من الثورة الى الانتفاضات
هذا التردد نفسه نلمسه حتى عند مؤرخي الثورات العظمى عبر التاريخ، فجلهم يكاد يقصر ظاهرة الثورة على العصور الحديثة، ويبدؤونها بالثورة الأمريكية سنة 1776 ، معتبرين حركات التمرد التي عرفها التاريخ فيما قبل ، كحركة سبارتاكوس، مجرد انتفاضات وتمردات révoltes.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن ليس هناك من يطلق لفظ الثورة على مختلف أشكال التبدّل، بل يعممها لتطال ميادين تتجاوز السياسة، فيتحدث عن الثورة الكوبيرنيكية والثورة النسائية والثورة الصناعية والثورة التقنية....
الاأن ما ينبغي ملاحظته هو أن لفظ الثورة كما في اللغة الفرنسية على سبيل المثال révolution يحيل الى اللفظ اللاتيني revolvere الذي يعني بالأولى الاتجاه الى خلف والتراجع، ومنه النعت الفرنسي révolu، أي ما مضى وانقضى. في هذا السياق ينبّه بعض من يهتمون بتاريخ اللفظ إلى أن لفظ révolution لم يتخذ المعنى الذي نستخدمه فيه حالا، أي التغيير المفاجئ العميق للبنية السياسية، إلا ابتداء من 1660.
نستطيع أن نقول إن الاستخدام الحالي يكاد يحدد مفهوم الثورة بمقابلته مع مفهوم الانتفاضة والتمرد ليضعهما في علاقة تضاد. فبينما تقوم الثورة على مشروع نظري يسعى أن يجد تحققه في الواقع الفعلي، بينما تشكل الثورة نظرية تسعى نحو التطبيق، فإن الانتفاضة، على العكس من ذلك، هي نوع من رفض التاريخ، أو كما يقول أحدهم " رفض الغد الذي لن يكون إلا مثل اليوم". الثورة "مشروع" pro-jet، إنها حركة ترتمي في المستقبل، وتقوم على رؤية، الثورة تقوم على ايديولوجيا تعتنقها فئات اجتماعية تسعى نحو تغيير الواقع متجهة به نحو قيمة. بهذا المعنى فالثورة إذ تقوم ضد مؤسسات فلإقامة أخرى بديلة. إنها تقوم ضد نظام بهدف إرساء نظام. أما التمرد فليس إلا محاولة لثني التاريخ عن مساره وتبديل حركته. بهذا المعنى فلا يمكننا أن نقول " إن الثورة هي انتفاضة منتصرة مظفرة". ذلك أن موقف كل من الثورة والانتفاضة من التاريخ يختلف اختلافا جذريا.
لو أننا سلمنا بما سبق، ووضعنا الايديولوجية شرطا لكل ثورة، فربما ينبغي أن نقول مع القائلين ب "موت الايديولوجية" بموت الثورات أيضا. فضلا عن ذلك فينبغي أن نؤكد أن الثورة لا تكون كذلك الا إن كانت تفلت من كل توقع، فهي تحديدا، حدث استثنائي. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنها بعيدة عن كل معقولية، وانما فحسب أنها قد لا تجد مبرراتها داخل فلسفة غائية للتاريخ، فلسفة ترى أن بإمكان الانسان أن يتبين مشروع المستقبل، إن هو رصد حركة التاريخ فتعقبها. غير أن ذلك لا يمنعنا من أن نبحث للثورة عن معنى وعن "سبيل للفهم" من خلال منطقها الداخلي وبتحليل بنيتها من غير أن نستعين بتسلسل عام أو نلجأ الى منطق كلياني.
لعل ذلك ما دفع البعض إلى أن يحاول طرح المسالة بعيدا عن هذا المنظورالدياكروني التاريخي، وينظّر للثورات بمعزل عن الحركية والتاريخ، ليدرسها في بنيتها و سانكرونيتها.
ذلك ما فعله بعض مؤرخي العلوم. ولعل أهمهم هنا هو "توماس كُون"، لا لكونه اهتم بـ "بنية الثورات العلمية" فحسب، بل لأنه يعقد في كتاب بهذا العنوان مقارنة بين الثورة العلمية والثورة السياسية. وهويرسم نوعا من التوازي بين الثورتين. فالثورات السياسية تبدأمع تصاعد الإحساس بعجز البراديغم المتداول عن استيعاب الأمور، ومع الوعي بأن المؤسسات القديمة "لم تعد تفي على نحو ملائم بحل المشكلات التي تطرحها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفا في خلقها".
على النحو نفسه تبدأ الثورات العلمية بتزايد الإحساس بأن أحد البراديغمات والنماذج الارشادية القائمة قد كف عن أداء دوره بصورة كافية في مجال اكتشاف جانب من الطبيعة سبق لهذا البراديغم أن وجه البحوث الخاصة به.
ذلك أن العلم حسب توماس كون يخلد الى وضع مستقر في فترات بعينها وذلك بخضوعه لبراديغم يحدد مجاله وأساليب البحث فيه. في اطار هذا "الوضع المستقر للعلم" تفرض صياغة المشكلات والحل المقترح لها نفسهما على العلماء. تأتي الثورة التي تقضي على المعايير المتبعة لتؤدي الى إعادة صياغة جذرية للمشكلات وتجديد كلي للمناهج بحيث يغدو من المتعذر ترجمة المفهومات من سياق لآخر، وهكذا فان الكتلة من منظورالنيوتونية والكتلة من منظورالنسبية على سبيل المثال يوافقان وجهتي نظر للظواهر الحركية تكونان من الاختلاف بحيث يستحيل التعبير عن احداهما بدلالة الأخرى.
كأن العلم يدخل بذلك في"أزمة" يكون فيها البراديغم المتجاوز عاجزا عن استيعاب المستجد. على هذا النحو نفسه يرى كُون ان الثورات السياسية تهدف الى تغيير المؤسسات السياسية بأساليب تحظرها هذه المؤسسات لصالح أخرى، وفي هذه الأثناءلا يكون المجتمع محكوما تماما وبالكامل بأي مجموعة من المؤسسات على الاطلاق. ونظرا لأن الفاعلين الاجتماعيين يكونون مختلفين بشأن القواعد أو الأنموذج الأصلي للمؤسسات الذي ينبغي أن يتم في اطاره التحول السياسي وتقييم هذا التحول، ونظرا لأنهم لا يقرون بوجود اطار أسمى وأرفع قيمة من المؤسسات يمكن الاحتكام اليه بشأن الاختلافات، يصبح لزاما على أطراف النزاع أن يلجؤوا الى أساليب وتقنيات تحريض واقناع وهذه غالبا ما تلجأ الى استخدام القوة.