أزمة نظام حكم أم نظام حكم ينتج الأزمات ؟
كثرة من الناس كانت تتمنى وتتوقع إن يلعب التغيير دوره في بناء نظام حكم جديد يمكنه تغيير وجه العراق الدامي والحزين نحو الأفضل. والقلة غير القليلة كانت تخشى التغيير على الطريقة التي جرت فيها لأنها كانت تعتقد بأنها لا تمتلك ديناميكية التغيير صوب الأفضل, بل يمكن أن تضع العراق على حبل رفيع لا يمكن تقدير أين سينتهي هل سيحل عند الفردوس أو سيسقط في الجحيم. والسؤال: أين هو الآن؟
لقد تخلص الشعب العراقي من نظام الخيانة الوطنية والعنصرية والحروب والقسوة, من نظام حزب البعث, وهي منقبة كبيرة. وفتح كنس النظام احتمالات عدة منها إمكانية وضع العراق على سكة سليمة تساهم في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحرة. ولكن الدلائل كلها كانت تشير إلى أن العراق بدأ السير في طريق آخر أدى إلى أن يكون العراق في وضع معقد وصعب جداً يعيشه الشعب, وخاصة شعب وسط وجنوب العراق وبغداد. لقد سار العراق خلال الأعوام التسعة المنصرمة على طريق مليء بالعثرات ساهم في خلق مشكلات جديدة أرهقت المجتمع واستمرت في تشديد وتعقيد أزمة الحكم الطاحنة. إنها تتخذ اليوم ومنذ سقوط الدكتاتورية, صيغاً وأبعاداً ومظاهر جديدة لم يفكر البعض الكثير باحتمال حصولها. فمن المسؤول عن ذلك, هل هي أزمة نظام الحكم القائم, أم أن نظام الحكم القائم بحكم طبيعته الراهنة يشارك بفعالية في خلق الأزمات وينميها ويعمقها ويشدد من عواقبها على المجتمع والاقتصاد الوطني؟ يبدو لي إن الأزمة الراهنة هي تفاعل وتبادل وتأثير ناتج عن فعل الوجهين, فهي من طرف أزمة نظام حكم, وهي من طرف آخر تشير إلى أن الحكم القائم يعيد إنتاج الأزمة ويشدد من طابعها الشمولي بحيث تمس الدولة والمجتمع في آن. وتلعب, كما في السابق, عوامل إقليمية ودولية عديدة دورها في استمرارها وفي تفاقم عواقبها على المجتمع وإلى عدم استقرار الدولة.
إنها أزمة نظام حكم بسبب استناده إلى قاعدة المحاصصة الطائفية التي تمارس منذ سقوط النظام حتى الآن في تشكيل السلطات الثلاث, التشريعية والتنفيذية والقضائية, إذ لم تنج من الطائفية حتى السلطة القضائية بصورة مباشرة وغير مباشرة. وهو نظام حكم يصعب التوحد فيه على أسس المواطنة العراقية الحرة والمتساوية, وبالتالي فهو نظام حكم يواجه تعارضاً في القوى وتناقضاً في البرامج والأهداف والأدوات وصراعاً على الدور والنفوذ والمكانة والموارد. وهو حكم لا يعبر عن مصالح الطبقة البرجوازية الوطنية أو الطبقات والفئات المنتجة للخيرات المادية, بل يعبر عن مصالح ذاتية للقوى السياسية المشاركة في الحكم والتي تعبر عن مصالحها بالذات وتدعي تمثيل قوى الشعب كله ولكنها في الحقيقة لا تعبر بالضرورة عن القوى المذهبية أو القومية. وفي مثل هذه الحالة يعجز نظام الحكم, بسبب اختلافه الشديد وتناقضه وصراعه ومنازعاته المستمرة بما فيها مهاتراته, عن إيجاد البرنامج المشترك للتنفيذ بما يحقق مصالح غالبية الشعب. ولهذا يواجه المتتبع نظام الحكم لا يمتلك إستراتيجية تنموية ولا يمتلك خططاً خمسية للبناء والتعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, ولا يملك برنامجاً واقعياً لمكافحة البطالة والفقر والفساد, ولا يمتلك خطة متكاملة لمكافحة الإرهاب, رغم وجود نشاط في هذا الصدد ونجاحات معينة, إذ أن أي خطة جادة وناجحة لمكافحة الإرهاب تستوجب وضع خطة تشمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتنويرية والتثقيفية والبيئية ومن ثم الأمنية والعسكرية وعلى عموم البلاد. ومن هنا يأتي هذا التخبط في السياسة والمواقف وفي تعطيل مسيرة البلاد صوب البناء والاستقرار والتقدم.
والصراع لا يدور حول البرامج التي تطرحها هذه الأحزاب والقوى المشاركة في الحكم, إذ أن هناك الكثير من النقاط التي ربما لا تختلف عليها, بل إن المشكلة تكمن في رغبة الهيمنة على الحكم لكل منها بمفرده والشطب, إن أمكن, على الآخر والتخلص منه. ولكنه مجبر, بسبب نتائج الانتخابات, على التعامل مع تلك النتائج وتشكيل حكومة تعبر في تشكيلتها وليس في برنامجها وأهدافها وآليات عملها عن تلك القوى الفائزة في الانتخابات. وهي المشكلة الكبيرة التي تواجه الجميع. والعوامل الإقليمية والدولية تزيد من صب الزيت على النيران المشتعلة بين القوى السياسية المشاركة في الحكم, والمياه المتوفرة غير كافية لإطفاء الحريق.
المشكلة تكمن في النظام السياسي الذي يعتمد المحاصصة الطائفية في توزيع المقاعد في مجلس الوزراء, ولهذا يجد الإنسان هذا التضخم في تركيبته حيث يوجد 43 وزيراً إضافة إلى رئيس الوزراء وأثنين من نوابه, وهي أكثر من ضعف عدد وزراء حكومة الصين الشعبية (22 وزارة) التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من 1,338,000,000 نسمة. والناس في شوارع بغداد تعلق بين المزاح والجد "علي بابا والأربعين حرامي ...". وهي أكبر وزارة في تاريخ العراق الحديث, وهي أكبر من وزارة الوحدة التي تشكلت في العام 2005 في إقليم كردستان برئاسة السيد نيچيرفان بارزاني, إذ بلغ العدد في حينها 40 وزيراً إضافة إلى رئيس الوزراء ونائبه, ولكن العدد خفض في حكومة الدكتور برهم صالح إلى 19 وزيراً إضافة إلى رئيس الوزراء ونائبه, والعدد ويمكن ويفترض أن يخفض إلى أكثر من ذلك لتكثيف العمل وتقليص المصروفات وزيادة الإنتاجية, إذ إنها ما تزال مقاربة لعدد وزارات الصين الشعبية.
من هنا يمكن القول بأن الحكم القائم يمارس في الواقع دور المنتج للأزمات, إذ أن وجوده القائم على ذات قاعدة المحاصصة يعيد إنتاج الأزمة ويضمن استمرار وجودها ويعمق من الفجوة بين الحكم والمجتمع.
على مدى عقود عدة تحمل الشعب ظلم النظام البعثي والصدامي وعجز عن التحرك ضده بسبب الإرهاب والقمع الدمويين. والمعارضة السابقة, التي هي اليوم في الحكم وتلك التي خارج الحكم, تدرك المعاناة الهائلة التي واجهتها تحت وطأة الحكم المقبور والموت الذي حصد الكثير من قادتها وأعضائها والمؤيدين لها. وحين توفرت للشعب الفرصة انتفض في ربيع 1991 على النظام وأراد قلعه من جذوره لولا التآمر الإقليمي-الدولي ورغبة قادة تلك الدول في إبقاء صدام حسين ونظامه في الحكم.
وبعد سقوط النظام وعلى مدى ثمانية أعوام تحمل الشعب العراقي, وخاصة في وسط وجنوب العراق, مصاعب ومصائب كبيرة, سواء من جانب القوى الإرهابية والمليشيات الطائفية المسلحة وقوى البعث المجرمة, أم من بنية وسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة التي تمارس النهج الطائفي وتُتهم بالفساد وتتسم بالضعف وترتكب الكثير من الأخطاء الفادحة.
ومع نهاية العام الثامن وبداية العام التاسع نفذ صبر الكثير من الناس وتحركت قوى شبابية وشعبية وديمقراطية تطالب بالإصلاح والتخلي عن نظام المحاصصة ومحاربة الإرهاب والفساد ومكافحة البطالة والتعامل مع الشعب على أساس من المواطنة الحرة والمتساوية وليس على الهوية الدينية والطائفية أو الحزبية الضيقة أو على أسس تمييزية أخرى مثل التمييز ضد المرأة بشكل صارخ. ولكن رئيس الحكومة وبعض أطرافها وأوساطاً معينة رأت في هذا الحراك الشبابي والشعبي خطراً عليها وعلى نظام المحاصصة المقيت, فشنت حملة هستيرية ودعائية مناهضة للمظاهرات ولمطالب الحركة الشبابية والشعبية الديمقراطية متهمة إياها بكل ما هو بائس وخبيث, اتهمتها بأن البعث وقوى القاعدة وهيئة علماء المسلمين ومن لف لفهم يقفون وراء هذه المظاهرات وأنهم يريدون استغلال ذلك لضرب الشعب ونظام الحكم. ورغم كل الدعوات السلمية والديمقراطية التي ميزت المظاهرات منذ 25 شباط/فبراير 2011 حتى الآن وفي كل أيام الجمع المنصرمة, فأن الحكومة واصلت نهجها المناهض للمظاهرات وزجت بقوى عشائرية جاءت بهم من مختلف مناطق وسط وجنوب العراق وقوى أخرى من المرتزقة البلطجية وزجت بهم وهم يحملون العصي والسكاكين ضد الجماعات التي تتظاهر في ساحة التحرير وتحت نصب الحرية. وكان التجاوز على المتظاهرين في أيام الجمعة 27/أيار/ و3 و10 حزيران 2011 واعتقال البعض منهم وتعريضه للتعذيب النفسي والجسدي وتهديده واتهامه بتهم باطلة. كما إن استخدام العصي والسكاكين في يومي 3 و 10 حزيران لا يدلل على ثقة بالنفس من جانب الحكومة, إذ إنه قدم الدليل على التحولات الجارية على طبيعة الحكم واستبداد رئيس الحكومة في تعامله مع مطالب الشعب والمتظاهرين. ورغم صدور التقرير المهم عن لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب الذي أكد أن مظاهرات ساحة التحرير كانت سلمية وديمقراطية ومشروعة, فأن رئيس الوزراء لم يجد في نفسه الجرأة على الاعتراف بالخطأ والتراجع عن اتهاماته الشائنة والاعتذار للمتظاهرين ومن تم اعتقاله وتعذيبه.
إن الشعب سيواصل مختلف أشكال النضال السلمية والديمقراطية لتغيير الأوضاع الشاذة التي يعيش تحت وطأتها الشعب العراقي والأكثرية الساكتة حتى الآن, إذ لن يطول صمتها حقا, فهي تعاني الأمرين, وخاصة الفئات الكادحة والمقهورة اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً وبيئياً.
إن من يلقي نظرة على الصراع المتهافت والمتهاتر الدائر بين بعض أطراف الحكومة العراقية, أي بين قائمتي دولة القانون والقائمة العراقية, يشعر بالخجل لما وصل إليه العراق وبعض القوى السياسية, فالاتهامات المتبادلة بين الطرفين, وخاصة بعد الاشتباك بالأيدي بين النائبين كمال الساعدي وحيدر الملا في مجلس النواب, والبيان رقم 1 الصادر عن الدكتور علاوي واتهامات الحكومة بعلاقة علاوي بالمجرم السفاح فراس الجبوري من خلال نشر بعض الصور, وهي صور لا تبرهن بالضرورة على شيء يدين علاوي أو الوفاق الوطني, واتهامات علاوي لرئيس الوزراء بأنه وراء خفافيش الظلام, كلها, شاءوا أم أبو, ستبقى عالقة في أذهان الناس وسيبقى يقول البعض الكثير: لا بد أن يكون بعض ما جاء في هذه الاتهامات صحيح, إذ أن الطرفين كانوا يعملون سوية في المعارضة وفيما بعد أيضاً و "كلهم ولد گرية, كل واحد يعرف أخيه".
الشعب العراقي أمام حالة صراع مزرية وهو بحاجة إلى تغيير. ولكن هناك من يسعَّر ويصعَّد في الخلافات بأمل خلق الإحباط تماماً, وهو موجود فعلاً في أوساط الشعب. وقوى الإرهاب هي الجهة المستفيدة جداً من هذا الصراع والإحباط وعواقبه وخيمة, إذ تسنى لها في الأشهر الأخيرة توجيه ضربات إضافية قاسية ضد الشعب الآمن وسقط الكثير من الشهداء والجرحى والمعوقين في بغداد بشكل خاص. ولا يبدو في الأفق حل مناسب رغم الدعوة التي وجها السيد رئيس الإقليم للقاء والتباحث وحل المشكلة. والرغبة لدى الوسطاء شيء وإرادة الأطراف المتصارعة شيء آخر, والإرادة هنا هي المفقودة حالياً.
لهذا أرى بأن الحل المقترح سيكون رقعة صغيرة لشق كبير لا يمكن ستره ولا استمراره طويلاً, بل سينفجر الصراع بأشد من السابق. وعليه يبقى الحل الأمثل لواقع العراق الراهن يتلخص باتخاذ رئيس الحكومة قراراً صائباً يقضي بإجراء انتخابات عامة مبكرة ربما تنتهي بمجلس نيابي جديد تنشأ عنه إمكانية بناء تحالفات جديدة بعيدة عن المحاصصة الطائفية تفرض نفسها. عندها يزداد احتمال إيجاد حلول عملية للمشكلات التي تواجه نظام الحكم والمجتمع العراقي. إن احتمال تغيير كبير في المجلس النيابي في أعقاب انتخابات جديدة ليست بالضرورة كبيرة ولكنها ممكنة, خاصة إذا التزمت المؤسسة الدينية السنية والمرجعيات الدينية الشيعة بموقف الحياد وعدم التدخل ورفض إسناد ودعم أي حزب أو قوة سياسية حزبية أو غير حزبية, وإجراء تعديلات جديدة على قانون الانتخابات وفي تركيبة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لتجاوز الأخطاء والهفوات والاتهامات السابقة لها, وتشكيل حكومة مؤقتة من أجل إجراء الانتخابات لضمان حياديتها الفعلية, فإن نتائج الانتخابات, رغم كل المحاولات الجارية لتصعيد المزاج الطائفي واصطفافه واستقطابه, ستكون أفضل من نتائج انتخابات 2010 وستكون لصالح المواطنة والوحدة الوطنية.
إن حل مجلس النواب ليس طامة على الجميع, بل ضرورة مقبولة ومطلوبة من عدد متزايد من بنات وأبناء الشعب في العراق وفي الخارج. نأمل أن تأخذ به الحكومة وأن تتفق عليه كل القوى السياسية العراقية بغض النظر عما تنتظره من نتائج الانتخابات المبكرة المقترحة.