أهمية التنوير الديني والاجتماعي في وقف الضلالة والخرافات في العراق
حين يعيش المجتمع في دولة لم تعرف التنوير الديني والاجتماعي , وحين يساق المجتمع كالقطيع إلى الحروب التي لا ناقة له فيها ولا جمل في ظل دكتاتورية غاشمة عاثت في الأرض فسادا ولعقود عدة , وحين يهيمن الفكر القومي الشوفيني والديني السلفي المتخلف والمشوه ويسود في المجتمع , وحين يعيش المجتمع بسبب ذلك وغيره من العوامل في مرحلة تتميز بردة فكرية واجتماعية وسياسية وثقافية مريعة , عندها تتسع قاعدة الضلالة في البلاد ويشتد أزر الخرافات ويزداد عدد المخرفين والدجالين وينمو دورهم وتأثيرهم في المجتمع وخاصة بين الفئات الفقيرة والمحرومة من التعليم والعلم والثقافة , عندها يترك العلم مكانه لمن هب ودب ممن فقدوا الصلة بالعصر الذي يعيشون فيه وبحضارة هذا العصر وثقافته. حينذاك يبدأ أنصاف الجهلة وأشباه الرجال يتحرون في الزوايا الخاوية كالفئران عن تلك الخرافات التي دبجها السابقون في الفترات المظلمة من تاريخ العرب والمسلمين ليخرجوا بها إلى العالم لينشروا الخرافة والجهل على نطاق واسع محاولين من خلال ذلك الترويج والبرهنة المهزوزة على نهجهم الفكري والسياسي البائسين والمشبعين بالعداء للقوميات الأخرى ولأتباع الديانات والمذاهب الأخرى. إن البضاعة الرخيصة والبالية لهؤلاء الدجالين من شيوخ الدين غير الأوفياء لدينهم يبرزون بشكل خاص في مثل هذه الأوضاع المعقدة والأزمات المتفاقمة والصراعات المحتدمة والمشكلات الكبيرة التي يعاني منها افراد المجتمع كالفقر ونقص الخدمات والبطالة ..الخ لينشروا المزيد من ضلالاتهم ويوجهوا نيرانهم الفاشوشية صوب وحدة الشعب ووحدة نسيجه الوطني وضد الفكر التنويري والقوى الديمقراطية التي ترفع رايات الوحدة الوطنية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس أو القومية أو الدين أو المذهب أو الفكر أو الاتجاه السياسي الذي يحمله المواطن والمواطنة.
خلال القرن العشرين برز الكثير من الدجالين من شيوخ الدين في العراق , ولكن برز بجوارهم جمهرة غير كبيرة من شيوخ الدين الأوفياء لدينهم وشعبهم وللسلام بين القوميات , إذ لا يزال الوسط الديمقراطي يذكر باحترام تلك الأسماء المعروفة من أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني ومحمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الكريم الماشطة والشيخ محمد الشبيبي. فهذه المجموعة الخيرة وغيرها وقفت إلى جانب الشعب في قضاياه العادلة ولم تُخضع الدين لإرادة الحكام الطغاة ولم تتدخل بالسياسة إلا بقدر منع اضطهاد الشعب أو خوض الحرب ضد الشعب الكردي , إذ لا يزال صدى منع القتال ضد الكرد يصل صافياً إلى اسماع العراقيات والعراقيين حين صمت الكثير من شيوخ الدين على الحرب القذرة التي خاضتها القوى القومية وزن؟ام عارف ضد الشعب الكردي أو تلك التي خاضها صدام حسين فيما بعد ضد هذا الشعب الصديق. ففي الخامس من تموز/يوليو عام 1965 حرم المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم القتال ضد الأكراد في شمال العراق. وعلينا أن ندرك أهمية هذا الموقف حين نعرف بأن الغالبية العظمى من جنود الجيش العراقي كانوا من أتباع المذهب الشيعي. وقد اربك هذا الموقف الحكومة العراقية ورئيس الجمهورية حينذاك عبد السلام محمد عارف , وهي الفتوى التي دفعت فيما بعد الدكتور عبد الرحمن البزاز التفكير بحل سلمي للقضية الكردية حين ترأس مجلس الوزراء في أيلول من عام 1965 بعد فشل انقلاب عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء حينذاك, ومن ثم شكل وزارته الثانية في نيسان من عام 1966. وفي حينها طرح مشروع الحل السلمي للقضية الكردية , ولكنه لم ينجح بسبب جهود القوى العسكرية القومية الشوفينية وبسبب ضعف المقترح الذي تقدم به والذي تضمن إدارة ذاتية لا غير.
التزم بعض شيوخ الدين من اتباع المذهبين الشيعي الجعفري والسني الحنبلي والحنفي الدفاع عن النظم السياسية الحاكمة في العراق وعن سياساتها الداخلية والخارجية مبتعدين كلية عن الشعب وعن حاجاته ومصالحه الأساسية. وكان لهذا أثره السلبي على حياة الناس , وخاصة المؤمنين منهم.
واليوم يظهر أمامنا شيخ دين خرافي بكل معنى الكلمة لا يبشر بالأخوة والصداقة والمحبة بين أبناء القوميات العديدة في العراق , ولا يبشر بالخير والأمن والسلام بين البشر العراقي , بل يحاول إثارة الكراهية والحقد والعداوة بين الناس بذريعة أن المهدي المنتظر سيظهر حين تبرز علامات معينة مترابطة, ومنها الحراك الكردي ضد الحكم الإسلامي في العراق , وسيقاتل الأكراد لأنهم مارقون! هذا الرجل الصغير , جلال الدين الصغير , الذي يبشر بمثل هذا الأمر ويطرح آراء شيوخ دين قيلت في العهود المظلمة السابقة من التاريخ العربي والإسلامي , يتسم بنزعة عنصرية تميز بين الـ "انا" العربي المسلم الخير والطيب وبين الـ"آخر" الكردي الشرير والمارق , بذريعة أن الكرد مارقون. ويبدو لي بلا أي لف أو دوران أن المارق الفعلي في هذا المجال هو من تبنى وطرح هذه الآراء البالية والخرافية والمشوهة ويعمل على تأجيج الصراع ضد الشعب الكردي ويدافع عن السياسات الخاطئة الي يمارسها رئيس الوزراء المعبر عن التحالف الوطني للبيت الشيعي الذي ينتمي إليه.
إن الرجل بهذا المحاضرة البائسة والمليئة بالأخطاء اللغوية والنحوية والمليئة بالافتراءات والإدعاءات الضالة التي ألقاها وهو خطيب وإمام مسجد "براثا: التاريخي لم يرتكب خطأً فادحا فحسب , بل يمكن أن ينشأ عنه جريمة حرب يراد منذ الآن التهيئة الفكرية والسياسية والشعبية العربية لها بدعوى إن المهدي المنتظر في حالة ظهوره سوف يقاتل الأكراد في العراق حصراً لأنهم مارقون! تباً لمثل هذا الرجل الذي فقد القدرة على تحكيم العقل في معالجة القضايا الراهنة بالحكمة واستدعى من التراث السلبي ما هو سيء ليستند إليه في بلورة أسباب ظهور المهدي ليحارب الكرد في العراق حصراً لأنهم ضد الدولة الإسلامية , وهذا بالضبط هو بيت القصيد.إنها محاولة لإستاد سياسة رئيس حكومته على طريقة ساند أخاك ظالماً أو مظلوما!
لم يكن الشعب الكردي مارقاً , بل كان مناضلاً مع الشعب العربي في العراق وبقية يالقوميات ضد الدكتاتورية الغاشمة وضد الحرب والإرهاب ومصادرة الحقوق القومية وحقوق الإنسان العادلة والمشروعة. بل كان حكام العراق مارقين زهم الذين اضطهدوا الجميع ونفذوا مجازر الأنفال التي تجسد بحق جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية , والمارقون اليوم هم من يؤججوا الصراعات ويهيئون الأرضية لحرب جديدة ضروس ضد الشعب الكردي , هم من يحاولن إثارة النعرات العنصرية من خلال فتاوى واجتهادات دينية بائسة أو مشوهة ومزورة قيلت باسم آخرين لا يعرف مدى صحة قولها أصلاً , إذ لا يعقل أن يتحدث الإمام جعفر الصادق مثلاً , وهو المؤسس للمذهب الشيعي عملياً , أن يتحدث بهذه الصورة عن الكرد وهم بشر كبقية الناس لا يختلفون عنهم, ففيهم , كما في غيرهم من الشعوب الغالبية الخيرة والقلة القليلة غير الصالحة , وهو ما نجده عند العرب وعند شيوخ الدين ايضاً.
إن ما تحدث به إمام وخطيب جامع براثا جلال الدين الصغير يرقى إلى توجيه تهمة له بإثارة الأحقاد والكراهية والبغضاء بين الشعوب , أي إثارة الشعوب الإسلامية الأخرى القاطنة في منطقة الشرق الأوسط , ومنها الشعب العربي في العراق , ضد الشعب الكردي. والدستور العراقي الحالي يحرم ذلك ويعاقب عليه. فقد جاء في الفقرة الأولى من المادة السابقة من الدستور بهذا الصدد ما يلي:
"اولاً: يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، او يحرض او يمهد او يمجد او يروج او يبرر له، وبخاصة
البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت اي مسمى كان، ولا يجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون." الدستور العراقي الصادر في العام .2005
وفي هذه الفقرة نكتشف المخالفات الثلاث الأساسية لشيخ الدين الصغير وهي:
** ترويجه لفكرة عنصرية تميز بين البشر على اساس الجنس أو العراق أو الأثنية أو القومية.
** وهو يتهم الكرد بالمروق أي الخروج على أو عن الدين الإسلامي وهو بهذا يتهمهم عملياً بالكفر.
** وهو يؤسس لفكرة خطرة مفادها إمكانية خوض حرب ضد الكرد حتى قبل أن يبدأ المهدي المنتظر قتاله بعد ظهوره ضد الكردي.
وإزاء هذه الحالة أتوجه بدعوة نقابة المحامين العراقية ونقابة محامي كردستان بدراسة الخطبة التي ألقاها شيخ الدين الصغير وبلورة إمكانية إقامة دعوى قضائية في العراق أو في الإقليم أو في المحكمة الدولية الخاصة بحقوق الإنسان لمقاضاته على هذه المسائل الثلاث التي فيها إثارة وتأجيج الصراع والتأسيس لنزاع مسلح ضد الشعب الكردي في العراق حصراً.
إن من واجب شعب كردستان وكل الخيرين من العرب وبقية القوميات أن يحتجوا بقوة ضد هذا الشخصية الدينية التي تحرض ضد الوئام والعيش بسلام بين قوميات الشعب العراقي.
والصغير يحلم باستئصال الكرد من المنطقة لأن المنتظر حين يظهر يقتل جميع المارقين, وبما إن الكرد أغلبهم من المارقين فهم سوف يقتلون. ومثل هذه الأحلام السادية راودت صدام حسين وعلي حسن المجيد وانتهوا إلى مزبلة التاريخ زما يزال الشعب الكردي شامخاً , وسيكون مصير كل من يحلم بقتل واستئصال الشعب الكردي أو أي شعب آخر المصير ذاته. إنها لمأساة حقيقة أن نرى رجل دين يلعب دوراً دينياً وسياسياً في العراق ويتحدث بخرافات "شرب" خيول الترك الماء من الفرات وهم في طريقهم لإنجاز المهمة ضد الكرد السوريين, في حين إن العالم يتحدث بالتقنيات الحديثة في القرن الحادي والعشرين. إن أمثال هذا الرجل يعيشون القرون السالفة في الحاضر ويتوهمون أنهم قادرون على استئصال شعب بكامله بظهور المهدي المنتظر, وهو يرسم صورة المهدي المنتظر على شاكلة تفكيره السادي والنرجسي المرضي.