• Friday, 22 November 2024
logo

المثقف بين السياسة والسياسي

المثقف بين السياسة والسياسي
من المعاصرين من يأخذ قولة أرسطو: "الإنسان حيوان سياسي"، باعتبارها تحيل إلى السياسي Le politique وليس إلى السياسة. ذلك أن الإغريق، في رأيهم، لم يبدعوا السياسة بقدر ما أبدعوا السياسيّ. لأسباب تاريخية معقدة عرف هؤلاء، ابتداء من القرن السابع قبل الميلاد، تجربة تاريخية واجتماعية متفردة بفضلها صار بإمكان مجموعة من الناس أن ينظروا إلى تجمّعهم كشيء مشترك يهمّ الجميع ويساهم فيه الكل res-publica. استطاعوا أن يحددوا مجالا تمارس فيه السلطة دون أن تُمتلك، مجالا توضع فيه السلطة بعيدا عن الجميع، أو على الأصح، وسط الجميع وبينهم، كما حاولوا أن يتساءلوا عن الكيفية التي ينبغي للمؤسسات أن تكون عليها لكي يعيش "البوليس" polis لكي تعيش المدينة على هذا النحو، أي لكي يعيش الإنسان كإنسان، أي بالضبط كحيوان سياسي.
أدرك الإغريق إذاً أن الحياة البشرية حياة جماعية، وأن الحياة الجماعية هي الحياة في البوليس، أي في مجال تُدبّر فيه شؤون المدينة بمساهمة الجميع في استقلال عن كل سلطة خارجية. صحيح أن هذا التدبير قد يختلف من مدينة لأخرى، من بوليس لآخر، لكن المبنى هو هو. وهو أن شؤون الإنسان في المدينة بيد الإنسان، بل بيد الجميع، جميع من يعتبرون بشرا.
بل إن الإغريق ذهبوا أبعد من ذلك، واعتقدوا أن هذا "السياسي" يمكن أن يكون موضع تفكير عقلاني، بعيدا عن الأسطورة ، وفي انفصال عن الخوارق. فالشأن البشري، أي الشأن السياسي، يخضع لقوانين يمكن استبدالها ومناقشتها والجدال حولها ومقارنتها فيما بينها، بل وتغييرها.
لا يعني هذا بطبيعة الحال أن الإغريق لم يعرفوا السياسة إلى جانب السياسي. إلا أن السياسة، وكما سيتأكد فيما بعد، ليست هي السياسي. السياسة تفترض أوّلا وقبل كل شيء وجود الدولة، أي وجود سلطة لها منطقها الخاص بحيث يمكن لمن يمتلكها أن يعمل على توسيع نفوذه و"بسط" سلطته. وسرعان ما سيغدو الشأن السياسي فيما بعد "صناعة" تمارسها أحزاب، وتتكفل بها منظمات سياسية تسهر على سيرالأمور وحماية حقوق الأفراد، بل إن السلطة ذاتها ستُبعّض وتقتسم وتُفْصَل فيما بينها.
في السياسي يكون الإنسان "في" السلطة، أما في السياسة فهو يكون "أمام" السلطة. السياسي نسيج الحياة البشرية وهو لحمة المجتمع وسداه. أما السياسة فهي منطق الدولة، وهي منظمات وهيئات وأحزاب. السياسيّ مستوىInstance من مستويات كل تشكيلة اجتماعية formation sociale، و هو قوام التاريخ والفكر، وكل ما يعمل وما يقال: إنه، كما يقول رولان بارط :" البعد الأساسي للواقع". أما السياسة فهي المستوى الذي يتحول فيه السياسي إلى حنكة ومهارة بل ودهاء ، وتغدو فيه روح المبادرة امتثالا لأوامر، و يتحول فيه النقد إلى ترديد للشعارات، ومحاولة تغيير الواقع إلى "أخذ الواقع بعين الاعتبار".
لا عجب إذاً ألا يفتأ المثقف، أي ذلك الذي يؤمن أن النقد بالضبط هو رأسماله الأساس، يشعر بخيبة أمله إزاء السياسة، فهو ما ينفك يحس أن نقده غالبا ما لا يعود مُجديا أمام خطابات "تتطبع" ولغة "تتخشب"، وأمام واقع عنيد لا يأبه به. غير أننا لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن المثقف يتنكر بهذا للبعد السياسي للواقع. إذ أن خيبة الأمل إزاء السياسة من شأنها، على العكس من ذلك، أن تقوّي الإيمان بأهمية السياسي، وتفتح دروبا ملتوية وطرقا لامباشرة كي تفعل الثقافة في السياسة.
لكي لا نبتعد عن المفكر الذي سقناه منذ قليل لنتذكر ما يقوله بارط عن اللغة، حينما يجزم أن نضاله كمثقف لا يمكن أن ينصبّ إلا على اللغة. فاللغة، بالنسبة إليه، سمّ وترياق. اللغة هي سبب نفوره من النضال السياسي المباشر، لأنها معقل الدوكسا والتقليد والتكرار والتخشب والاجترار. لكنها في الوقت ذاته، هي وسيلته، كمثقف، لمقاومة السلطات، وهي مجال نضاله.
"مراوغة اللغة" و"الإشتغال عليها" هما وسيلتا المثقف للاحتجاج على السياسة إيمانا بالسياسي
Top