التحولات الوظيفية في المجال السياسي : تأملات حول هابرماس..(2-3)
ان جوهر فكرة (ارندت) يتجلى في ان الخطوات الاساسية التمهيدية نحو التوتاليتارية يتم اتخاذها عندما لايوجد مجال عام او مجال سياسي لتحدي اتجاهات التي تريد السيطرة على الضرورات المادية للانتاج والادارة.
ان الشكل الحديث للتوتاليتارية في رأي ( ارندت) ينهي المجال السياسي وبطريقة ان الضرورات التكنولوجية للاقتصاد تفرض منطق المنفعة على المجالات الاخرى. ان اضفاء الصفة المادية على العلاقات الانسانية ستؤدي الى تصنيف البشر كشيء مادي اكثر من شيء انساني وهذا الواقع يعتبر في فكر (ارندت) بمثابة " شرط مسبق" لامفر منه لمشروع ابادتهم وافناءهم والتي تم تنفيذه فعلا من قبل الحكم النازي.
في تحليلها للاسس التوتاليتارية فان ( ارندت) لديها مشكلة مع الرأسمالية والبرجوازية حيث انها قد فتحت الباب امام التوتاليتارية وذلك بسبب موقفها اللامبالي بل والرافض لضرورة المجال العام.وهكذا فان البرجوازية وحسب استنتاج ( ارندت) كانت متفقة مع الدكتاتورية الفاشية والنازية بسبب وعودها ب " اعادة النظام للمجتمع والدولة".
وفي الحقيقة كانت ل ( ارندت) ايضا مشاكل مع الماركسية وبالشكل الاتي:
لايهم بأية صورة كيف ينظم المجال الاقتصادي في المجتمع لان هذا المجال يدار عن طريق استخدام وسائل تكنولوجية وبالتالي فان هذا المجال لايمكن ان يصبح مجال الحرية Sphere of liberty ، ولكنه يبقى مجالا يكون حجمه دائما صغيرا معّرفا من خلال معايير تكنولوجية ومنفعية. وهكذا وبالنسبة ل ( ارندت) فان المسألة لا تتعلق بكون الطبقة العاملة لاتملك الكفاءة بحكم نفسها بل ان المسألة تتعلق بوجود اطار ضيق للفعاليات السياسية political virtues كالشجاعة والذكاء والفضيلة honesty وعندما يعمل المرء شيئا أي عندما ينتج المرء شيئا فان الشجاعة والذكاء والفضيلة تمثل عائقا في النشاطات التي تتطلب الدقة ، السرعة ، الفعالية.وهنا تميز ( ارندت) مابين التوتاليتارية الفاشية والنازية من جهة وبين التوتاليتارية الستالينية من جهة اخرى. فبينما الصنف الاول هو جزئيا نتيجة للتوجهات الاساسية اللاسياسية للبرجوازية ، فان الصنف الثاني (اي الستالينية) فانه اقيم ونظم كدكتاتورية اجتماعية a social dictatorship وهي دكتاتورية تمحو المجال السياسي باسم الضرورات التكنولوجية للتحديث الصناعي.
ان تأكيد ( ارندت) بعدم امكانية اقتصار مجال السياسة فقط على المجالات التكنولوجيا والاجتماعية والاقتصادية يؤدي الى نتيجة مهمة وهي ان الحرية يمكن فقط ان تمارس في المجال السياسي. ان هذه الفكرة قد التقطته بذكاء (هابرماس) وأجرى عليها تعديلات جوهرية.
لقد حاول (هابرماس) وعلى غرار (كانت) ، (هيجل) و(ارندت)، ان يؤكد بأن الديمقراطية السياسية والحرية السياسية ممكنة عندما تصبح الديمقراطية اكثر من كونها " حل وسط" بين الطبقات الاجتماعية وان السياسة هي اكثر من ان تكون ببساطة وسائل تكنولوجية ضرورية لتأمين " حلول وسط".
ان محاولة ( هابرماس) يمكن تفسيرها بكونها محاولة لاعادة تفسير تنبؤات ( ارندت) حول فترة الحرب وتوضيحها بأن عملية " حل وسط طبقي " يمكن ان تأخذ منحى تسلطي متطرف في ظل النظامين المختلفين هما نظام الرأسمالية المتقدمة ونظام اشتراكية الدولة.
وعلى النقيض من ( ارندت) التي حاولت الجمع مابين العقلانية النفعية والرأسمالية والتي استندت الى كل من ( فيبرWeber) و (هايدغرHeidegger) وكذلك دفاعها عن الجمهوريين republicanism الكلاسيكيين وعن عصر الانوار renaissance وثورة المجر 1956، فان ( هابرماس) حاول ان يميل الى الديمقراطية غير الناقصة والى الدولة لتأمين والحفاظ على العلاقات السياسية والاجتماعية وتحقيق " حل وسط طبقي " من خلال تطبيق الاتصالات الحرة في الحياة والمجتمع وفي المؤسسات القانونية في الدولة.
ولتوضيح هذه الاراء فانه من الضروري الرجوع الى كتاب مهم لمتابعي فلسفته ونقصد به كتاب
( مابين الوقائع والقواعد: مساهمة في النظرية الخطابية للقانون والدولة القانونية الديمقراطية)
و الصادر اصلا باللغة الالمانية في 1992
Faktizitaet und Geltung
Beitraege zur Diskurstheorie des Rechts und des demokratischen Rechtsstaats
والذي يعتبر بمثابة تطويرلافكار ( هابرماس) بعد الفترة الحاسمة مابعد 1989من حيث سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي وبقية دول اوربا الشرقية وانتهاء الحرب الباردة.
فاذا كانت الكتابات السابقة ل ( هابرماس) تؤكد على الدفاع عن المجال العام والتواصل كشكل للفعل الذي يعطي الشرعية للسلطة السياسية ،فان الكتابات اللاحقة لفترة مابعد الحرب الباردة تؤكد على البعد السياسي للقانون .
ان تأكيد (هابرماس) على القانون والمجتمع المدني مؤشر مهم على محاولته لتطوير نظرية للشرعية السياسية والتي تقّر المنظومة المعقدة للعمليات الاقتصادية والادارية ، ولكه في نفس الوقت يؤكد على مسألة مشاركة المواطنين كأساس ل " شرعنة " السياسة. وهكذا فان (هابرماس) يفكر بأنه من الممكن في الحدود التي أقامتها الرأسمالية المعولمة لمأسسة الاشكال غير المستفتى عليها للسياسة في المجتمع المدني والذي يجعل الجهاز البيروقراطي ومراكز السلطة التنفيذية قابلة للمحاسبة من قبل المواطنيين في المجتمعات المدنية المعاصرة.
في كتابه اعلاه يقدم لنا ( هابرماس) الفكرة الاتية :
في القانون ( الذي يختلف عن الدولة وأجهزتها البوليسية ، العسكرية والبيروقراطية) يمكن رؤية اشكال مختلفة من الاعتراف recognition في المجتمع المدني والتي (اي هذه الاشكال) تظهر كنوع من طوبوغرافية اجتماعية – سياسية؛والقانون يعطينا هنا مفتاحا تفسيريا لتفسير المنازعات الاجتماعية السياسية المختلفة.
وكما جاء في دفاع (هيجل) عن الدولة ، فان ( هابرماس) يرفض جعل لحظة العقد الاجتماعي في تاسيس الدولة بمثابة لحظة عالمية او ذو بعد عالمي عام حيث انه ، مثل (هيجل) ، يرى العقد الاجتماعي وسريانه مرتبط بنظام أوسع وأكبر من الفعل الاتصالي. فاذا كان هذا المحتوى الواسع ( اي النظام الواسع) بالنسبة ل (هيجل) هو في " الاخلاق Sittlichkeit"أو في " الحياة الاخلاقية" ، فانه بالنسبة ل ( هابرماس) يدرك من خلال التمييز والفصل مابين النظام وعالم الحياة life world او كما جاء في كتابه اعلاه ، التمييز مابين:
• المجتمع المدني كشبكة من المجال العام المستقل؛و
• النظام السياسي والاداري؛و
• مجال العمليات الاقتصادية لاعادة الانتاج المادي
وعلى النقيض من الفكرة القائلة بعدم كفاية القانون المدني والمفاهيم السلبية تجاه الحرية وكذلك الفكرة القائلة بعدم ضرورة السياسة في مجتمع مابعدالرأسمالية ، فان (هابرماس) يبقى ملتزما بالجواب التشاركي participatory والاتصالي communicative للتساؤل حول كيف يمكن التوسط في النزاع خارج الشروط التكنولوجية والانتاجية ،وعليه فهو يؤكد على ان الاشكال العالمية للحكم القضائي لنزاعات تظهرنفسها في البعد الافقي للعقلانية القانونية وهذا يعني ان الوعد بالاشكال التوافقية الكاملة للاتفاق يمكن ان تسترجع حالما ان المواطنيين في الدولة الحديثة يكونون قادرين على اعتبار أنفسهم كمصدر لتلك القوانين المنظمة لحياتهم معا في المجتمع السياسي.ان هذا الدور للمواطنين يمكن تحقيقه فقط على أساس ماسماه (هابرماس) ب ( الديمقراطية الراديكالية) المستندة على شبكة التواصل في المجال العام بصورة خاصة وفي المجتمع المدني بصورة عامة.
وفي هذه الديمقراطية فان الحرية السياسية لليبرالية ( حرية التعبير،حرية الاجتماع، المشاركة السياسية) يمكن لها ان تعمل باتجاه شرعنة السلطة السياسية كعمل جماعي للمواطنين المجتمعين. وهذا بالذات مايقصده (هابرماس) عندما تترسخ حالة التواصل في المجتمع المدني وكأساس لشبكة من المجالات العامة المستقلة.وكذلك يلاحظ ان (هابرماس) مصر وبقوة على ان الانظمة السياسية التي تمنع التواصل الحر وأنها وباختيارها تعمل وفق المصالح الاقتصادية شبه تعاونية ومن خلال سلطة ادارية يجب ان تعمل وتحكم ( كما تنبىء بها كل من: شمدت وفيبر).بالاضافة الى ذلك ، فان الاقتصاد الرأسمالي لايعتبر من الان فصاعدا حللا للمشاكل طالما ان المال والسلطة قد وضعا نفسيهما في حالة عزلة منظمة ضد الحوافز والدفعات الديمقراطية للشيء اللاقتصادي non-economic والذي يعني الشيء السياسي الذي هو طبيعي في المجتمع المدني.
وهكذا فان (هابرماس) وبهذا التوجه الفكري يفقد كل نقطة مشتركة ممكنة مع ( ارندت) في الفعل التواصلي ومع ( شمدت) في نقد التعاونية.
والنتيجة ان(هابرماس) يرى ان الفعل التواصلي لايصبح سلطة أو قوة
تواصلية communicative power. ان محاولة فصل البعد التكنولوجي والتطبيقي والتحرري للمصلحة وبالتالي الادعاء بان هناك انسجام وظيفي functional harmony مابين الابعاد الثلاثة اعلاه.
ويبين ( هابرماس) انه وفي المجتمعات الصناعية بالغة التعقيد وحتى في حالة أفضل المحاولات فان تنظير التوافق والاجماع السياسي في داخل الاقتصاد الرأسمالي سينتهي في مواقف معيارية ماقبل الماركسية.
ان أهداف ( هابرماس) في طرح افكاره تجد لها احيانا صدى تعود لزمن (ارسطو) و ( فويرباغ) وأحيانا تعود لزمن (كانت) و (هيجل)،ولكن كلها موجه نحو أمل بناء أبعاد عالمية للغة والقانون والانظمة وهنا يلاحظ ان امتياز (هابرماس) تجاه نظرية (فيبر) للعقلانية ونظرية ( لومان Luhmann) في الانظمة المستقلة هوفي اعادة التوجه الليبرالي اليساري (الذي يبشر به الان علماء من امثال هيلد Held وبوبللو Bobblo).
ويحدد (هابرماس) ان المجتمعات مابعد التقليدية أصبحت مجتمعات متشابكة ومختلفة نظاميا لكي تكون ملائمة عمليا لاقامة نظام ديمقراطي ولذلك يجب ان تبقى الدفعات الديمقراطية السياسية في المجتمع المدني منعزلة ومنفصلة نظاميا عن السلوك النظامي المتعلق بسلطة المال والادارة.
وأخيرا فانه وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة من قبل (هابرماس) ل (لومان) ونظريته حول الاتساق (النظم) فان فصله للاقتصاد والمجتمع المدني والنظام السياسي هو فصل فعّال بمستوى عال وعلى الاخص في الانظمة الفرعية sub-system للسلطة المالية والادارية والتي تتعايش بانسجام مع الحركة الديمقراطية في المجتمع المدني.
يتبع