كوردستان : ملف الهوية الثقافية
عموما فان مصير اللغات المدونة هي أفضل من مصير اللغات واللهجات المسموعة والغير موثقة كتابة. ومصير اللغة في كوردستان والثقافة المرتبطة بها تعتمد اليوم أساسا على مدى امكانية مهمة التوثيق هذه وتبني احدى اللهجتين السائدتين سواء الكرمانج (KURMANJI) أو السوراني (SURANI) كلغة الكتابة المعتمدة في كوردستان. ويتمثل التحدي الثاني في إمكانية إجماع الكورد لأعتماد الحرف والنص العربي (Arabic Script) أو الحرف والنص الروماني (Roman Script) في عملية التوثيق هذه. ومن المعلوم ان اعتماد الحرف الروماني سيقرب لغة الكورد الى اللغات الأوربية ذات المنشأ الهندو- أوربية والى الجالية المهاجرة من كوردستان الى الغرب عموما. فمن الموثوق به تأريخيا أن لغة الكورد والهند أرتبطت أساسا باللغة السنسكريتية الأم (SANSKRIT). ولغة الكورد تعتبر من اللغات الهندو- إيرانية ولغة الحكمة الميدية التي احتواها أقوال (GATHA) زرادشت الحكيم في 6000 كلمة هي قريبة جدا من السنسكريتية المعتمدة في توثيق كتاب الهند المقدس (RIGVEDA)، وهذه الأقوال هي التي التي بنيت عليها لاحقا شروحات بلاد فارس لتنتهي بما يعرف بكتاب الآفستا الميدي الفارسي. وامام التحديات المصيرية أعلاه يقتضي المنطق اليوم من علماء اللغة الكورد التوجه شرقا للتواصل مع الثقافة الهندية بدل متاهات الجامعات الغربية. والمشترك الثقافي االثاني مع أقصى الشرق عموما والهند خصوصا هو مذهب الصوفية العريق في كوردستان. فمن المعلوم أن اعتناق الأسلام فيها سبقته ثقافة متأصلة في وجدان الكورد مما مهد لاحقا الى ظهور الصوفية السمحة وانتشارها بشقيها النقشبندي والقادري. فسماحة الدين وإنعدام صدام الثقافات والأديان في كوردستان تعود جذورها الى عهود ما قبل التأريخ. وبينما يميل المذهب النقشبندي الى فلسفة التأمل المتأصلة في الثقافة الهندية والبوذية يتسم المذهب القادري بحلقات الذكر على وقع الدفوف والدروشة المحلقة مع دوران الكون. فمعايشة جمال الكون والطبيعة يقتضي أساسا الأيمان بالحب اللامتناهي وصفاء الذهن.
ورغم أن الأوساط العلمية والثقافية في الغرب تقيم وزنا كبيرا لعمق الفكر الصوفي الا أن الكورد لم يفعلوا الكثير لتقديم أنفسهم كوارثيين لهذا الفلسفة الروحية. فالصوفية هي فكر الوسط المعتدل ما بين مادية الحداثة والعلمانية وغلو التدين، وحيثما يكتسب الحب قيمة جوهرية في إيمان الصوفي وإعداد القلب وتطهيره لأستيعاب زخم وغزارة الحب الألهي. فالوحدانية في ديدن الصوفية تعني الحب والحب يعني الوحدانية. ويكفي أن يبحث المرء في المكتبات الغربية عن مؤلفات جلال الدين الرومي ليكتشف مدى شغف الغرب بثقافة الحب في فكر الرومي واعجاب الفيزياء الحديثة بعمق أشعارالصوفية في علم الزمان. وعطفا على الفكر الزرادشتي وبينما الغرب يبحث حاليا في تطوير فلسفة جديدة للتعايش مع الطبيعة المضطربة بما يعرف بالفكر الأخضر (GREEN THOUGHTS) نجد أن جذور هذا الفكر الفلسفي للمعايشة مع الآخر والطبيعة الهشة المحيطة بنا يعود الى أقوال الحكيم زرادشت الداعية الى طيبة القول والأحسان في السلوك والصفاء في الذهن لكي تحقق الموازنة المطلوبة مع المحيط ككل. ولعل المعايشة المتوازنة ما بين سكنة كوردستان والطبيعة عبر آلاف السنين على سفوح زاكروس وتخومها وودياها وسهول كوردستان قد يفسر الكثير من هذه الثقافة العفوية. فمواطن زاكروس كان وما زال ذاك وذاك الراعي "هافال" وهو يعزف في الناي زمانا ومكانا وكوريث عتيد لهذه الثقافة الفطرية التي ربى عليها وعاش من أجلها (كولان في 28-3-2011). وعلينا أن نقر اليوم أن ذلك ربما لا يدوم اذا ما أغرت أضواء المدينة الراعي "هافال" وأغوته لترك عشق البراءة في زاكروس وتقاليد قراها ليبتلي بنفاق المدينة الذي تخوف منها زرادشت كثيرا ومن سكنتها الذين أسماهم ب (ASHA DRUJ)! وما أخاف هذا الحكيم استوعبته نخبة الغرب الآن وهي تدعوا الى هجر اسمنت وزحام المدينة وتلوث هواءها ومائها وترابها وللعودة الى أحضان الأرياف، وهذا ما سبق وأن دعا اليه المفكر الفرنسي جان جاك روسو لعودة الوعي ببراءة الريف، تماما كما فعل من قبله زرادشت... فهل من مذكر في كوردستان اليوم؟ فنحن أعلم بما فعله الطاغية صدام من احداث شرخ عميق في الحياة الأجتماعية-الأقتصادية لمجتمعات ريف وقرى كوردستان بغية انهيار البنية التحتية لأقتصادها التقليدي والمبني عبر آلاف السنين وبما رسمت معالم ثقافتها المتميزة (كولان 800 في 4-10-2010).
والسؤال الذي يواجه الجميع وماذا بعد لأرساء الدعائم الفكرية والفنية ولأغناء الهوية الثقافية للمجتمع الكوردستاني وبما يساهم بالضرورة في تطوير الخطاب والحوار الداخلي والخارجي مع العالم المتمدن وإغناء الوعي العام بمنهجية تؤمن الحفاظ على القيم والموروثات التأريخية للفكر والثقافة في كوردستان وإدماجها مع متطلبات الحداثة ونحو بناء القدرة الناعمة (Soft Power) للأمة ككل (كولان 807 في 29-11-2010). فثقافة أحقاب من السنين في كوردستان عرضة لخطر الأندثار: خطر العولمة الساحق وخطر ثقافة المدينة الماحق والمتخمة بمراكز التسوق المبهرة... فيما يبقى الأمل في احياء ثقافة وتقاليد القرية والريف والمدن الصغيرة والتي عودت الجميع أن أصابع المواطن في كوردستان يجب أن تكون متربة عفراء... فلا خير في أمة لم تعد أيدي أصحابها متسخة بتراب أرضها وهذا الدرس التأريخي إستعوبته أوربا جيدا من قبل أن تبدأ نهضتها الحضارية. فلا مناص من السؤال الذي بدأ يفرض نفسه عن مصير الزارع والمزروع في كوردستان؟ عن مصير ناي الراعي "هافال" وهو قد يقود أو لا يقود قطعان ماشيته التائهة؟! عن مصير الصناعات الغذائية التقليدية والرزق المخزون عبر الفصول والتي أدامت حياة القرى المعزولة بثلوج الشتاء الطويلة! ومصير المهارات القروية في اكتفائها الذاتي من نسيج الملابس التقليدية والتداوي بالأعشاب؟! بل عن مصير الخبرة المحلية في بناء بيوت الطين التي تتنفس الهواء وفي المياه المقطرة في أوعية الفخار؟! ففي ذلك كله كان عبق الماضي التي تغنى بأجوائها شعراء كوردستان وكانت مصدرا لوحي القلم في الزمن الجميل. فيا ترى في أي بيئة فكرية ستقام صالونات الثقافة ومنتديات الأدب في المستقبل؟ وهل حقا ستذوب الهوية الثقافية وتقاليد كوردستان العريقة كمكعبات الثلج الذائبة في الكوكا كولا القادمة من وراء الحدود... فها نحن نكاد أن نفقد نكهة عصير الزبيب والرمان بعدما أدمنا على شرب قناني الصودا المستوردة. مصير قد لايليق البتة بسكان كوردستان الأوائل والذين وصفوا بذرية قرية جارمو المبدعة... فهم أول من رعوا الماشية وزرعوا الأرض وأستحقوا لقب تلامذة الطبيعة لمعايشتهم الطويلة لها... بل أثبتت آثار كهف شاندار بأنهم شعب الزهور الأوائل.