آليات الديموقراطية وطبيعة العلاقات الحزبية وهوية الأحزاب
وإذا كانت هذه المقدمة تشير إلى موضوعات ذات أهمية وتتطلب معالجات مستقلة، فإننا هنا نستفيد منها بتوكيد ظهور نشاط تميَّزَ باستقرار العمل المؤسسي العام سواء منه الحكومي أم العائد للمجتمع المدني وللحركات السياسية. وهذا هو الذي دفع باتجاه العمل الحثيث من جهة لمتغيرات إيجابية حملتها ورقة الإصلاح المقدمة من القيادة الكوردستانية ومن جهة أخرى في الاتجاه نحو سنّ القانون الأساس (دستور الإقليم) فضلا عن قوانين الأحزاب والجمعيات المدنية بالاتساق مع التقدم النوعي في المشهد العام لممارسة آليات الديموقراطية.
إنّ البعد الاستراتيجي وحجم المتغيرات المنتظرة يفرض التدرج النسبي في مسيرة الإصلاح وتحديدا حاسما لهوية الحركات الحزبية يلزمها بالخضوع المنهجي والفعلي لقوانين الدولة المدنية. ومن الطبيعي هنا أن تثار إشكاليتين:
تتمثل الأولى في الانتهاء من الخطاب الراديكالي في ممارسة العمل الحزبي. وولوج العمل البرلماني ووسائل تلبيته إيجابا. فيما تتمثل الإشكالية الأخرى بمنع تسييس الدين وحظر تشكيل الأحزاب على أسس دينية. وفي إطار الإشكالية الأولى تتأكد مسألة تطبيع العلاقات بين أطراف العملية السياسية على أسس سلمية بنائية تكاملية لا تطاحن ولا صراع تناقضي إلغائي أو إقصائي فيها. وفي إطار الإشكالية الثانية تتأكد مسألة تعايش الجميع في عقد اجتماعي معاصر يقوم على أسس التمسك ببنية الدولة المدنية وقوانينها المرعية، طبعا بعيدا عن أشكال الالتفاف والتراجع التي يمكن أن تنجم عن توظيف الدين السياسي وألاعيب الأحزاب الدينية التي تشكل ببرامجها رجوعا ماضويا سلبيا خطيرا بالمجتمع وهي برامج تمثل انتكاسة لطابع التعايش في مجتمع كوردستان وتتعارض مع حقيقة احترام التعددية والتنوع التي يتركب منها المجتمع.
إن الخطوة التالية بعد قضية تحديد الهوية المدنية العلمانية للحركات والأحزاب بل لمجمل مؤسسات المجتمع؛ هي خطوة تأطير العلاقات بين المعارضة والحكومة بأسس قانونية دستورية تعتمد مبدأ إقرار خيارات الناخب والسير بعملية البناء على وفق برامج الحكومة المنتخبة بتفاعل إيجابي بنّاء. أي بدعم مسيرة العمل المؤسسي وليس الوقوف بوجهه وعرقلته بالخطابات المثيرة للمشكلات...
إن طبيعة العلاقات ليس بين الأحزاب حسب بل بين الحركات الدينية والحكومة [ومجموع مؤسسات الدولة] هي علاقات محكومة بالمواقف المتشنجة المتوترة لأحزاب التأسلم السياسي. فأساس الموقف الفكري يقوم على ادعاء صواب الرأي واستمداد المطلق من مبدأ نيابتها عن المقدس الإلهي وتمثيل الله بمقابل تكفير من عداهم دينيا ومن ثمّ تكفيرهم في كل مجالات الحياة وتفاصيلها حيث يرون خضوع كل شيء لسوداوية ما يعتقدون به!
من هنا فالأحزاب أو الحركات الدينية تقف موقفا عدائيا من أنشطة مؤسسات الدولة وأكثر من ذلك فإنها تتحيّن الفرص وتستغلها لاطلاق فوضى الشغب من حرق المحلات والأندية الاجتماعية ومحاولة قمع الأنشطة المدنية وتحريمها بفتاوى جاهزة حسب الطلب. وطبعا يجد السياسي المحنك نفسه تحت مطرقة العمل القانوني لبعض تلك الحركات (الإسلاموية) وسندان أعمال الابتزاز التي تبتغي من وراءها اجترار مواقف وقرارات ترهب المجتمع من جهة وترسل تهديدات سافرة للمسؤولين!
إنّ هذه الأمور بحاجة لندوات واسعة من جهة منظمات التخصص ولحملة إعلامية عريضة تشمل قطاعات المجتمع ومستوياته المختلفة. لأن منتسبي الأحزاب هم من بين هذه القطاعات وهم ممن تمر عليهم بعض الشعارات والأعمال التي تتخفى وراء أستار الدين. إن الفصل بين الدين والدولة هو فصل بين البنية المدنية للمجتمع وطبيعة الحاجات الحياتية وتفاصيل اليوم العادي للإنسان وبين الدين والقضايا الطقسية التعبدية التي تحكم العلاقة بين الإنسان وما يؤمن به عقيديا.
هذا من جهة التثقيف والوعي الشعبي وتبادل التأثير بشأن أنشطة الأحزاب الدينية ولكن من جهة علاقة تلك الأحزاب [الدينية] مع المؤسسة الحكومية تبقى محكومة بالقانون المخصوص. وهذا القانون هو ما يجب أن يصدر على وفق منطق الدولة الحديثة المعاصرة وآليات العمل في إطارها. وأول هذه الأمور وجود قانون أحزاب يحظر كل حركة تقوم على الفوقية والاستعلاء على الآخر أيا كان المرجع الذي تستند إليه سواء كان هذا العنصرية وفكرها الشوفيني أم محاولة الادعاء بأسلمة العمل الحزبي وإضفاء التدين والأخروي الغيبي على الدنيوي المحسوس من قضايا الناس حيث يقتضي القانون فضح زيف المزاعم التي تلغي الدنيوي وتحكمه بالديني بالاختلاف مع الحديث النبوي الذي يؤكد واجب الإنسان على العمل لدنياه باستقلالية مثلما لآخرته "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا"...
إن القوانين المدنية التي يجب أن تحكم العلاقة بين الأحزاب جميعا وبين مؤسسات الدولة والحكومة العاملة هي الضابط الوحيد الذي ينبغي أن يسود في رسم العلاقات وهو الأساس المنطقي الوحيد الذي يشرعن للعمل الحزبي ومن ثم للعلاقات بين الأحزاب من جهة وبين الحكومة وبينها وبين الشعب بما يسمح بعملها قانونيا في ضوء ضوابط قوانين الدولة المدنية. وبما يُخرِج كل ما عدا ذلك من إمكان إتاحة الفرصة له لكي يخرب مسيرة البناء...
إن هذه الحقائق التي تتعلق بهوية الأحزاب وعلاقاتها والأنشطة التي يمكنها القيام بها، يلزم تحديدها بقانون الأحزاب المستمد من الدستور المدني بوصفه العقد الاجتماعي الأشمل لخيار المجتمع في حياته المعاصرة. ومن الوهم إغماض الأعين عن عيش الناس وتخيل أنهم أبناء قرون خلت ما يفرض عليهم هنداما كلاسيا وتجميدا للفكر وتحنيطا للأدمغة ووضعها في مجمدات كهوف أزمنة الظلام مما لم ينزل الله به من سلطان...
إن أحزاب التأسلم التي باتت اليوم تبتز الدولة والمجتمع مرة بإرهاب التطرف والتشدد واستخدامه العنف الدموي والبلطجة ومرة بالتكفير وبالهراوات الفكرية التي تصادر العقل العلمي، هي حركات خارجة على العصر ومنطقه ومعادية حتى للقيم الدينية السمحاء التي لا تقبل بعنف حيث الدين عند الله الوسطية والاعتدال وحيث الدين عند الله لا يقبل وساطة بين الرب وعباده وحيث الدين في جميع الكتب المقدسة هو إشاعة السلام والتعايش والإخاء والمجادلة بالتي هي أحسن وأن لا إكراه في الدين بينما كل طروحات التأسلم تقوم على إلغاء الآخر بتكفيره وإرهابه وكل علاقات تلك الحركات تقوم على الابتزاز والتهديد واختلاق المشكلات حتى عندما يحكمون ويتسلمون السلطة فإنهم يختلقون الصراعات بين الطوائف والفرق المغلقة على نفسها المنقطعة عن الآخر..
ما يراد إذن، يكمن في قانون يوقف توسع أفعال الابتزاز فلا ديموقراطية بوجود أحزاب عنصرية أو شمولية أو أحادية والحزب ينبغي أن يقوم على تمثل المجتمع وانفتاحه على تركيب المجتمع في دولة مدنية موجودة بالفعل لا في محمية تخضع إكراها لفلسفة كهوف القرون الوسطى وظلامياتها...
وتلك الإشارة ستشمل فيما تشمل طبيعة العلاقة بين الأحزاب العلمانية بما يجعلها تقوم على الحوار والتفاعل البناء الخاضع للقوانين وليس راديكالية انقلابية تقوم على التناقض والإلغاء ومحاولات التسقيط. وأية صراعات فكرية أو سياسية تلتزم بسلميتها في الجوهر وبتداول البرامج التي ترسم طريق الإعمار والبناء وتشتغل على تلبية مطالب الناس لا مطالب الأحزاب المنغلقة على بنيتها وتقف عند تخوم التداولية السلمية للسلطة مثلما تتبنى مسيرة الإيجاب رافضة مسيرة السلب..
إن إشكالية هوية الأحزاب وعلاقاتها ستبقى العامل الرئيس في تقدم يستشرف مستقبل ديموقراطي ولعل مقدار التعميم في هذه المعالجة لا يبتعد عن إشارات مخصوصة إلى أطراف عاملة كوردستانيا ممثلة بالقيادة الكوردستانية المنتخبة ومشروعها الإصلاحي وقوى المعارضة المدنية منها وتلك الأحزاب التي تزعم تمثيلها المقدس الإلهي بادعاء تمسكها بالدين في إيحاء ابتزازي بتكفير الآخرين عبر خلط الدنيوي بالديني وعبر منح الذات قدسية وعصمة وفوقية استعلائية لا على الأحزاب حسب بل على المجتمع بأكمله..
يمكننا هنا أن نذكر بالفروق الجوهرية بين الدعاة وجمعيات الدعوة الدينية وهي حق مدني مكفول في دول الدساتير العلمانية وبين قادة حركات التأسلم السياسي وأحزابه من الخارجين على منطق الحياة المعاصرة والمبتغين مآرب معادية لوجود الناس ومطالب حيواتهم حيث يعملون على إخضاعهم للابتزاز بإسقاط المقدس الإلهي على تلك الحركات والأحزاب..
لنا عودة لمناقشة تفاصيل ممارسات أسوا من راديكالية من الاعتداءات التي جرت بحق المنتديات والأنشطة المدنية ومن استغلال للجوامع والمساجد لمآرب غير دينية بخلاف النص الديني المقدس ومن أنشطة عسكرة أحزاب التأسلم وأخذها طابع ميليشياوي بالتدربات العنفية فضلا عن الفلسفة التي يجري ضخها بأساليب عدائية للآخر وبما يخرق القوانين وبالسخرية من مطالب إعمار الأرض التي أمر بها الله وبإشاعة السوداوية والاكتئاب واختلاق الأمراض النفسية والاجتماعية وبقطع الناس عن وجودها وحاجاتها الحياتية وبكثير من التفاصيل المرضية..
هذه المعالجة جاءت بتداعيات لكشف الحقيقة وليس بأسلوب البحث الأكاديمي إلا أن ذلك يأتي تسهيلا للتناول الصحفي هنا وللوصول إلى أوسع قراء بوضوح ومباشرة تامتين.