينما يثبت التناقض العلاقة أ= لاأ التي تمثل طرفين يتحركان نحو التطابق ويسعيان إليه، فإن الذاتية أ=أ تجعل كل طرف يفقد بفضل الآخر كيانه الذاتي. على هذا النحو، يعيب هؤلاء على التناقض الجدلي كونه لا يذهب بالإختلاف إلى أبعد مدى، إذ سرعان ما يردّه نحو التطابق. فليس التناقض عند الجدليين اختلافا أكبر في نظرهم إلا نسبةً للتطابق وبدلالته.
لن يعود الاختلاف مجرد تعارض بين نقيضين، بل إنه يغدو ابتعادا يقارب بين الأطراف المختلفة ( لا نقول يركب أو يوحّد بينها). إن أردنا الكلام عن وحدة هنا فإنها الوحدة كحركة لامتناهية للضمّ والتفريق. في هذا المعنى يقول هايدغر شارحا ما يعنيه هيراقليط باللوغوس :" هذا التوحيد الذي ينطوي عليه فعل لِيغِيين لا يعني أننا نقتصر على جمع الأضداد والمصالحة بينها. الكل الموحّد يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها وقد اجتمعت في الحضور ذاته." هي إذاً وحدة لا تُصالِح بين الأضداد ولا تركب فيما بينها، وهو اختلاف لا يرتد إلى تناقض، وهي هوية لا تؤول إلى تطابق، هوية هي عبارة عن حركة انتقال، هوية يشرخها الزمان، هوية ما تنفك تعود. فليس العود الأبدي عودة المطابق.
إن كان مفكرو الاختلاف يحتفظون لمفهوم الهوية بمكان، فلأنه يغدو عندهم هوية الاختلاف. في هذا المعنى يقول دريدا :" الهوية هي بالضبط حركة توليد الفوارق والإختلافات، إنها انتقال ملتو ملتبس من مخالف لآخر، انتقال من طرف التعارض للطرف الآخر". الهوية إذا حركة انتقال، ليس نحو آخر خارج عنها، وإنما بين "أركانها". هذا التفكير البَيْنِيّ يدفع هؤلاء إلى إعادة النظر في الثنائيات التي كرستها الميتافيزيقا، لا ليُعلوا من طرف على حساب الآخر، كأن يعيدوا المجد للجسد على حساب الروح، أو للمظهر على حساب العمق، أو للمبنى على حساب المعنى، ولا ليَروا فيها قضاء على التقابل، وإنما علامة على ضرورة، بحيث يظهر كل طرف من طرفي الثنائيات على أنه الآخر ذاته.
هنا يدخل الزمان في تحديد الكائن، لا لضمه وحصره، وإنما لجعله معلقا en suspens في حركة إرجاء دائم. ذلك أن الإختلاف لا يشير إلى الفروق وحدها، وإنما إلى الإرجاء والبون والبينونة. الإختلاف مباينة بجميع معاني اللفظ.
هذا التصدع يُنقل هنا إلى مفهوم الزمان ذاته، ذلك أننا عندما نقحم الإختلاف "داخل" الهوية "تصبح هناك مسافة تفصل الحاضر عما ليس هو لكي يكون هوهو ذاته" على حد تعبير دريدا. ينعت هؤلاء الميتافيزيقا بأنها فلسفة الحضور، وهم ، إذ يسعون إلى تجاوزها، يعيدون النظر في مفهوم الحاضر، أي في مفهوم الزمان الذي كرسته الميتافيزيقا التي فهمت الوجود "بدلالة نمط معين للزمان هو نمط الحاضر" على حد تعبير هايدغر. ذلك أن المفهوم العادي والفلسفي التقليدي، من أرسطو حتى هيجل، لا يدرك الزمان إلا انطلاقا من الحضور. وكل ما ستقوم به الفلسفة في شكلها الحديث، ابتداء من ديكارت حتى هيجل، هو أنها ستحوّل الحضور إلى مثول أمام الذات الفاعلة sujet. إنها ستحوّل المثول إلى موضوع يُتمَثل ويوضع أمام ذات فاعلة، موضوع سيكون خاضعا للسيطرة التقنية لهذه الذات. فحتى الجدل الهيجلي إذاً سيجعل التاريخ حركة لحاضر دائم "يتجاوز فيه الحاضرُ الحاضرُ الماضيَ الحاضرَ نحو مستقبل سيحضر".
تجاوز الميتافيزيقا إذاً معناه نحت مفهوم مخالف للزمان. وحينئذ سيتحقق حصول التاريخ كقدر لحقيقة الوجود الذي يبلغ قدره من حيث إنه " يعطي نفسه ويحجبها في آن". على هذا النحو فإن الحاضر لا يحضر، وهو في انفصال وتباعد دائم عن نفسه.
من هنا يرفض هؤلاء مفهوم التجاوز الهيجلي، ويستبعدون كل تاريخ منسجم وزمان متّصل يتوخى متابعة خطوط التطور، وتعيين الغايات وبناء الهويات، ويبدي نفورا حادّا من التفكير في الإختلاف، وتقويض الصورة المطَمْئِنة للهوية المتطابقة مع نفسها.
Top