• Friday, 22 November 2024
logo

أي معنى للتسامح في عالمنا المعاصر؟

أي معنى للتسامح في عالمنا المعاصر؟
يدعونا جاك دريدا إلى أن نعيد مساءلة مفهوم التسامح من جديد، لا اعتراضا عليه بل وفاء له. ذلك أن هذا المفهوم ربما قد أخذ يثبت عجزه، وربما لم يعد كافيا لكي يزودنا بما يلزم لمقاومة العنف الهائج الذي يكتسح عالمنا المعاصر، والذي يتخذ أشكالا متعددة ليس اقلها شأنا شكلها الرمزي.
لا مفر لمساءلة المفهوم من أن تبدأ بإقامة جنيالوجياه والوقوف عند أصوله. وهي ، كما نعلم، أصول دينية. فقد تولد المفهوم خلال حركة الإصلاح الديني الأوروبية، ليعبر عن تغيّر في الذهنية نتج عن علاقة جديدة هي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد. لن يتطهر المفهوم من رواسب هذه الإشكالية الدينية التي نشأ في حضنها، والتي جعلت منه، قبل كل شيء نداء «للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة» على حد تعبير جون لوك وبالضبط في رسالته في التسامح.
صحيح أن المفهوم لم يلبث أن شحن فيما بعد بحمولات تجاوزت الحقل الديني لتطال المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، وليصبح تسليما بالحق في الاختلاف في الاعتقاد والرأي، والاعتراف للفرد- المواطن بالحق في التعبير داخل الفضاء المدني عن الآراء الدينية والسياسية والفلسفية التي يختارها، وليغدو دعامة من دعائم الحداثة السياسية والفكرية. ولا بأس أن نذكّر هنا بمساهمات مفكرين أمثال سبينوزا وروسو وڤولتير في اغتناء المفهوم وتوسيع حقول استعماله. كتب سبينوزا متسائلا في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة: «إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها»، وكتب روسو في العقد الاجتماعي: «يخطئ في نظري أولئك الذين يفصلون بين اللاتسامح المدني واللاتسامح اللاهوتي. فهذان النوعان لا انفصام بينهما. إذ من المتعذر العيش بسلام إلى جانب من نعتقد أنهم هالكون. فإذا أحببناهم وقبلناهم نكون قد غلطنا في حق الإله الذي عاقبهم. فلا بد إذن من أن يردوا أو يعذبوا. فحيث يكون اللاتسامح الديني مقبولا، يكون من المتعذر ألا تتمخض عنه نتائج مدنية. وحالما تتمخض عنه هذه الآثار تزول عن هيئة السيادة سيادتها حتى في الأمور الدنيوية، عندئذ يغدو الكهنة أرباب السيادة الحقيقية، ولا يكون الملوك إلا ضباطا لهم».
لكن على رغم هذا التوسّع لدلالات اللفظ وتنوع حقول استعماله، إلا أنه ظل دائما مرتبطا بمفهومات المحبة والإحسان، وبسياق ديني أخلاقي. الأمر الذي حال دون فعاليته حتى عند من يعتبرون أنفسهم ناحتيه ومولديه. ويكفي أن ننتبه إلى ما يعرفه الغرب المعاصر،سواء في علاقته بمستعمراته السابقة، أو بالأقليات المتعايشة معه من ابتعاد عن هذه «المحبة»، ومن مظاهر اللاتسامح، كي لا نقول التعصّب والعنصرية، حيث يشكل عدم الاعتراف بالآخر، وبالخصوصيات الثقافية، صفات ملازمة لكثير من المواقف. مما جعل البعض ينادي بضرورة إنقاذ المفهوم بإرسائه على أسس فلسفية حتى لا يظل فحسب مجرد إلزام أخلاقي، وكي يتمتع بنوع من الحصانة ويغدو حاجة تفرضها الضرورات السياسية والقانونية، وينتقل من مجرد التكرّم و السخاء إلى الاعتراف بالحق، بل إلى احترامه.
وهنا يلزمنا أن نعترف بمسألة أساسية ونسجل أن التسامح، مهما قلنا ومهما تحفظنا، يجيء دوما من جانب «الأقوى حجة». فهو دوما تأكيد لسيادة. هذا ما نلمسه حتى عند بعض المؤسسين له. كان هؤلاء يقولون: إذا لم تستطع أمام الشر حيلة، فتغاضَ عنه، حتى إن كنت تراه كذلك، فذلك هو السبيل لتحمّل الآخر والعيش إلى جانبه. واضح أن من شأن هذا الفهم أن يوقعنا في نسبية ثقافية تصدر أساسا، لا عن عدم إقرار برأي الآخر، وإنما عن الانطلاق من أن الأنا تضع نفسها جهة الحقيقة والخير، جهة السيادة، مُبدية نوعا من التساهل (وهذا هو اللفظ الذي عبر به منذ بداية القرن الماضي فرح أنطون عن المفهوم) و«التنازل»، كي لا نقول «التغاضي»، إزاء الآخر، متحملة (كما يقول الاشتقاق اللاتيني للكلمة tolerare : supporter ) انزلاقاته وفروقه. فكأن المتسامح يقول: سأغض الطرف عن كثير من الأمور و سأفسح لك المجال في بيتي، إلا أن عليك أن تتذكر دائما أنك في بيتي. فكأن «غض الطرف» هذا يجعل من التسامح مجرد عدم اكتراث بالآخر و «لامبالاة» به Indifférence .
بهذا المعنى سيغدو التسامح هو النقيض المقابل للضيافة، أو هو «ما يضع لها حدا ». فإذا كنت أقبلك في بيتي رابطا الضيافة بالتسامح، جاعلا هذا شرط تلك، فمعنى ذلك أنني متمسك بالحفاظ على سيادتي ونفوذي وكل ما يتعلق بأرضي وبيتي وديانتي ولغتي وثقافتي... أنا أهب الضيافة وأفتح بيتي متسامحا، أي شريطة أن يلتزم الغريب بمعايير حياتي، إن لم يكن بثقافتي ولغتي وتشريعاتي. هذه هي النغمة التي أصبحنا نسمعها من كثير من بلدان الشمال. معنى ذلك أن هذه البلدان لم تعد تحمل المفهوم المعاني الأخلاقية والدينية التي أقيم من أجلها، لم تعد تتحمل «الضيف»، لم تعد تتحمل الغريب والآخر، إلا في حدود معينة، إلا وفق شروط. لم يعد التسامح عندها «محبة وإخاء»، بل أصبح ضيافة متخوفة، ضيافة متحفظة، ضيافة سيد لمسود، ضيافة حذِرة غيورة على سيادتها، ضيافة مشروطة. فهي إذاً ليست ضيافة.
ذلك أن الضيافة لا تكون كذلك إلا إذا كانت منفتحة على ما لا يمكن توقعه، إلا إذا كانت منفتحة على غرابة الغريب، إلا إذا كانت متقبلة للضيف وما يضيفه. إنها لا تكون ضيافة إلا إذا كانت زيارة، وليس تلبية لدعوة واستجابة لطلب. لن تكون ضيافة إلا إذا تحررت من منظور «النسبانية الثقافية».
هذا التحرر رهين بأن نسلم بأن الاختلاف الذي يقوم عليه التسامح، قبل أن يعني الآخر، فهو يعني الذات، قبل أن يكون حركة توجهنا نحو الآخر، فهو حركة تبعدنا عن ذواتنا. لا يتعلق الأمر بطبيعة الحال، بدعوة أخلاقية إلى نكران الذات وإلغائها، ولا بموقف أنطلوجي ينفي الهوية. فليس الهدف الرجوع بالمفهوم إلى معناه الأخلاقي، ولا الوصول إلى حد لا نقول عنده أنا أو نحن، ليست الغاية أن يدفعنا قبول الاختلاف إلى محو الهوية، ليس الهدف نفي الشعور بالتمايز، وإنما الوصول إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية وإبرازها في مقابل التنوع الذي نكون عليه. هنا يغدوالتفرد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحّد ضيّقا أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والانطواء على الذات سدّا أمام لانهائية الأبعاد الممكنة. آنئذ تبدو لاجدوى التعصب لرأي، أوالتشبث بمنظور، أوالتعلق بنموذج، فتمتنع الذات من أن تضع نفسها جهة الحقيقة والخير والجمال، وتضع الآخر حيث تراه هي في الضفة المخالفة، أي في ضفة الشر والخطأ.
تساءل ڤولتير في القاموس الفلسفي: «ما هو التسامح؟» فأجاب: «إنه وقف على كينونتنا البشرية. كلنا ضعفاء وميالون للخطأ. لذا دعونا نتسامح مع بعضنا البعض، ونتسامح مع حماقات بعضنا البعض بشكل متبادل. وذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة. المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة». هذا التخطيء للذات قبل تخطيء الآخر، وهذا الإحساس بأن «علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا» كما يقول كارل بوبر، هو الذي يُمَكننا من أن نخالف أنفسنا ونكون على استعداد كي نقبل في أنفسنا آخر، وتتحول ضيافتنا من ضيافة مقنّنة، ضابطة لقواعد الاستقبال، معقَّمة ضد فيروسات الآخر، مسلحة ضد ما فيه من غرابة، إلى ضيافة «خالصة» تتطلع لما في الغريب من غرابة، بل وتفتح له صدرها بالضبط «نظرا لغرابته».
Top