• Monday, 06 May 2024
logo

في الربيع العربي

في الربيع العربي
- كتبه المفكرالمغربي (عبد السلام بنعبد العالي) خاص لمجلة كولان


تقلبات "جوية" قوية يبدو أنها تهدّد الربيع العربي بأن يتحول إلى خريف. لسنا نقصد ما يعقب عادة كل تحوّل مناخي وسياسي من اضطرابات وتعثرات، وإنما نشير إلى العوامل المتشعبة، الداخلية والخارجية، التي تقوم عثرة في طريق استئناف الانتفاضات لمسيراتها. وإذا كانت الأمور تبدو أحيانا من التعقيد بحيث تفتح الأبواب أمام جميع الاحتمالات وتمنع كل تكهن، فإن ذلك لا يمنعنا من أن نرجع القهقرى، ونعاود النظر فيما حصل من قبل كي نستشف طبيعة المخاضات الممكنة.
لعل أول ما ينبغي التوقف عنده هو العودة إلى هذه التسمية ذاتها. إطلاق اسم الربيع على كل أشكال الانتفاضات التي عرفها كثير من الأقطار العربية ليس أمرا واضحا ولا بريئا. وليس من شك أن مصدره أوروبي. وهو ينطوي على "مكر" خفي. رغم أن الفصل لم يكن ربيعا، فقد مكنت هذه التسمية، التي قيست ربما على ربيع "براغ"، مكنت المعلقين الغربيين، ليس فحسب من تجنّب لفظ الثورة، وإنما حتى من تجنب وضع الأحداث مكانتها في التاريخ، للإقتصار على اعتبارها مجرد تناوب لفصول ، وتحوّلات جغرافية. لقد مكنت هذه التسمية أصحابها من أن ينفوا عن الشباب العربي كل مبادرة تاريخية. لذا وجدناهم لا يعكفون، كما عوّدونا، على الانكباب على الفئات الاجتماعية التي كانت من وراء تلك التحركات، وعلى "وضعيتها الطبقية"، والايديولوجية التي تحركها، وإنما اكتفوا بإعلان تخوفهم مما قد يتمخض عن انهيار الأنظمة القائمة من إتاحة الفرصة للحركات الاسلامية كي تتولى مقاليد الأمور.
لا نعني بذلك أن التحليل المناسب لما جرى هو التحليل الذي يعتمد نظرية الصراع الطبقي، وإنما ضرورة التوقف عند دوافع التحركات والفئات التي من ورائها والشعارات التي ترفعها، والتساؤل عما إذا كانت هناك بالفعل ايديولوجية محركة، وآفاق مرسومة، وهذا قبل إبداء التخوفات وإعلان التحفظات.
على هذا النحو كان ينبغي التشديد على طبيعة الفئات العمرية والاجتماعية التي حركت الانتفاضات.هاهنا أيضا أطلقت تسمية واضحة غامضة هي اسم "شباب الثورة". وما ينبغي التأكيد عليه هو أن الأمر لا يتعلق أساسا بفئة عمرية، فما كل من بلغ سنا بعينه شارك في الانتفاضات. من شارك هم شباب متعلم، شباب يحمل شهادات، إلا أنه شباب من طينة جديدة يعرفها العصر : شباب البطالة المتعلمة. وهو "شباب" من غير مشروع، ولا ارتباط. فهو لا يرتبط عقائديا ولا قوميا بل ربما حتى ولا حزبيا. ما يوحّده هو شعور التهميش القويّ وما يترتب عنه من "حُكرة" على حد تعبير الشعار الجزائري.
من الصعب، والحالة هذه، الحديث عن دفاع عن حقوق. هذا ما جعل البعض يمتنع أن يقرن هاته الحركات بأي هوَس ليبرالي يسعى لحماية "حقوق المواطن"، وبالتالي أن ينساق وراء ربط هذه الإنتفاضات بأمّ الثورات، وأعني بالثورة الفرنسية. فكأنما هي حركات بلا مضمون إيديولوجي، ولكن أيضا بلا زعامات. لم نسمع قط بأحدهم يقول إنه قاد الإنتفاضات. لعل ذلك هو ما مكن الميادين من أن تضم في الوقت نفسه، وخلال أيام متعاقبة، فئات من مشارب مختلفة، وأحزاب متعارضة، بل وديانات متباينة. ذلك أن الانتفاضات تجاوزت الفروق والتدرّجات المعهودة، فكانت فوق الزعامات وفوق الأحزاب والتكتلات و التشيّعات، أو لنقل إنها كانت "تحت" كل ذلك. لكونها لم تكن تعوّل على مافوق، وعلى أيّ تعال مهما كانت طبيعته. هذا ما تؤكده عبارة النزول الى الميادين أيام الجمعة. كان النّزول هو شعار الجميع. ربما من أجل ذلك لم يُحَل إلى نماذج، ولم تُرفع صور قيادات. فكأنها انتفاضات من غير مثل أعلى. حتى الرمزيات المعتمدة لم تكن هي الرمزيات المعهودة، أي تلك التي كرّسها الوعي الوطني والقومي فيما قبل، والتي انتصبت أمام آخر محدّد، سُمّي الاستعمار في وقت، ثم الصهيونية فالأمبريالية فالتخلف فالتقليد ..
هذا الغياب للرمزيات والتجريدات، وهذا الإلتصاق بالواقع الفعلي ربما يعود أساسا لطبيعة "الوحدة" التي كانت من وراء اللقاءات في الميادين ولتقنيات التواصل التي اعتُمدت في خلقها. وهي كما نعلم لم تكن منشورات وُزّعت، ولا اجتماعات عُقِدت ولا خلايا شُكلت، وإنما لقاءات عبر الشبكة يسَّرتها تقنيات التواصل الجديدة، و سمحت بها المواقع الاجتماعية عبر الأنترنيت.
هي إذاً علائق من طينة جديدة، لاهي بالضبط تشيع ايديولوجي، ولاتضامن طبقي، وإنما علائق أصبحت تسمح بها الثورة المعلوماتية لا تخضع لمنطق تمركز الفضاءات المعهود ولا لأقطاب القرار المألوفة. فمقابل الطابع العمودي الذي كان يسم التدرّجات والعلائق التقليدية، وجدنا أنفسنا أمام علائق أفقية غالبا ما تتخطى الحدود الاجتماعية والوطنية.
ذلك أن الوسائط الجديدة "ذات الفعالية المتبادلة"، على عكس الوسائط التقليدية "ذات الاتجاه الوحيد"، والتي تحقق تواصلا ممركزا يصدر عن منبع ويتوجه صوب جمهور، أصبحت تتيح للأفراد أن يتفاعلوا فيما بينهم في الزمن الفعلي. وإذا كانت الوسائط الأولى تتناسب مع مفاهيم الايديولوجيا و الدعوات الايديولوجية ونشر الأفكار، فإن الثانية، بما أنها تقوم على مفهوم التبادل، فهي تتيح للأفراد، لا تلَقِيَ الأفكار و تشرّب الآراء، وإنما إبداعها، أو على الأقل المساهمة في ذلك الإبداع . بعبارة أخرى، إن كانت الوسائط التقليدية تعمل على صناعة الرأي العام، فإن الوسائل الجديدة تعطي السبق للخاص على العام، للفرد على الجماعة، ولتداول الآراء بدل تلقيها. إنها تكون مبدئيا في خدمة خطاب العقل أكثر مما هي في خدمة خطاب الرأي. إلا أنه ليس العقل النقدي الذي يقوم على فعلي المحاكمة والتمييز، وإنما هو عقل قوْلبه الكومبيوتر الذي أصبح يخلق علائق جديدة بين الفرد وبين نفسه، بينه وبين ماضيه، بينه وبين اللغة، لكن أساسا بينه وبين الآخرين. هذا ما جعل البعض يمتنع عن وصف ما يتولد من علائق عبر المواقع التي يقال عنها إنها مواقع "إجتماعية"، بأنها بالفعل علائق اجتماعية، وبالأحرى أن تكون روابط وصداقات. فكأنه تواصل من نوع جديد. لهذا يصر هؤلاء ألا ينعتوا الذين نزلوا الى الميادين بأنهم "جماعات"، ويكتفون بالحديث عن "كثرة بشرية" تولدت عن مبادرات شبابية تحمل صبغة معولمة وافتراضية شديدة الخصوصية، وعن تقنية افتراضية نزلت إلى الميادين.
إن كانت تقنيات التواصل الجديدة تتنافى مع الدعوات الإيديولوجية في شكلها التقليدي ، فبما هي تمزج الواقعي بالإفتراضي، فإنها تفتح الواقع على ممكنات، فتُدخل عليه شيئا من النفي، من غير أن تقابله بما ينبغي أن يكون. فالفضاء الرقمي فضاء تواصل شبكي، وهو ككل الشبكات نسيج، إلا أنه نسيج مبعثر، أو على الأقل كثير الخيوط متشعبها. يعود هذا لطبيعته، ولكن أيضا لانفتاحه اللامتناهي. هذا فضلا عن أنه اتخذ في هاته الحال طابعا متمردا متفجرا متدفقا . لذا فقد تمكن من الانفلات من كل أشكال الرقابة، وما نتخوف عليه هو أن يمتد ذلك الانفلات إلى ما من شأنه أن يعكر صفو الربيع..
Top