ملف أمن المياه في كوردستان
بينما أزداد سكان العالم بمعدل ثلاثة أضعاف في القرن المنصرم أزدادت معدل إستعمالات المياه ستة أضعاث. والنمو السنوي الحالي لسكان العالم والبالغ 83 مليون نسمة سيحتاج 64 مليار متر مكعب إضافي من المياه سنويا. من المعلوم أن 5 ,97% من مياه الكرة الأرضية هي مالحة و2,5% فقط هي مياه عذبة ثلثي ذلك كمخزون جليدي في القطبين وكثلوج وصقيع دائم والباقي المتبقى منها هو ما متوفر كمياه سطحية وجوفية لأنتاج الغذاء وما إليه من أستعمالات بشرية. ومن الجدير بالذكر بأن ثلثي المياه العذبة هذه يستهلك لأنتاج الغذاء العالمي حيث يتراوح الأستهلاك اليومي للمياه لكل فرد لأنتاج الغذاء من 3000 لتر في مصر الى 6000 لتر في كاليفورنيا. وعلى سبيل المثال يبلغ إجمالي الأستهلاك المائي (Virtual water) لأنتاج باوند واحد من اللحم البقري 1857غالون ماء و 379 غالون لأنتاج باوند واحد من فاكهة التين بينما يكلف إنتاج بنطلون جينزالقطني الواحد 2900 غالون ماء و634 غالون لأنتاج همبوركر واحد فقط. وحاليا تنفق السعودية 2300 غالون ماء لإنتاج غالون واحد من الحليب! ومع الزيادة السكانية للعالم فإن الطلب على المياه العذبة سيزيد بأطراد ما لم نغيير من أساليب الأستعمالات المائية وبالكميات الهائلة الحالية. فخلال الخمسة عشر عام القادمة سيعيش 1,8 مليار من البشر في المناطق الأكثر ندرة للمياه. فمن المعلوم أن معدل حصة الفرد من المياه العذبة يجب أن لا تقل عن 1700 متر3 سنويا وإنخفاض هذا المعدل دون 1000 متر3 يؤدي الى مشاكل تنموية حادة بينما يؤدي إنخفاض المعدل الى ما دون 500 متر3 الى حالة ندرة المياه وتفاقم تداعيات الفقر المائي بشكل خطير. ولعل أسوء حالات ندرة المياه العذبة المتوقعة ستكون في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. ومن بين (48) دولة التي ستعاني من شحة في المياه بحلول 2025, (40) منها واقعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والصحارى و(20) منها ستعاني الأسوء حين يحتدم الصراع على حصة لا تتجاوز 2% من مجموع المياه العذبة في العالم.
يعتبر 27% من أراضي العراق والبالغة 43.3 مليون هكتار وكجزء من الهلال الخصيب أرضا زراعية خصبة ومنتجة إقتصاديا. وهذه تمثل 11,1 مليون هكتار والتي بضمنها 3,2 مليون هكتار في كوردستان. حوالي 88% من هذه الأرض الزراعية في كوردستان هي ديمية معتمدة على مياه الأمطار بينما الجزء الباقي 12% هي أرض زراعية إروائية بالمياه السطحية والجوفية. وبالرغم من الطبيعة الجبلية لأراضي كوردستان فإن نسبة الأراضي الخصبة تكون 28% من مساحتها وبضمنها السهول الكبيرة المعروفة في كوردستان مثل سهل هولير وشاره زور ومريوان ومووس وبنكوول (هزار كوول) وباتاس وحرير وبازيان. والتي تعتبر سهول خصبة وصالحة للزراعة المكثفة المعتمدة على المكننة الحديثة. ورغم السدود المقامة مثل دوكان (بطاقة خزنية تبلغ 6,8 مليارمتر3) ودربندخان (3-4 مليار متر3) ودهوك (52-80 مليون متر3) وسد بيخمة المقترح (17,1 مليار متر3) فإنها تفتقر الى مشاريع الري الكبرى المنحسرة في وسط وجنوب العراق. ومن المعلوم أن نهر دجلة يجري لمسافة 1300 كم في العراق ككل بينما تمثل المساحة المائية لحوضه 347000 كم2 والتي تمثل 54% من مجمل الحوض في المنطقة الممتدة الى دول الجوار: 12% في كوردستان تركيا و0,2 % في سوريا 34% في إيران (يونسكو 2003). مع إجمالي للمياه السنوية المتدفقة فيه من الزاب الكبير في تركيا والزاب الصغير في إيران تبلغ 30,12 مليار متر3 والذي يمثل أكثر من ضعف مما يتدفق في نهر الفرات. بينما نصف هذه الكمية السنوية المتدفقة تجري في اشهر الربيع من آذارالى مايس. ورغم أن السنين الجيدة لهطول الثلوج والأمطار شهدت إجمالي سنوي للتدفق المائي بلغ 77 مليار متر3 للنهرين إلا أن السنين الأثنا عشر الأخيرة قد شهدت تناقص ذلك الى الثلث والنصف أحيانا.
دأبت الجارة تركيا ومنذ سنوات عدة على تنفيذ مشروعها الطموح لتنمية جنوب شرقي أناضول والمعروف ب (GAP) والذي يضم عدة قطاعات هدفها المعلن هو في تنمية شاملة ومستدامة للمنطقة وذلك لردم الهوة الحاصلة ما بين شمالها الغني وجنوبها الفقير. والمساحة المشمولة بالمشروع تغطي 75000 كم2 و 9 محافظات في سهول وادي رافدين العليا والمحاذي لمنابع نهري دجلة والفرات. وخطة المشروع تشمل بناء 22 سدا بضمنها سد أتاتورك و19 محطة لتوليد الطاقة بضمنها مشاريع إروائية في مساحة تمتد الى 1,7 مليون هكتار. والكلفة الكلية للمشروع هي 32 مليار دولار أميريكي مع طاقة هايدروكهربائية متوقعة تبلغ 7476 ميغا واط. إلا أن منتقدي المشروع يجدون أن ما تم صرفه على تحسين الحالة المعاشية والأجتماعية في المنطقة لا يعني شيئا مقابل ما تم صرفه على بناء السدود. فأهالي المنطقة لا يجدون أي تحسن ملحوظ في مستواهم الأقتصادي-الأجتماعي يعد أن فقدوا ما يملكون من أراضي زراعية لصالح بناء هذه السدود, وما تبقى من إراضي هي إما صخرية أو جبلية غير صالحة لمشاريع الأروائية الكبيرة. ويبدي اللوبي الأخضر في أوربا قلقه من كثرة بناء السدود هذه وإمكانية تأثيراتها السلبية على البيئة وإيكولوجيا الأحياء في المنطقة وحيث تعد الملاريا أحد أخطر الأمراض المتوقعة تفشيه عند أكمال هذه السدود العملاقة. بينما يرى فيه المحللون مشروعا سياسيا أكثر منه إقتصاديا الغاية منه الأستيلاء على حصة الأسد من موارد دجلة والفرات المائية. ورغم البروتوكول الموقع في 1946 مع العراق حول المنابع المائية فان مبررات الطموح السياسي ومخاوف تركيا من نقص في مواردها من الطاقة عموما يبدوا غالبا على الحكمة المطلوبة لأدارة وحماية مياه النهرين بالأساليب المستدامة. وربما في القول المنسوب للرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل ما يلخص هذا الطموح: "بما أننا لاندعي المشاركة في الموارد النفطية فهم لايستطيعون الأدعاء بمشاركتنا للموارد المائية". ولا يبدوا حاليا وحسب معطيات مؤتمر المناخ في كوبنهاكن في الأفق ما يشير الى وجود سلطة دولية مهياءة للتعامل مع مشاكل الحصص المائية ما بين دول المجرى الأعلى وتلك الواقعة في أسفل مجرى الأحواض المائية في العالم. ورغم الرهان في دول الخليج على تحلية مياه البحار بالطاقة النفطية أو الذرية إلا أن هذا الخيار أيضا لا يخلو من تعقيداته الفنية والأدارية وهو بالضرورة ليس بالحل الجاهز والقابل للشراء وإنما القابل للأبتكار محليا.
ولعل أقليم كوردستان العراق سيعاني تدريجيا من شحة في المياه فور تحول تركيا الى بناء السدود المقررة على نهر دجلة وجهود إيران المماثلة على مجرى الزاب الصغير. ومن الحكمة في هذا الصدد ربط أواصر العلاقات مع اللوبي الأخضر في أوربا والدخول في مفاوضات جدية ضمن الدولة الأتحادية في العراق حول إدارة مستدامة مشتركة لحوض نهر دجلة مع الجارتين تركيا وإيران. فما تعنيه حرب المياه للأجيال القادمة هو تحصيل حاصل للفشل الدولي في معايشة الآخر وفي الأدارة المستدامة لأحواض الأنهر الكبرى المشتركة ما بين أكثر من دولة إضافة الى التهافت الملحوظ على بناء السدود بدون حسابات أيكولوجية دقيقة حول مصير الأحياء من نبات وحيوان وبشر. فكلمة أيكولوجي تعني البيت وخراب البيت يعني جر الجميع الى دمار غير محسوب العواقب وبدون إستثناء. فمن الجدير بالذكر بأن بناء السدود ليست بالضرورة مفيدة فهنالك حاليا المئات من السدود في العالم التي يستوجب إزالتها للمخاطر البيئية والصحية والأيكولوجية التي تسببها لكلا من الشعوب والطبيعة معا. فقد أدت مشاريع السدود في العالم الى نزوح 80 مليون شخص عن محل سكناهم الأصلية. وعلينا التهيأ منذ الآن في كوردستان لمخاطرالتلوث المتوقعة نتيجة أنخفاض سرعة جريان المياه في دجلة وما يعنيه ذلك من تصاعد مشاكل صحية مثل تلك المتعلقة بالكلية عند المواطنين. وإذا ما مضت تركيا في سياسة البزل للمياه المحصورة في سدودها فان نسبة الملوحة فيها بعد أن تصل إلينا ستزداد اضعاف ما مسموح به دوليا للأستعمال. فأزمة المياه ليست قاصرة على الكم ولكن بدرجة أخطر على نوعية المياه المتوفرة للأستعمال من هذه السدود.
علينا الأقرار بأن العراق يقترب عموما من خط الفقر المائي بحلول 2025 هذا بعد أن كانت الحصة السنوية للفرد اكثر من 18000 متر3 في خمسينات القرن المنصرم. وبعد أن كانت هذه الحصة في إيران 2025 متر3 في 1990 فإنها ستنخفض الى 776 متر3 فقط. وفي دول يعتبر الماء فيها جزء من العقد الأجتماعي ما بين السلطة وشعوبها فأجواء العجز المائي المقبلة وبغياب الأستراتيجيات المطلوبة للتكامل الأقتصادي-المائي في المنطقة لا يستبعد الخبراء الأنعكاسات الأمنية لمشكلة شح المياه ضمن كل دولة وربما يتطور ذلك الى حروب أشد ضرواة مع كل دولة في منطقة الشرق الأوسط. ففي منتصف القرن الحالي سيدور صراع من نوع ما يسمى (Hydrologic Conflict) بين أكثر من ربع مليار نسمة على آخر المتبقي من مياه حوضي دجلة والفرات المائي. وحينها ربما لا نحصل بالضرورة على ما نريد ولكن قد نحصل على ما بعض ما نحتاج من مياه في كوردستان. وكما أن مشكلة التغيرات المناخية قد تفاقمت الى درجة لم نعد نستطيع فعل الكثير سوى التأقلم مع تداعياتها فإن أولويات هموم المواطن وحقوقه ستتركز تدريجيا على حقوقه من المياه العذبة كما ونوعا. مما سيدفع بأمن المياه الى مقدمة القضايا الشائكة والمطروحة ضمن أجندة الأمن القومي لكل دولة تتوقع أن يكون لها دورعلى خارطة السياسة الدولية والأقليمية والحبلة بمرارة الصراعات القادمة ما بين الأمم من جهة ومع الطبيعة المضطربة من جهة أخرى والمنذرة إجمالا بالكوارث والمشاكل الأجتماعية والأقتصادية المتفاقمة التي لم يسبق لها مثيل منذ عهد الطوفان الكبير.
وبدأ ذات بدء فنحن أحوج ما نكون الى رسم سياسة مائية تؤمن لكوردستان الحق في إستخدام كافة موارده المائية في حوض نهر دجلة والروافد التي تنبع أو التي تصب فيه وحمايتها وكيفية إستخدامها لتطوير الواقع الأقتصادي والأجتماعي والتنموي في الأقليم وحسب تسلسل حيثيات المواد 110 و114 و115 من الدستور العراقي. وفي ملف المياه في كوردستان فقد قمنا بإعداد مسودة أربعة قوانين حديثة تحدد الأطر العملية والفنية والقانونية في هذا الصدد. فنحن بحاجة الى إدارة مستدامة للسدود المقامة في الأقليم وبطريقة تضمن لنا ربطها بأنظمة ري متطورة للأستفادة القصوى من المياه السطحية في الأقليم. وعلينا تطوير برامج أكثر فاعلية في حصاد مياه الأمطار والثلوج في مواسمها بغرض إستعمالها لاحقا بطرق الرش والتنقيط الحديثة وبأتباع سياسة محصول أكثر مع كل قطرة ((More Crop per Drop. كما يجب إحياء طرق إنشاء السدود الصغيرة التقليدية ضمن مزارع وبساتين الفواكه والخضروات على تخوم الجبال والتلال المحيطة بقرى كوردستان وكما دأب أجدادنا على ذلك عبر العصور. فبإنحسار مساحات الغابات الطبيعية في كوردستان الى الثلث (الملف البيئي في كوردستان والمعلن في مؤتمر المناخ العالمي في كوبنهاكن) وتوقف بناء السدود الصغيرة فإن ثروة التربة السطحية في خطر الأنجراف والتعرية مما يعني أن عمر السدود الكبيرة ستكون أقصر مما يجب عليه. كما يجب إعادة النظر في أساليب التراخيص الخاصة بحفر الأبار لأن المياه الجوفية لايمكن تعويضها في حالة النفاذ والأسنزاف. فبينما لا يتجاوز فترة تعويض كل قطرة ماء جرى إستخدامها من النهر الى 18 يوما تمتد تلك الفترة الى آلاف السنين لتعويض المياه الجوفية. وحسب راي الخبراء فإن موارد المياه الجوفية المحدودة ضمن الحدود الوطنية لدول الشرق الأوسط تشكل تهديدا أكثر إلحاحا وأشد خطرا على الصعيد الأستراتيجي وإستنزافها المحتمل يهدد التوازنات السياسية القائمة حتى داخل الدولة الواحدة. وحين دجلة نهرنا... لم يعد يسقي شجرنا... سنجد أنفسنا في كوردستان أمام حتمية تطبيق سياسة مائية تؤمن حاجات المواطنين ودون إستنزاف للموارد المائية. ويبقى على السادة المواطنين التقيد بالتعليمات التي ستصدر لامحال لترشيد الأستهلاك في الأقليم, فعلى جبهة الطلب لا مفر من فرض أنظمة تسعير شاملة وتقديم حوافز للأستعمال المسؤول. فإذا ظل الماء يبدو وكأنه مورد مجاني, فسوف تستمر معاملته كمورد لا ينضب. فعلينا عدم التركيزعلى زيادة العرض ولكن على التخفيف من الطلب والألتزام بترشيد الأستهلاك عموما. وكما بات من الضروري إصلاح البنية التحتية في كوردستان والتي تسهم في هدر كبير للمياه إضافة لأستخدامات المياه غير الفعالة.