التحولات الوظيفية في المجال السياسي : تأملات حول هابرماس..(1-3)
لاجل فهم واستيعاب الفكر السياسي والاجتماعي للفيلسوف الالماني المعاصر يورغن هابرماس ( Juergen Habermas 1929- ) الذي يعتبر من أكبر العقول الفلسفية الفكرية التي مازالت تساهم في تطور الحركة الفكرية الانسانية ، فانه من الممكن تتبع المراحل الاتية:
1. مرحلة فهم فلسفة (هابرماس ) بالارتباط مع فكر الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الالماني SPD المتسم بالتوجه النقدي الذي ينسجم مع التوجه الفكري النقدي لمد رسة فرانكفورت التي ينتمي اليها (هابرماس) ويعتبر من رائد الجيل الثاني لمفكري تلك المدرسة.وفي هذا الاطار قدم (هابرماس) أفكارا مهمة بنيت عليها قرارات وسياسات الحزب الاشتراكي والمتضمنة الابقاء على المنظور والتوجه اليساري المتعلق بمشاركة العمال في الادارة ورسم سياسات المصانع والمعامل والشركات الصناعية ولكن في نفس الوقت كان التأكيد يجري على مسالة هجروترك فكرة الثورة لفسح المجال أمام مسيرة طويلة لعملية المأسسة.
2. مرحلة فهم( هابرماس) عن طريق دراسة وتحليل موقعه في النظرية السياسية والاجتماعية والتي تبدأ من الماركسية مرورا بالنظرية النقدية ومنها الى نظرية الخطابة Discourse وقد قدم (هابرماس) في هذه المرحلة مشروعه للفعل التواصلي communicative action مساندا وداعما لنظرية الخطابة المستندة اصلا على أفكار مدرسة فرانكفورت (اي النظرية النقدية Critical Theory) . وفي عدد من أعماله المهمة : المعرفة والمصلحة ، العلم والتقنية كأيديولوجيا، نظرية الفعل التواصلي ، اكد (هابرماس) على ان هناك "لحظة حقيقة" في الفلسفة الليبرالية التي ستتجاوز فيها الليبرالية نفسها.وقد حاول (هابرماس) ان يحتفظ بقناعات مدرسة فرانكفورت بأن الليبرالية وفي التجربة المؤسساتية ، اذا حاولت ان تحتفظ بمسألة الربط مابين الحرية والاستقلال كما فعلت ذلك في عصر التنوير ، بدلا عن الربط مابين الحرية والمصلحة كما فعلت فيما بعد ، فعندذاك تكون الليبرالية قد اقتربت من الماركسية وابتعدت عن أسس الليبرالية اي انها اصبحت تشبه الماركسية اكثر من الليبرالية نفسها.
3. مرحلة الانتقال من المرحلتين اعلاه الى مرحلة جديدة يتم فيها التركيز على (هابرماس) ك " صوت مثقف intellectual voice" وتمّيزه عن الماركسية باتجاه النظرية النقدية ثم باتجاه نظرية الخطابة.وفي هذه المرحلة يتميز( هابرماس) بمحاولته للدفاع عن وحدة المجال السياسي integrity of Political بالضد من الخطاب والتطبيقات الاقتصادية والادارية والاجتماعية.
في هذه الدراسة سنركز ونهتم بهذه المرحلة حيث (وهذا مايلفت النظر اليه ) أنه وبعد الفيلسوف الالماني الكبير عمانوئيل كانت ( 1724-1804 Kant) لم تبذل أية محاولة لبناء شرعية الدولة او شرعية خصوصية السياسة وذلك من خلال عقد او قانون.ان هذا الوضع واضح جدا لدى فيلسوف ألماني كبير وهوجورج فردريك فيلهلم هيجل( 1770-1831 Hegel) وكذلك لدى فلاسفة ومقكرين يوصفون بكونهم ليبراليون يساريون من أمثال المفكر الالماني رائد علم الاجتماع السياسي ماكس فيبر ( Weber,1864-1920).
في الواقع ان مسألة الحفاظ على وحدة المجال السياسي قد أشغل أفكار اربعة من كبار فلاسفة ومفكرين الالمان وهم: كانت ، هيجل ، كارل شمدت ، هانا ارندت.
بالنسبة ل ( كانت) فان موقفه كان فيه شيء من الغموض حيث كان يدافع عن القانون الطبيعي ويؤكد على أولوية الاخلاق على السياسة وبطريقة تضع أفكاره في اطار ليبرالي ويبعده عن أفكار هيجل وشمدت وارندت.
ان البعد السياسي في مشروع (كانت) موجود في محاولته لتحديد وتصنيف الاحسن والافضل من بين الاشكال المحتملة للتوسط مابين المجال الخاص للاخلاق والقانون الطبيعي والوعي الذاتي الفردي من جهة ومؤسسات السلطة السياسية والقانون الوضعي من جهة اخرى.ويؤكد (كانت) بأنه في المجتمعات الحديثة هناك مجال عام Public Sphere يكون وسيطا مابين الرؤية الخاصة للمواطنين والدولة وان هناك تجمع من المواطنين المستقلين كهيئة جماعية مستقلة اقنصاديا وأنهم من خلال مناقشات حرة يصلون الى مواقع تسمو على مصالحهم الاقتصادية من جهة ومن جهة اخرى تمارس ضغطا سياسيا-اخلاقيا على السلطة السياسية.
ان نظرية (كانت) حول المجال العام لاتمثل دفاعا عن وحدة مجال الدولة مثلما نجده عند (هيجل).لقد أكد ( كانت) على البعد الاخلاقي والاتصالي للمجال العام وهذا ماأدى الى بروز امكانية اتصاف الفعل السياسي بالبعد العالمي متجاوزا الادعاءات الخاصة الجزئية والمنطلقة من مواقع مصلحية مختلفة وبدونها ستصبح السلطة السياسية مجرد سلطة قانونية بدلا من أن تكون سلطة أصلية حقيقية.
ويرى (كانت) ان السلطة السياسية ومن خلال المجال العام تكون شرعية ولكن على أساس من الفكرة العالميةUniversal وليس من خلال التمتع بالاغلبية البرلمانية او من خلال قرارات تنفيذية.
وعليه كان (كانت) يرى بانه قد نجح في بيان وتوضيح خطأ الفيلسوف الانكليزي (هوبز1588-1679 Hobbes) في الادعاء بأن السلطة وليست الحقيقة هي مصدر التفويض التشريعي Legislative mandate طالما ان الضغوط السياسية والاخلاقية الممارسة على المناقشات الجارية في المجال العام تضّمن ان الشكل الحديث للقانون يصبح وباطراد مقياسا للحقيقة بدلا من أن يصبح مجرد مقياسا barometer للقوة أو المصلحة.
في المقابل فان ( هيجل Hegel) قد " أنزل" و "خفض" درجة ومستوى المجال العام الى مستوى " أخفض" من الرأي العام.وأكد (هيجل) ان الفلسفة السياسية ل (كانت) هي مناسبة وملائمة للعصر الذي كانت فيه عملية اعادة الانتاج المادي في المجتمع تجري في المجال الخاص الذي كان مسيطرا عليه من قبل الملاكين وأصحاب الاراضي وشركات النقل وهكذا فانه وصل الى قناعة بان فترة ( كانت) قد انتهت وان توسع حجم وقوة القوى الاقتصادية قد غيّر أبعاد القانون والمجتمع المدني وأصبحت بمثابة تحدي لوحدة واندماج الدولة.
وعلى الصعيد النظري فانه كان من الممكن سابقا تصنيف مجال الاقتصاد في اطار المجال الخاص وتصنيف المجال المدني ضمن مجال الدولة ولكن في فلسفة ( هيجل) فان المجتمع المدني Civil Society ( الذي كان مرادفا للدولة ولم يكن يتضمن مجال الاقتصاد) بدأ الان يضم هذا المجال .
وفي فلسفته كان ( هيجل) يؤكد على أن الدولة هي فقط يمكن لها ان تعمل كحقيقة للفكرة الاخلاقية.وان خير المواطن هو شيء نقيض لخير الدولة.
وفي دفاعه عن السياسة ، يؤكد هيجل على ان الدولة لها وجودها الخاص بها والذي لايستند على السلوك الاخلاقي للمواطنين بل يستند على عقد نافذ يفترض وجود الدولة ولذلك يجب ان يوجد اساس للحياة الاخلاقية التي يمّكن العقد من ان تكتسب النجاعة والفعالية.
ان مرحلة عدم وجود عقد في السياسة كانت غائبة عن ثلاثة من كبار فلاسفة العقد الاجتماعي وهم : هوبز ، لوك ، روسو ، وانتبه اليه (هيجل) ورسخها في التقليد الالماني الحديث في الفلسفة السياسية حيث أكد ان الدولة هي اكثر من أن تكون فقط عقدا وهي تمثل وحدة ( كيانا للجمع) وماقبل العقد وذلك للافكار المختلفة التي تعمل على انشاء العقد وهذه هي واحدة من اللحظات التأسيسية في الحياة الاخلاقية على أساس من قاعدة ( الكل في واحد a whole in a single ) وسميت من قبل ( هيجل) بأنها ( الذهن والفكر Geist).
وهكذا فالدولة هي ليست عبارة عن شكل معدّل من العقد بل انها شكل محدّث للاعتراف والاتفاق الذي ينجز ويتجاوز اشكال المنفعة والمصلحة وهذا بالذات يمثل الدفاع الوجودي الانطولوجي لوحدة الدولة والذي رفضه كل من (فويرباغ Feuerbach ) و (ماركس Marx) الذين سعيا الى ايجاد المصدر الحقيقي للسياسة في الانتاج والاشكال الاخرى من المصالح في المجتمع المدني.
وقد حاول المفكر الالماني واستاذ القانون وعلم السياسة ومنظر النازية ( كارل شمدت 1985 Carl Schmitt,1888-) في كتابه الشهير ( مفهوم السياسة The Concept of the Political,1932)ان يطرح وحدة السياسة متجاوزا المصالح الطبقية والمصالح الاخرى فقد ادعى ان هذه الوحدة لاتتحقق في المجال العام ولا حتى في الدولة بل انها توجد في مايسميه ب ( الشيء السياسي The Political) الذي يفترض وجود الدولة.
ان مفهوم السياسة لدى (شمدت) محدد بالتمييز مابين الاصدقاء والاعداء.وفي هذا المجال السياسي ينتبه (شمدت)وبدقة الى دور البرلمان في الحياة السياسية حيث يؤكد بانه تحت هيمنة وسيطرة الشروط الاجتماعية والاقتصادية في الراسمالية الصناعية الحديثة فان السلطة التشريعية وباستمرار هي محرومة ومجردة من اسسها المعيارية كمؤسسة للتعبير عن القيم السياسية. وبدلا عن هذا الوضع فان الدولة ستصبح لجنة تنفيذية ولكن ليس لادارة شؤون البرجوازيين كما اشار اليها ( ماركس) و(انجلز) في 1848،بل لاجل انتاج حل وسط طبقي مابين أجزاء مختلفة من الراسمال وفي نفس الوقت تحرير الطبقة العاملة.
لقد كان املا كبيرا ل ( شمدت) في ان تجتمع كل عناصر المجتمع الالماني في البرلمان لمناقشة القيم التي تقود جمهورية فايمار الالمانية (1919-1932) حيث انه فكر مثل فكر سابقا ( ماكس فيبر) في ان تتمكن المؤسسات البرلمانية من ان تعمل كمدرسة لتهيئة النخبة السياسية.واضاف بان المطالب الاقتصادية المقدمة من قبل الرأسماليين والعمال قد أضعف البرلمان وبالتالي لم تعطه الفرصة لتقييم الديمقراطية البرلمانية تقييما ايجابيا.
يتبع الحلقة الثانية