في الحداثة
عبد السلام بنعبد العالي
نبه أحد الدارسين الفرنسيين إلى أن الثقافة الفرنسية لا تنزلق في تحديدها لمفهوم الحداثة الى التشويش على هذا المفهوم وإقحامه ضمن ثنائيات، ومقابلته مع مفهومات أخرى، ربما ليست أقل صعوبة هي كذلك، شأن التحديث وما بعد الحداثة. فرغم أن هذه الثقافة يُنظر إليها من خارج كما لو أنها هي التي كانت فكريا وراء تيار ما بعد الحداثة، فنحن لا نلفي في هذا البلد أدبا يدّعي أنه ما بعد حداثي، كما أننا لا نجد معمارا ولا حتى فلسفة تزعم ذلك. بل إن مصطلح ما بعد الحداثة نفسه لم يلق رواجا كبيرا في اللغة الفرنسية، على عكس اللغة الأنجليزية وما تأثر بها من لغات. هذا على رغم أن الكتيّب الذي ألفه فرانسوا ليوطار سنة 1979 حول الوضع ما بعد الحداثي، كان من بين الكتب القليلة التي ساهمت في انتشار المفهوم.
عكس هذا تماما ما يمكن أن نقوله عن لغة الضاد. فقد لا نبالغ كثيرا لو أننا جزمنا بان أكثر المروّجين لمفاهيم التحديث ومابعد الحداثة، بل وحتى الحداثة البعدية، هم كتاب اللغة العربية. قد يقال إن مفهوم الحداثة مفهوم غامض متعدد الدلالات، وانه يطال كافة مستويات الوجودالانساني، وان الأشياء بأضدادها تتميز. ولكن الأمر قد لايصح حين يكون الضد في بعض الأحيان أكثر تعقيدا مما يقابله.
يتضح لنا ذلك إن أمعنا النظر في محاولات تحديد الحداثة بمقابلتها مع هذه "الأضداد". فعند محاولات تحديدها بمقابلتها مع التحديث على سبيل المثال، تتشعب الأمور، وسرعان ما تتحول المقابلة عند البعض إلى مقابلة السكون للحركة، والسانكروني للدياكروني، وعند البعض الآخر يغدوالتقابل بين الحداثة والتحديث تقابلا بين المثال النموذجي والمتحقَّق الفعلي، مع ما يشوب المتحقق من نقص وعدم اكتمال. وقد يتحول التقابل في أحيان أخرى إلى تقابل بين المرمى والغاية مع سيرورة التحول، أو إلى مجرد المقابلة بين المجرد والعيني.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فآخرون يجعلون الحداثة تقابل التحديث، ليس كما تقابل البنية التاريخ، ولا المرمى والغاية سيرورة التحويل، ولا النموذجُ المتحققَ الفعلي، ولا المجردُ العام العينيَّ الخاص، وانما المقابلة التي تمت في اطار سوسيولوجية التنمية التي ازدهرت في العالم الأنجلوساكسوني الذي نحت مفهوم التحديث خلال خمسينات القرن العشرين. في هذا السياق يشير البعض إلى ما يذهب اليه هابرماس من أن هذا التمييز " ارتكز على تجريد مقولة الحداثة وعزلها عن خلفياتها الفكرية ومسلماتها الفلسفية، وأضفى عليها طابعا وظيفيا في اطار سيرورة سوسيولوجية تلقائية، وفي منظور تطوري وتنموي، بعيدا عن أية آفاق فلسفية واضحة". التحديث بهذا المعنى هو الحداثة معزولة عن روحها الفلسفية.
ليس الأمر بأقل تعقيدا عند الذين يحاولون تحديد الحداثة بمقابلتها مع "مابعد الحداثة". وهنا تتعقد الأمور بتعقد معاني "البعدية" المقصودة. فبعضهم يرتئي التمييز بين ما بعد الحداثة وبين ما يطلق عليه "الحداثة البعدية"، على أساس أن هاته ليست إلا الحداثة في مرحلتها الثانية أو اللاحقة، أي الحداثة وقد وسعت مكتسباتها ورسختها، وسّعت مفهومها للعقل ليشمل اللاعقل، ووسّعت مفهومها عن القدرات الانسانية لتشمل المتخيل والوهم....فكأن الحداثة البعدية عندهم هي حداثة أكثر عمقا ورسوخا، لأنها غدت أكثر مرونة، أكثر قدرة على احتواء نقائضها، وفي هذا، في نظرهم، تجاوب عميق مع ماهية الحداثة نفسها كتجاوز مستمر وقطيعة متواصلة وتنكّر دؤوب لذاتها. هنا تغدو المابعدية مكوّنا ومحددا للحداثة، وتغدو الحداثة هجرة متواصلة، فكأنما لا يمكننا الذهاب أبعد من الحداثة ما دامت الحداثة تجعل المابعدية صميم حركتها.
الأمر مخالف لذلك عند الذين يقابلون الحداثة بـ"مابعد الحداثة". هنا يغدو المابعد تجاوزا ينظر إلى الحداثة ذاتها على أنها تقليد. ولكن سرعان ما تختلط لدى هؤلاء المابعديتان، المابعدي الفلسفي والمابعدي الزماني، فلا ندري بالضبط هل المابعد تجاوز فعلي للحداثة، بحيث تغدو هاته مجرد تقليد قياسا على مابعدها، أم أنه تعميق لمسار الحداثة، أو سرعة ثانية للحداثة بمعنى أنه استمرار لمنطق الحداثة ولعمقها الصائر من حيث هي نقد مستمر وتجاوز مستمر لذاتها. ومن الواضح هنا أن الاختلاف ليس أساسا بين شكلي المابعد، وإنما بين مفهومين عن الحداثة ذاتها: مفهوم يعتبر أن الانفصال ليس محددا للحداثة، وأن هاته سرعان ما تصبح تقليدا بالنظر إلى مابعدها، ومفهوم مخالف لهذا أشد المخالفة، مادام يعتبر الحداثة انفصالا متواصلا، وينظر إلى كل مابعد على أنه فحسب "حداثة الحداثة".
لا يبدو إذاً أن تحديد الحداثة بمقابلتها مع مفهومات مجاورة من شأنه أن يسهّل علينا مهمة التحديد، إذ سرعان ما نغرق في مفهومات يصعب التمييز بينها. فلماذا لا ننحو منحى ما أطلقنا عليه في البداية النهج الفرنسي ونذهب إلى أننا لن نكون في حاجة ماسة إلى مصطلحات أخرى إن نحن أخذنا الحداثة بالمعنى البودليري-النيتشوي، حيث تغدو مابعدية في جوهرها وعلى الدوام. هنا لن نجد أنفسنا إلا أمام موقفين: موقف واصف بارد ينشغل بالتحقيبات والوقوف عند الملامح وحصر السمات، وموقف مضاد ينظر الى الحداثة على أنها استراتيجية. سيتعلق الأمر حينئذ بمقابلة لم ترد معنا حتى الآن وهي تلك التي تواجه الهدنة بالتوتر. فبينما يتميز الموقف المهادن بهوسه التأريخي وبرودته الوصفية وسمته التقريرية التي تكتفي بالتحقيب ورصد المحددات، يعتبر الموقف الثاني أن الحداثة عصر بالمعنى الذي يعطيه هايدغر للكلمة، أي لا من حيث ان العصر فترة زمنية تمتد بين تاريخين، وإنما من حيث هو علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فعند كل عصر ينفجر بالنسبة للإنسان عالم جديد، و تنكشف بالنسبة لإنسان ذلك العالم علاقة جديدة للماضي بالمستقبل.
هنا تغدو الحداثة موقفا نضاليا ينبني على وعي بالحركة المتقطعة لا للزمن فحسب، بل للكائن، بحيث لا يعود الكائن مترابط العناصر سواء أكان ذلك على مستوى المعرفة أو المجتمع، وتظهر الانشطارات داخل ما يعتبر مواقع انسجام، ويتبخر كل ما هو صلب.
الحداثة اذا شكل من العلاقة المتوترة مع الراهن، واختيار واع ، ونمط من التفكير والإحساس، وطريقة في التفكير والسلوك ينبغي الاضطلاع بها. إنها استراتيجية مناضلة تقوم أمام استرتيجية مضادة تبديها قوة التقليد، من حيث ان التقليد يبدي مقاومات مستمرة، وتكيّفا ماكرا يتلبس ألف قناع لإمتصاص الحديث وإفراغه من محتواه.
ما يميّز الحداثة في مختلف أبعادها إذاً هو هذا التنكّر للذات، هذا "العقوق"، وهذا السعي نحو التضادّ والميل إلى عدم الرضا. لا نقصد بذلك فحسب كون الحداثة وحّدت بين العقل والنقد، وكونها جعلت من التوجّس والارتياب بنية معرفة ووجود، وإنما أنّها، تحديدا، حركة تاريخية غير راضية عن نفسها، غير راضية عن مؤسّساتها السياسية، ومنجزاتها التقنية وغزواتها الفلكية، واكتساحاتها المعرفية. إنها لا ترتاح للمفهوم الذي أرسته عن الفرد، ولا للمعنى الذي أعطته للحرية، ولا للمفهوم الذي رسّخته عن العقل، ولا للكيفية التي بنت عليها الديموقراطية، ولا للشكل الذي أرست عليه الحقوق...فهي إذن حركة لا تركن إلى سكون، ولا تخلد إلى راحة ولا تقنع ولا تقتنع، إنها دوما مابعدية، وهي على الدوام حداثة الحداثة.