ملف البيئة وإشكاليات التنمية في كوردستان
ولعل أحد أهم التداعيات للتغييرات المناخية هو في تقلص مساحة قطبي الكرة الأرضية بعد ذوابانهما مما أدى الى خلل في توازن الثلوج عموما إضافة الى خلل واضح في نمط سقوط الأمطاروالبالغة إجمالا في العالم 150 ألف كم3 وذلك إما في تناقصها الحالي نحو الجفاف أو في إنهمارها الحاد محدثة الفيضانات المدمرة. ومن المعلوم أن تزامن إرتفاع درجات الحرارة وتناقص معدلات الأمطار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد أسهم في إزدياد موجات الجفاف من حالة واحدة الى 6 حالات كل عقد من السنين. وتعاني المنطقة عموما من إنخفاض حاد في الحصة السنوية للفرد من المياه الى ما دون 2000 م3 حيث تشير التوقعات الى إقتراب الكثير من دول المنطقة الى خط الفقر المائي بحلول 2030, وكما يبدو العراق الآن في دائرة خطر شح الماء تبعا للمعدلات الحالية في حوض نهرالرافدين والذي لايتجاوز نصف المعتاد من المياه (كولان العدد 817 في 7-2-2011). وتبدوا الحالة في كوردستان العراق أكثر تعقيدا وذلك جراء الفترة السياسية الغير مستقرة والدمار الذي لحق بالبنية التحتية للطبيعة وإنهيار العامل الأقتصادي-الأجتماعي لمجتمعات القرى إجمالا (كولان العدد 800 في 4 أكتوبر 2010). وإذا ما أخذنا برأي معظم الخبراء بإعتبار كوردستان سلة غذاء واعدة بعد السودان في الشرق الأوسط فالمغامرات السياسية في بغداد لأجهاض تلك السلة قد جر العراق الى خطر إنهيار الأمن الغذائي فيها ككل. وتبدو الحالة أكثر كارثية في كوردستان والذي فقد منذ منتصف القرن الماضي أكثر من مليون هكتار من مساحة الغابات الطبيعية. وكان من اخطر تداعياته هو في تناقص قدرة خزن مياه الثلوج والأمطار إضافة لتعرية التربة السطحية الغنية عبر عقود من الزمن وإنجرافها الى النهرين ومن ثم الى شط العرب. وبذلك تحولت غابات كوردستان الى ارض مفتوحة لأنبعاث الكاربون بعد أن كانت خزين آمن لها. لذا حرصنا في المؤتمر الدولي حول التغييرات المناخية والمنعقد في كوبنهاكن في نهاية 2009 على الإعلان عن أول تقييم بيئي لكوردستان (Environmental Assessment) وتم تسليم ذلك الى رئاسة المؤتمر ومكاتب الأمم المتحدة والأتحاد الأوربي ومجموعة 77 المشاركة إضافة الى توزيعها على مندوبي 110 دول المشاركة وبضمنهم مندوبة وزارة الخارجية العراقية. وتأتي أهمية ذلك في توثيق الدمار الهائل الذي لحق ببنية ورأس مال الطبيعة وبيئتها في كوردستان خلال عقود الصراع المرير مع الحكومة المركزية في بغداد. ومن المفترض بحكومة الأقليم إيصال نفس الرسالة الى أعلى سلطة في بغداد لغرض التوثيق والتمهيد لأستحقاقات كافية وعادلة لأعمار كوردستان وحسب مواد الدستور العراقي رقم (25) و (106) و (121-ثانيا), إضافة للمادة (112 - أولا) والتي نصت على تخصيص حصة إضافية للأقاليم المتضررة.
مما لاشك فيه أن ملف البيئة وإشكاليات التنمية الأقتصادية في كوردستان يتداخلان مع جملة من التحديات الأمنية في مجالات مصيرية مثل أزمة الغذاء والمياه وأزمة الطاقة إقليميا ودوليا. حيث إن التدمير الشامل في كوردستان قد ادى الى إختلال العلاقة ما بين المجتمعات القروية والطبيعة المحيطة بها وذلك بعد ألاف السنين من المعايشة (co-existence) والتفاعل الأيجابي ولصالح الطرفين. كما أدت الهجرة الجماعية من القرى الى المدن الى تفاقم مشاكل العامل الأقتصادي-الأجتماعي في المناطق الحضرية والتي لم تألف مثل هذا التكدس السكاني وصعوبة التكيف مع الطلب المتزايد على توفير البنية التحتية اللازمة. وأدى هذا التصادم ما بين ثقافة وسلوكيات الحضر والريف الى تداعيات إنعكست على الأستخدامات اليومية للماء والهواء والتربة و البيئة إجمالا. واصبح التلوث المائي والهوائي وتدهور البنية التحتية التقليدية للمدن أحد أخطر التداعيات الملموسة يوميا. وعليه برزت الحاجة الى إستقراء للحلول الشاملة لمسائل عالقة ومتداخلة من إقتصدية واجتماعية وبيئية وفي كلا من المناطق الريفية والحضرية. ومن أجل رؤية مستقبلية للقرن الحالي, سبق وأن طرح الموضوع على صفحات كولان (العدد 800 في 4 أكتوبر 2010) حول وجوب بلورة رؤية سياسية واضحة للتمهيد لتنمية إقتصادية شاملة وبديلة لما بعد النفط؟ ورغم أن الدراسة التحليلية قد أشارت بوضوح الى ضراوة الظروف التي مربها كوردستان إلا أنها اكدت بأن الوقت قد حان لأدارة مواردنا الطبيعية والبشرية ولزيادة الأنتاجية وردم الهوة الحاصلة ما بين المناطق الحضرية والأرياف وضرورة رسم سياسات تنموية وإقتصادية تستجيب لمتطلبات الأمن الغذائي والمائي وأمن الطاقة وبدائلها. كما آن الأوان لوضع سياسة لأمن الطاقة وبدائلها في كوردستان تؤمن الأستقرار الأقتصادي المنشود لأجيال ما بعد النفط (كولان العدد 829 في 9-5-2011).
ومن الجدير بالذكربأنه كان لزاما علينا في منتصف عام 2005 , وقبيل التعامل مع ملف التنمية والبيئة المتدهورة , إعداد مدخل لقانون حماية وصيانة البيئة والطبيعة في الأقليم. وبناء على هذه التحليلات العلمية تم تشخيص أركان المشكلة بابعادها المتعددة وترسيم الأسس للأوليات القانونية والفنية لهذا المشروع الأستراتيجي بنهاية عام 2006. وفي نفس الوقت ولفهم أكثر للواقع بدأنا حوارا أسبوعيا ولنهاية 2007في مجلس الوزراء مع شريحة واسعة من طبقات الفلاحين والرعاة والتجار ورجال الأعمال وبحضور كوادر الوزارات المعنية. ورافق ذلك جولات إستطلاعية لأراء سكان القرى والأرياف في عموم الإقليم. ومن ثم تم إعداد خطة عمل أستراتيجية (Master Plan)وذلك لأعادة تنمية الأقتصاد الريفي التقليدي وإعتمادا على اسس التنمية المستدامة. وحيث تم فيه تبني فكرة تزامن إعادة البناء مع إعادة تشجيرالغابات وربط كليهما مع تنمية وتنويع دخل العائلة في الريف وترميم النسيج البيئي الى حالته الطبيعية. والفكرة الأساسية هو في إحياء القرى كوحدات إنتاجية قادرة على إدارة إقتصادها التقليدي وتطويرذلك وإغنائه تدريجيا نحو إقتصاد التنمية والمعتمدة على آليات التنمية النظيفة (CDM). وفي خطوة تمهيدية ولربط المجتمعات الفلاحية في القرى والأرياف بمدن ومراكز التجارة الداخلية تم إستيراد وتوزيع مركبات البيك آب المخفضة السعر وبإشراك كوادر فلاحية في عملية التفاوض مع الشركات اليابانية في هذا الصدد. وكان لابد من التعامل بعدها مع المتطلبات القانونية لملف البيئة وذلك بأعداد قانون رقم (8) لسنة 2008 لحماية وتحسين البيئة في كوردستان- العراق. وأعقب ذلك ولغاية نهاية 2010إعداد مسودات أربعة قوانين حول ملف سياسة إدارة الموارد المائية في كوردستان والذي تشكل في مجملها أهم أركان التنمية الأقتصادية البديلة لما بعد النفط. ومن المؤمل الآن في 2011 البدء بالتعامل مع ملف الهواء في إقليم كوردستان, إضافة الى إعداد قانون الإنذار المبكر لمواجهة الكوارث الطبيعية في الإقليم. ومن الأهمية بمكان إيجاد مصادر تمويل لخطط التنمية الأقتصادية أعلاه إضافة الى خلق الآليات الكفيلة بتطبيق هذه القوانين المساندة لها وتهيئة كوادر الوزارات المعنية لتنفيذها بكفاءة إضافة الى خلق ثقافة التنسيق ما بين الوزارات والمؤسسات المحلية والدولية والمعنية بالأمر. ويقتضي الحال قبل كل شيء إرساء البنية التحتية الفاعلة لصناعة القرار السياسي في كوردستان (كولان العدد 807 في 29-11-2010).
وفي الجانب الآخر من المعادلة فلابد من توعية بيئية- تنموية تمهد لأفراد المجتمع- سواء في البيت والمدرسة ودور العبادة وملتقى النخب المثقفة في النوادي وجمعيات المجتمع المدني- من التحرك الجاد لأستيعاب فكرة وحدة الفرد بالطبيعية بصورة سليمة وعقلانية. وأن الأنسان هو جزء فعال يرتبط بها عضويا وبجميع عناصرها وأحيائها. فهذا الوعي هو الذي يجعل التطور والتقدم مذهبا حيويا وعقدا إجتماعيا (أثاره زرادشت من قبل وتبنته مدارسنا الصوفية لاحقا)... وحيثما يشعر الفرد الذي إستوعب هذا الإدراك بان الركود والجمود يناقضان سنة الوجود والتقدم. لأن الوقوف بموقف المتفرج من قضية البيئة الطبيعية التي نعتمد ونعيش ضمن بيتها الكبير (eco-system) هو الحالة المناقضة لأسس تطور الحياة وسبب لتخلف المجتمع. فالوعي البيئي- التنموي والمرتكزة على اصول العقلانية والتجربة المتجددة مع تطور الحياة في حركته الدائمة يعني أساسا الوعي في العلاقة ما بين صحة الأمة وصحة الطبيعة ومجمل إنتاجية الفرد والمجتمع. وعليه يجب ربط سبل الوقاية وفعالياتها مع أساليب العلاج والمعنية بصحة الأمة وهذا ما أستقرعليه مؤخرا بنود سياسة الأصلاح الصحي المقترحة في كوردستان والذي تم طرحه في مؤتمره المنعقد في فبراير 2011والمؤمل تبنيه من قبل رئاسة حكومة الإقليم. والهدف هو في جعل هذا الطرح السياسي توعية ثقافية تؤدي الى سلوكيات حضارية يومية للأفراد ونحو إستخدام أفضل للموارد الطبيعية وباعتبار التنمية الأقتصادية وديمومتها غاية بحد ذاتها لرفاه وتقدم المجتمع الكوردستاني.