• Friday, 22 November 2024
logo

من الجدل إلى الاختلاف

من الجدل إلى الاختلاف
لا يكاد خطاب يخلو اليوم من لفظ الاختلاف. ولا يقتصر استعمال اللفظ على الخطاب الفلسفي وحده، بل إننا نلفي المفهوم عند دعاة الايديولوجيا و أصحاب النقد الأدبي، و نقاد السينما و الفنون التشكيلية ورجال السياسة ، بله رجال الإعلام وأصحاب الإشهار. وغالبا ما نجد اللفظ لا يحيد كثيرا عن المعاني التي يختزنها مفهوم آخر أطول منه عمرا هو مفهوم الجدل مع ما ينطوي عليه من سلب وتناقض. فما هوإذاً مبرر اللجوء إلى مفهوم آخر للتعبير عن التضاد و الخلاف إن كان لفظ الجدل يغنينا عن ذلك؟ الظاهر أن لا ضرورة لذلك اللهم إن كان مفهوم الاختلاف ينطوي على ما من شأنه أن "يتجاوز" الجدل، ويقيم مفهوما مغايرا عن التناقض بل عن الهوية ذاتها.
ربما وجب للإجابة عن هذا التساؤل، الذي ينطوي على أكثر من سؤال، الوقوف عند مفهوم الاختلاف ذاته قبل تحديد ما اذا كان ينطوي بالفعل على ما من شانه أن يتجاوز لا الجدل وحده، بل ربما تاريخا معينا للفلسفة. فماذا يعني الاختلاف أولا؟
كتب جان بوفري: " لنتأمل كلمة différence . هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيري الذي يعني في الإغريقية، ثم في اللاتينية feri :حمل و نقل...الاختلاف ينقل إذن، فماذا ينقل؟ انه ينقل ما سبق في الكلمة ديافورا فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعادا و فجوة.. الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدا إحداهما عن الأخرى. إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاما. إنه، على العكس من ذلك يقرب بين الطرفين اللذين يبعد بينهما".
لعل أهم ما في هذا التحديد لمفهوم الاختلاف هنا، ليس لحظة الإبعاد بين الطرفين، إذ أن ذلك يبدو من بداهات التضاد والخلاف، المهم هنا هو كون الاختلاف إذ يبعد بين الطرفين يقرب بينهما. هذا التقريب غالبا ما يُهمَل في تحديد الاختلاف، و حتى إن أُخِذ بعين الاعتبار، فانه يُردّ إلى مجرد لحظة التركيب الجدلية.
غير أن ما يميّز " الاختلاف" بالضبط عن الجدل، هو كون هذا التقريب ليس هو التركيب الجدلي، ليس هو المصالحة بين الأضداد. و قد سبق لهايدغر أن شدد مرارا على هذه النقطة، و أكد " أننا لا نقتصر على جمع الأضداد و ضمها و المصالحة بينها"، ف "الكل الموحَّد يَعْرض أمامنا أشياءَ يتنوع وجودُها و يتباين و قد اجتمعت في الحضور ذاته".
الوحدة التي يعرضها أمامنا الاختلاف كحركة لا متناهية للجمع و التفريق ليست هي وحدة الأضداد. ذلك أن الحركة لا تتم هنا بين الكائن و ضده أو نقيضه، و إنما تنخر الكائن ذاته. وهذه نقطة أخرى لتميز الاختلاف عن الجدل. السلب هنا هو الحركة اللامتناهية التي تبعد الذات لا عن نقيضها فحسب، بل عن نفسها أولا و قبل كل شيء. الابتعاد و التقريب يتمّان هنا "داخل" الكائن، إن صح الكلام عن داخل. الاختلاف قائم في الهوية. على هذا النحو " يحدد" مفكرو الاختلاف الهوية أ = أ "كحركة لامتناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته، و تقرب بينهما بفعل ذلك التباعد" على حد تعبير ميشيل فوكو. ما يهمهم في ذلك الرسم، ليس الطرفين، أو على الأصح ليس الطرف الهارب من نفسه، و إنما القنطرة التي ترسمها علامة التساوي، وهي قنطرة لامتناهية الطول، إنها الحركة التي تضع الزمان "داخل" الكائن، فتحول بينه و بين الحضور و التطابق. لذا فهم يميزون الهوية عن التطابق. ويعتبرون الذات في تباعد عن نفسها، كما ينظرون إلى الآخر، لا على أنه سيأتي من خارج، وإنما على أنه بُعد الذات عن نفسها. فلا مكان في نظرهم لهوية عمياء تقوم في غياب عن الآخر، وهم يطرحون الإختلاف على مستوى الأطروحة من غير حاجة إلى"الخروج" نحو النقيض. و يرون في ذلك لا عمل السلب وحده، بل عملا ايجابيا بناء "يشكل" الهوية و يبنيها. لعل هذا ما يقصده جيل دولوز عندما يؤكد:"يتعلق الأمر ببعد ايجابي بين المتخالفين: إنه البُعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما متخالفان.".
ها نحن نرى أن الإختلاف بهذا المعنى ليس فحسب مجرد إعادة نظر في مفهومات السلب والتضاد والتمايز، بل حتى في مفهوم الهوية ذاته. إرساء مفهوم جديد عن الإختلاف هو إذاً إقامة نظرية مغايرة عن الهوية، إقامة كوجيطو جديد يجعل الـ " أنا آخر" على حد تعبير الشاعر رامبو.
هذا النقل والسعي نحو الآخر يجعل الاختلاف يختلف كليا عن مجرد التمايز. فما كل تمايز اختلاف. في هذا الصدد يستبعد هيجل ما يدعوه الاختلاف الساذج الذي يتمثل وحدة الهوية كانسجام، ويدرك الاختلاف كتباين بين وحدات منغلقة. هذا الإختلاف الذي لا يبالي أحد الأطراف فيه بالآخرdifférence indifférente يجعل الكائنات المتخالفة مجرد تعدد مبعثر. إنه تنوع وحدات لا يكثرت طرف منها بالآخر. فهو لا يسعى نحوه، والأهم أنه لا ينظر إلى الكائن في الشرخ الذي يصدعه، فيجعله في بعد عن ذاته، ويجعل السلب يقطنه.
لا يمكننا أن ننكر أن الجدل يخضع هو كذلك لقانون السلب. إلا أنه لا يذهب بالاختلاف إلى أبعد مدى، إذ سرعان ما يسلك الطريق التي ترُدُّه نحو الذاتية المتطابقة مع نفسها فتجعل الذاتية كافية لإيجاد التناقض وفهمه. فليس التناقض عند الجدليين اختلافا أكبر إلا بالنسبة للتطابق وبدلالته. إن هذا التناقض يُفهم في أفق هوية يسعى الجدل إلى صيانتها وحفظها. وما يرمي إليه الاختلاف بالضبط هو تحرير السلب من هيمنة الكل وعدم توقيف عمله بفعل أي تركيب.
الانتقال إذن من الجدل نحو الاختلاف هو انتقال من مفهوم عن الكائن و عن الزمان و عن الهوية نحو مفهومات "مخالفة". انه تجاوز للميتافيزيقا و لـ"منطقها"، لا ميتافيزيقا الهوية كما تحددت عند المعلم الأول فحسب، وإنما الميتافيزيقا من حيث هي تاريخ للكائن وبنية للوجود. وهي كما بين نيتشه بنية أفلاطونية تقوم على ثنائيات متضادة تجد تصالحها في المنطق الجدلي. لعل هذا هو ما يجعل مفكري الاختلاف ينفرون من استعمال كلمة فلسفة فلا يتحدثون عن "فلسفة الاختلاف"، وإنما يفضلون لفظ الفكر، معتبرين الفكر تجاوزا للفلسفة تاريخاًً ومنطقاً.
Top