المعرفة والسلطة
لا شك أن ذهننا ينصرف توّا، عند الحديث عن علاقة السلطة بالمعرفة، إلى عبارة مأثورة عن الفيلسوف الفرنسي أوكست كونت يقول فيها " المعرفة قوة وسلطة وتمكّن"، savoir, c'est pouvoir وهي تنويعة لمعزوفة رُدّدت بعد فرنسيس بيكون، وبعد ديكارت على الخصوص عندما أعلن في القسم السادس من "المقال في المنهج" بأننا في حاجة إلى معرفة "تجعلنا سادة على الطبيعة، ممتلكين لها".
اقترن كل هذا بطبيعة الحال بقيام علم الطبيعة الجديد، وبنبذ معرفة لا تتوخى تطبيقا فتقتصر على النظر من أجل النظر، بهدف إقامة معرفة بديلة تمكن الإنسان، بعد ضبط القوانين المتحكمة في الطبيعة من أن "يقهر الرياح بفضل الرياح" على حد ما سيقوله الفيلسوف الفرنسي آلان.
السؤال الأساس الذي يتبادر إلى ذهننا الآن هو: لماذا لا نكتفي بالقول إن ما يُعرف اليوم بإشكالية "المعرفة والسلطة" ليس إلا تطويرا لهذه الإشكالية التي أثارها قيام العلم الحديث؟
قبل أن نفصِّل القول في ذلك نستطيع أن نجيب إجمالا بأنه إن كانت علاقة المعرفة بالسلطة ليست وليدة اليوم، فإن إشكالية المعرفة والسلطة إشكالية معاصرة. ذلك أن الطرحين لمسألة المعرفة والقوة مختلفان أشد الاختلاف. فالإشكالية المعاصرة لا تقتصر على القول إن للمعرفة وظيفة تمكّنها من أن تغدو قوة وسلطة في يد من يمتكلها، بل إنها تذهب حتى القول إن في المعرفة سلطة. القوة والسلطة والعنف هنا نسيج المعرفة وليس مجرد علاقة خارجية. وحتى التمييز بين معرفة تطبيقية وأخرى نظرية غير وارد في هذا السياق، إذ أن كل معرفة، بما هي كذلك، فهي استحواذ وحركة وفعل، بل فعل عنيف.
من أجل ذلك كان ينبغي إعادة النظر لا في مفهوم السلطة وحده، ولا في مفهوم المعرفة ذاته، وإنما فيهما معا، وكذا في العلاقة التي تربط بينهما.
ففيما يتعلق بالمعرفة حاولت الإشكالية المعاصرة لعلاقة السلطة بالمعرفة أن تبعث العنف والقوة اللذين يؤسس بهما اللوغوس فضاءه السيميولوجي. فغدا العنف والصراع والقوة، غدت كل هذه الأمور توضع في مستوى كل منظور وتأويل بل في مستوى كل علامة ودليل. الدليل أو العلامة هنا مكان تناحر واختلاف. إنه الفضاء التفاضلي الذي يكثف سلسلة لا متناهية من التأويلات. من هنا يغدو التأويل، ليس بحثا عن معنى أول، وإنما إعطاء أولويات وأسبقيات، وهي أولويات ترجع لإرادات القوى والسلطات التي توجد من وراء التأويل. ما أبعدنا هنا عن المعرفة كنظر. فلم تعد علاقة التأويل بالنصوص والمعاني علاقة تأمل ونظر. إنها، ومنذ البدء، علاقة صراع واستحواذ وعنف. إنها علاقة تملك عنيف. وإذا كانت المعرفة بتراتباتها تخفي القوة وتنطوي عليها، فلأن الواقع ذاته ليس إلا كمية من القوة سبق الاستحواذ عليها بعنف التأويل. "فلا شيء، كما يقول دولوز، سوى كميات من القوة في علاقة توتر".
العالم مسكون بقوى تتناحر بغية الاستحواذ على كميات الواقع. وإذا كان معنى الشيء هو القوة التي تستحوذ عليه وتُخضعه، فهمنا لماذا يسكن الصراع عمليات إنتاج المعاني، ما دامت تلك القوة لا تنصبُّ إلا على قوة مضادة، لأن الدليل لا يعطينا نفسه للتأويل كما يقول فوكو، "والتأويل لا يكشف خفايا مادة للتأويل تعطي نفسها بشكل سلبي منفعل، إن التأويل لا يمكنه إلا أن يستحوذ وبعنف على تأويل آخر سبق وجوده من قبل فيقلبَه ويقلّبه وينزل عليه ضربات عنيفة".
القوة إذن تدخل في نسيج المعرفة ولا تشكل تطبيقا لها فحسب. لا تتجلى القوة عند تطبيق المعرفة وإنما في ثناياها، وليس الصراع بين التأويلات مجرد مظهر من مظاهر النضال الطبقي، يتولد عن التوظيف الإيديولوجي للمعارف، اللهم إلا إذا افترضنا أن النضال الطبقي يتم "داخل" كل نص، بل "داخل" كل مفهوم.
لحشر القوة في نسيج المعرفة، ولإقحام التسلط والاستحواذ في عملية المعرفة ذاتها كان ينبغي زحزحة مفهوم السلطة عن معناه التقليدي، وانتزاعه من الإحتكار الذي كان الفكر السياسي يمارسه عليه. ذلك أن مفهوم السلطة ظل يحمل رواسب لاهوتية، كما ظلت الصورة التي يوحي بها دوما هي صورة رأس الهرم. هذا التصور هو الذي جعل الفكر السياسي يحتكر الحديث عن السلطة. لطالما نُظر إلى السلطة على أن لها موقعا معينا تقوم عنده هو أجهزة الدولة. هذا التموقع للسلطة كان يقسِّم المجتمع ذاته إلى من بيده السلطة ومن لا يمتلكها. وعندما كانت تطرح في هذا السياق علاقة المعرفة بالسلطة موضع سؤال، فإنما بحثا عن المحدّدات السياسية للمعرفة، أو كما كان يقال بمعنى أوسع، تحديداً "للأطر الاجتماعية للمعرفة".
عندما اتّضح أن الفكر السياسي لا يمكن لوحده أن يحتكر مفهوم السّلطة، وأن هاته لا تتجلى فحسب في السياسة والقانون، وإنما في المدرسة والأسرة والمعمل وميادين اللعب، بل في الجنس والكتابة واللغة، اتخذت اشكالية علاقة السلطة بالمعرفة شكلا مغايرا.
عند الحديث عن هذا المعنى الجديد لإشكالية المعرفة والسلطة ينصرف الذهن عادة إلى مفكر اقترن اسمه بارساء هذا المفهوم الجديد عن السلطة هو المفكر الفرنسي ميشيل فوكو. والحقيقة أن هناك كوكبة من المفكرين المعاصرين استلهموا جميعهم جينيالوجيا نيتشه لزحزحة إشكالية المعرفة والسلطة عن معناها الذي كان متداولا قبله، بل ولإرساء مفهوم مغاير عن السلطة.
وقد تبيّن مع هؤلاء أن هذا المفهوم لا ينبغي البحث عنه عند نقطة مركزية تكون هي البؤرة الوحيدة للسيادة، ومنبع إشعاع لما يتولد عنه، وإنما ينبغي رصده عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي توَّلد، دونما انقطاع، وبفعل اختلافها وعدم التكافؤ بينها، حالات للسلطة، ولكنها حالات جهوية متزحزحة وغير قارة. فالسلطة لا موقع محددا لها، إنها ليست رأس هرم، ولا هي تنزل من أعلى. إنها تأتي من كل صوب، وتتموقع في أيّ مكان، ولكن لا لأنها تتمتع بقدرة فائقة تهيمن على كل شيء، وإنما لأنها تتولد عند كل نقطة، أو على الأصح في علاقة نقطة بأخرى. فالسلطة ليست متعالية على المكان الذي تتجلى فيه، إنها محايثة للمجال الذي تعمل فيه. وعلائق السلطة لا تقوم خارج أنواع أخرى من العلائق .السلطة استراتيجية تُمارس، وهي تُمارس انطلاقا من نقط لا حصر لها، وفي خضم علائق متحركة غير متكافئة. السلطة ليست مؤسسة ، كما أنها ليست قوة خُوّلت للبعض دون الآخر، وإنما هي " الاسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين" (فوكو)، وهي استراتيجية لا تقتصر على الحظر والمنع والحمل على الاعتقاد، لا تقتصر على انتاج القمع والايديولوجيا.
ما أبعدنا اذاً عن مفهوم عن القوة كسيطرة تخوّلها معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع، لكن ما أبعدنا كذلك عن الإشكالية التقليدية لعلاقة المعرفة بالسلطة. ولا نعني هنا بالاشكالية التقليدية فحسب ما أشرنا اليه في بداية هذا المقال، وإنما حتى ما يمكن أن نطلق عليه الربط بين المعرفة والأطر الاجتماعية التي تولد في حضنها، بما في ذلك الربط الماركسي التقليدي بين ما أطلق عليه بنية عليا وبنية تحتية. فحتى هذا الربط لم يذهب إلى وضع التسلط والنضال في نسيج المعرفة، وإنما اقتصر على الوقوف عند دورها الاجتماعي ووظيفتها الايديولوجية، فانشغل أساسا بتحديد مواقع الحقيقة، وسجن نفسه داخل ثنائيات الفوقي والتحتي،الحقيقي والوهمي،من يمتلك السلطة ومن لا يمتلكها.
قلنا إن باستطاتنا أن نرد الزحزحة المعاصرة لإشكالية المعرفة والسلطة الى كوكبة من المفكرين المعاصرين الذين يستلهمون جنيالوجيا نيتشه. وبالفعل فان جنيالوجيا المعرفة قد أقامت نظرية جديدة لإنتاج المعاني عندما استبدلت سؤال الماهية والتساؤل عمّاهو بالسؤال عمّن وعمّا؟ أعني ماهي القوى التي توجد من وراء المعاني وتتملك الأشياء فتعطيها قيمة وتميزها بعضها عن بعض وتخلق سلالم التراتبات والتفاضلات. لقد بين نيتشه أن إرادة المعرفة هي إرادة قوة، وأن المعرفة خلق للتفاضل، وحتى اللغة في نظره فعل سلطة ، فاستراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة، أليس هو القائل :" إن حق السيد في إطلاق الأسماء يذهب الى مدى بعيد، إلى حد أنه يمكن اعتبار أصل اللغة فعلَ سلطة صادراً عن هؤلاء الذين يهيمنون. إن هؤلاء قالوا هذا كذا وكذا، وألصقوا بموضوع ما وفعل ما لفظا معينا فتملكوهما".