الاقتصاد ونموذجه المناسب للمجتمع في العراق في المرحلة الراهنة؟
هذا الهم الاقتصادي بخلفياته السياسية والاجتماعية يحمله الشعب العراقي منذ عقود وكان يتمنى أن ينتهي منه مع نهاية النظام الشمولي, ولكنه لم يتوقع أن يتواصل رغم التغيير الذي حصل في العراق. فالواقع يؤكد استمرار ذلك الهم إذ تعاني منه غالبية المجتمع, وهي نتيجة منطقية لطبيعة السلطة وسياساتها الاقتصادية التي تلفها الضبابية من جهة, وصراع المصالح الاقتصادية الحزبية والشخصية أو الشللية الضيقة من جهة أخرى, ونسيان مصالح المجتمع, وخاصة الشعب الكادح, الذي انتظر التغيير سنوات طويلة من جهة ثالثة. وهذه الصراعات المشحونة بالتدخل الخارجي تعيق أي سير جدي نحو الأمام, إذ يبقى المجتمع يراوح في مكانه ثم يبدأ بالتقهقر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
اختلف الاقتصاديون في السابق ويختلفون اليوم وغداً أيضاً حول النموذج الاقتصادي المناسب للعراق. وحتى إن تم الاتفاق على الأخذ بنموذج محدد لارتباط ذلك بطبيعة المرحلة التي يمر بها العراق ومستوى تطور علاقات الإنتاج فيه, فإنهم يختلفون على الصيغة المناسبة من النموذج الاقتصادي العام, إذ لا يمكن أن يكون واحداً في كل الأحوال, بل هناك الكثير من الشروط والعوامل التي تستوجب ممارسة صيغ معينة من هذا النموذج العام, رغم وحدة قوانينه الاقتصادية الموضوعية العامة منها والخاصة.
نحن أمام واقع عراقي يفرض على السياسي والاقتصادي أن يختار نموذج اقتصاد السوق, أي الاقتصاد الرأسمالي بقوانينه الاقتصادية الموضوعية, لتحقيق النمو الاقتصادي. وهذا الاختيار لا يعبر عن رغبة ذاتية بل يجسد ضرورة موضوعية لا يمكن تجاوزها ليتسنى للمجتمع تغيير العلاقات المتخلفة لما قبل الرأسمالية لصالح العلاقات الإنتاجية الرأسمالية باعتبارها الأكثر حداثة والأكثر استجابة لتطور العراق ونموه الاقتصادي.
نموذج اقتصاد السوق الحر هو المصطلح المعبر عن سيادة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وعن فعل قوانينه الاقتصادية الموضوعية الخاصة بهذا النموذج وآليات عمله. وينتج هذا النموذج الاقتصادي بحكم قوانينه الاقتصادية علاقات استغلال اجتماعية. فهو يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو رأس المال, وعن وجود قوة عمل تباع وتشترى في سوق العمل. وقيمة السلعة المنتجة توزع بين صاحب رأس المال وصاحب قوة العمل بنسب يقررها مقدار التحكم بالاقتصاد في المجتمع والقوانين التي يقرها النظام السياسي القائم في البلاد. وعندما تعمل قوانين الاقتصاد الرأسمالي بصورة عفوية ودون رقابة حكومية واجتماعية تقود إلى نشوء اختلالات اقتصادية واجتماعية, اختلالات في توزيع الدخل وإعادة توزيعه وفي سبل ومواقع استخدامه وسوء توزيع واستخدام الثروة الاجتماعية. وهي التي تساهم في خلق البطالة والفقر والتفاوت في مستويات الدخل ومستوى الحياة والمعيشة, وتنتج بالتالي مجموعة من التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية والنزاعات السياسية.
وفي العراق يصعب على الواقع الاجتماعي من حيث مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والوعي الاجتماعي تطبيق نموذج الاقتصاد الاشتراكي, بل نحن أمام مهمة تطبيق نموذج رأسمالي شريطة أن يتجنب نموذج المؤسسات المالية والنقدية الدولية إذ إن قبولها يعرض الاقتصاد والمجتمع إلى مشكلات كبيرة.
إن برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي المقترح من المؤسسات المالية الدولية لا يتميز بوحدانية الجانب فحسب, بل ويتسم بصرامة شديدة لا يمكن ممارسته في العراق بسبب غياب مستلزمات ذلك, كما إنه يسقط مجموعة مهمة من القضايا الأساسية منها مثلاً:
إنها تسقط العلاقة العضوية القائمة بين السياسة والاقتصاد ومصالح المجتمع التي يفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار, ولكنها في واقع الأمر تمارس سياسة طبقية صارمة, سياسة تحقق مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة ومصالح الفئات المالكة لوسائل الإنتاج والغنية على التوالي. فهي لا تتجنب الحديث عن الديمقراطية السياسية فحسب, بل تكثر من الحديث عن اللبرالية الاقتصادية وحرية المنافسة, وهي تضعف قدرة الدول النامية على المنافسة والبقاء في السوق الدولية لصالحها, إنها تنسى بكل معنى الكلمة أو تتناسى المصالح الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا في الحياة السياسية والاجتماعية فحسب, بل وفي نشاط المؤسسات الاقتصادي والحياة النقابية, إذ ما يهمها يتركز في دمج اقتصاديات وأسواق هذه البلدان بالسوق الدولية وفتح الأبواب أمام نشاط احتكاراتها الدولية. إنها تطالب حكومات هذه البلدان بامتلاك الإرادة السياسية لتنفيذ البرنامج, والذي لا يعني سوى ممارسة سياسة الاستبداد الاقتصادي في تنفيذ سياسات اقتصادية لا تتبناها الغالبية العظمى من السكان ولا تخدم سوى مصلحة أقلية ضئيلة في المجتمع.
إنها تسقط من حسابها مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة التي تحتاج إلى الدعم الحكومي بأشكال مختلفة, خاصة وان العراق قد خرج لتوه من الدكتاتورية وحروبها وقمعها والحصار الاقتصادي, حيث اتسعت وتفاقمت وتعمقت حالات الفقر والحرمان في الأوساط الشعبية وارتفعت نسبة السكان التي تعيش تحت خط الفقر المحدد دولياً. وفي المرحلة الراهنة تطالب هذه المؤسسات بإلغاء "البطاقة التموينية" كلية, ولم تدعو إلى حصرها بالمحتاجين, وهي من الأسباب التي أدت إلى التظاهرات الأخيرة أيضاً.
إنها تنسى الواقع الذي تواجهه هذه البلدان وأهمية وضرورة وجود قطاع حكومي ديناميكي وفعال ومؤهل إداريا وتقنيا ومستقلاً عن السياسة في أداء جملة من مهمات العملية الاقتصادية, خاصة وأن بعضها يمتلك موارد مالية يمكن توجيهها للأغراض التنموية حيث يعجز أو يمتنع القطاع الخاص عن الولوج فيها, إذ أن الدولة بحاجة إلى جزء من الفائض الاقتصادي لتوجهه إلى تلك المشاريع التي لا تتوجه صوبها رؤوس الأموال الخاصة لأي سبب كان, أو من أجل تأمين الدعم الحكومي النسبي للتخفيف من أعباء شدة استغلال رأس المال.
إنها, وهي تدعو إلى تقليص الإنفاق الحكومي, تساهم في تشديد الاختلالات والتناقضات لقائمة حاليا التي تعمق من انقسام المجتمع إلى معسكرين, الأغنياء والفقراء, وتجهز على مواقع الفئات الاجتماعية الوسطى في الإنتاج وتنهي عمليا وجودها على الخارطة الاجتماعية للسكان, ولكنها تسكت كلية عن, أو حتى تشجع على, شراء الأسلحة التي تحمّل ميزانية هذه البلدان موارد مالية كبيرة وتزيد من مديونيتها الخارجية وتشجعها بهذا النهج على حل مشكلاتها الداخلية والإقليمية بالقوة وممارسة العنف والحروب, كما لا ترفض تزويد البلدان النامية بالقروض المالية لأغراض التسلح, وتغفل تماماً الأضرار الناجمة عن ذلك على العملية الاقتصادية وارتفاع المديونية الخارجية والفوائد المترتبة عليها وتدهور الحياة المعيشية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان. وكلنا يعرف العواقب الوخيمة التي تقود إليها هذه الحالة, ومنها مثلاً تقليص الموارد التي تخصص لأغراض التربية والتعليم والثقافة والصحة العامة والنقل ...الخ. والشعوب العربية المنتفضة الآن هي نتيجة منطقية لا لسياسات الاستبداد والقهر السياسي فحسب, بل وبسبب تلك السياسات الاقتصادية التي مارستها وما تزال تمارسها الحكومات العربية والمبنية على اقتصاد السوق الحر بمواصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة, التي لا تغيب عنها العدالة الاجتماعية النسبية فحسب, بل وتشتد البطالة والفقر وتتسع فجوة الدخل السنوي بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتركز الثروة بيد فئة صغيرة من المجتمع تحرم منها الغالبية العظمى من السكان التي تقود بدورها إلى تشديد التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية والنزاعات الداخلية وتنتهي إلى ما نحن عليه الآن بعد أن أدركت الشعوب في الدول العربية إن عليها أن تأخذ مصيرها بنفسها وتتحكم بمستقبلها.
ولهذا فالمقترح المناسب للعراق في المرحلة الراهنة هو اقتصاد السوق الاجتماعي.
فهو نموذج اقتصادي رأسمالي, ولكنه مقيد بالواقع الذي يستوجب تعاملاً اجتماعياً خاصاً. ويمكن إبراز أهم جوانب اقتصاد السوق الاجتماعي:
أ ) إعطاء دور متميز وفعال ورئيسي للقطاع الخاص والعمل على تشجيعه ودعمه وتوفير مستلزمات تطور دوره في الاقتصاد العراقي من جانب الدولة.
ب ) إعطاء دور مهم ومخطط لقطاع الدولة في مجمل الاقتصاد العراقي يستكمل دور القطاع الخاص, ويلعب دور المحتكر لقطاع النفط الإستخراجي والتكرير ومشروعات البنية التحتية, بما فيها قطاع الكهرباء والماء, كما يشارك بفعالية وروح تنافسية لإقامة مجموعة من الصناعات التحويلية ذات الأهمية الفائقة للاقتصاد الوطني والمجتمع والتي يصعب على القطاع الخاص النهوض بها وتحمل مسؤولية الاستثمار الكبير فيها مثلاً. ويتطلب هذا التزام قطاع لدولة بالعمل على وفق المعايير الاقتصادية والمحاسبية والرقابة الجادة على آليات السوق الاقتصادي في مجال المنافسة وضبط تكاليف الإنتاج والأسعار والحوافز الاقتصادي للمنتجين.
ج ) تنشيط دور القطاعين المختلط والتعاوني للمشاركة في عملية تنمية معجلة وناجحة وداعمة لنشاط القطاع الخاص والدولة والمجتمع وخاصة في مجال الريف والصناعات الصغيرة وذات التقنيات العالية التي يصعب على القطاع الخاص وحده النهوض بها أو يستوجب تجميع المنتجين الصغار في جمعيات تعاونية إنتاجية واستهلاكية.
د ) إن الأخذ باقتصاد السوق الاجتماعي يتطلب بشكل خاص:
** إصدار تشريعات لمنع الاحتكار والحد من الاستغلال تنظيم المنافسة والأخذ بالضرائب التصاعدية على الدخل المباشر للسكان وتقليص الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات التي لا تميز بين الناس على أساس دخولهم السنوية ومستوى معيشتهم.
** وضع حد أدنى للأجور والمساواة بين المرأة والرجل في الأجور للأعمال المماثلة.
** وضع تشريعات تؤمن الضمان الصحي والاجتماعي وأثناء الشيخوخة أو العجز والرواتب التقاعدية والعطل السنوية وفي حالات المرض أو الحمل...الخ.
** العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة …الخ.
** تقديم الدعم الحكومي الضروري ولفترة غير قصيرة إلى بعض السلع والخدمات لضمان حصول الفئات الكادحة والفقيرة على احتياجاتها الأساسية مثل الخبز, على سبيل المثال لا الحصر, أو دعم بعض المنتجات الزراعية التي تواجه منافسة حادة في السوق الدولية لضمان الإنتاج في العراق وضرورة توفي الأمن الغذائي.
هـ) أن تلعب النقابات ومنظمات المجتمع المدني دورها الفاعل في المجتمع وفي النضال من أجل حقوق العمال والمستخدمين والعاملين في الإدارة وفي حل الخلافات التي تحصل بين العمل ورأس المال.
إننا بذلك نستطيع أن نضمن الكثير من الأسس التي لا تسمح بتشديد الصراع الطبقي أو الصراع بين العمل وراس المال لصالح تعجيل التنمية والاستفادة من كل الطاقات المتوفرة في البلاد.
و) لدي القناعة بأن العراق لن يكون في مقدوره في المرحلة الراهنة من الناحيتين النظرية والعملية أن يمارس سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد, إذ إنها ستعطل عملياً القدرة على تطوير الاقتصاد الوطني والتصنيع وتحديث الزراعة بسبب المنافسة غير المتكافئة. ولهذا فأن ضمان الوصول إلى عملية تنمية مستدامة تستوجب إخضاع التجارة الخارجية لخمسة عوامل أساسية, وهي:
* وضعها في خدمة عملية التنمية الصناعية والزراعية والتعليمية والثقافية والبيئية .., أي التنمية الاقتصادية والبشرية ومن أجل تحقيق تراكم عقلاني مستمر للثروة الوطنية.
* الإشباع المناسب لحاجة السوق المحلية للسلع الاستهلاكية وسلع الاستهلاك الدائم مع الاهتمام بنوعية السلع المستوردة.
* كما يفترض أن تلعب الدولة ولسنوات طويلة قادمة دور المنظم والمؤثر إيجاباً على حركة وفعل قانون العرض والطلب لضمان استقرار الأسعار وخلق توازن عقلاني بينها وبين الأجور والدخل السنوي للأفراد والعائلات من ذوي الدخل الواطئ والمحدود, وخاصة بالنسبة لأكثر السلع أهمية وضرورية لغالبية المجتمع.
* تنويع مصادر الدخل القومي من خلال زيادة دور المنتجات الصناعية والزراعية غير النفط الخام والغاز الطبيعي في إجمالي صادرات العراق.
* السعي لتحقيق التوازن التدريجي في الميزان التجاري العراقي مع الدول المختلفة وبين الصادرات والاستيرادات, والتي يمكن أن تؤثر إيجاباً على ميزان المدفوعات.
* إن تلعب السياسة المالية والنقدية, وسياسة المصارف وشركات التأمين دورها المشجع لتحقيق النمو الاقتصادي في ضوء اقتصاد السوق الاجتماعي. فالسياسة المالية هي الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية.