هل يمكن القبول بواقع الفقر الراهن في العراق؟
والعراق, كأحد البلدان النامية, ولكنه غني بثرواته الأولية, لم يعان من انتهاك حقوق الإنسان السياسية والثقافية والبيئية فحسب, ولم يجر التجاوز فيه على الحقوق القومية والدينية والمذهبية والفكرية طوال العقود المنصرمة فحسب, بل واجه انتهاكاً فظاً لحقوق الإنسان في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. إن واقع التخلف والتشوه الاقتصادي والاجتماعي والفقر والبطالة كلها مظاهر تقدم الدليل القاطع على ما نقول. إذ علينا أن نتذكر ما كان عليه العهد الملكي ومن ثم العهود اللاحقة, وخاصة الفترة التي بدأت مع حروب النظام الداخلية والخارجية وانتهت بسقوط الدكتاتورية. ولكن عراق اليوم يواجه إشكاليات غير قليلة في مجال حقوق الإنسان السياسية والثقافية والبيئية والدينية والمذهبية, وخاصة تلك المشكلات التي تعرضت لها منظمات حقوق الإنسان الدولية, ومنها منظمة العفو الدولية في آخر تقرير لها حول السجناء والمعتقلين في العراق في خريف العام 2010. كما أنه يواجه مشكلات جمة في مجال حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.
إن ظواهر التخلف والتشوه الاقتصادي والاجتماعي وتجلياتها في الفقر والفاقة والعوز المادي تقود كلها إلى مشكلات اجتماعية لا حصر لها في كل المجتمعات, ومنها المجتمع العراقي. ولهذا فأن مكافحة التخلف الاقتصادي والفقر والبطالة تسهم بدرجة كبيرة في مكافحة تلك العلل والعاهات الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع العراقي حالياً. ومن هنا يأتي ينشأ قول أكثر المختصين بـ: أن التخلف والفقر والبطالة والحرمان تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان وتستوجب المعالجة السريعة. وعراق اليوم يشهد ظاهرة استمرار التخلف والتشوه الاقتصاديين وتشوه البنية الاجتماعية وتفاقم الفجوة في مستويات الدخل السنوي للفرد الواحد بين الفقراء والأغنياء, خاصة وأن نسبة عالية من الأغنياء لم تأت ثرواتهم إلا على حساب الثروة الوطنية والفقراء وعبر الفساد المالي في البلاد, والذي يعترف بوجوده الجميع, بمن فيهم أولئك الذين يمارسونه.
إذا اعتمدنا المعلومات التي نشرتها وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي في بغداد, سنجد أن الفقر في العراق قد وصل إلى 23% من سكان العراق في العام 2007, وأن الدولة تسعى إلى تخفيضه إلى 16% خلال السنوات الخمس القادمة. ولكن هناك أرقاماً أخرى تشير إلى وجود نسبة قدرها 30% من السكان تعيش تحت خط الفقر, إضافة إلى نسبة أخرى تصل إلى 30% أيضاً تعيش فوق خط الفقر بقليل. وإذا كانت هذه النسبة تمثل متوسط الفقر في العراق, فأن الفقر في المحافظات يتخذ أبعاداً أخرى وفق تلك الدراسة, كما أن الفقر بين الريف والحضر يشكل مأزقاً
فعلياً كبيراً للاقتصاد والمجتمع في العراق. فعلى وفق تلك الدراسة التي تم الاتفاق عل إجرائها بين الجهاز المركزي للإحصاء وبين حكومة إقليم كردستان ونشرت في العام 2009 يتبين للقراء الواقع التالي:
المحافظة نسبة الفقر إلى السكان % المحافظة نسبة الفقر إلى السكان %
أربيل 3 كربلاء 37
السليمانية 3 النجف 25
دهوك 9 واسط 36
كركوك 11 القادسية 35
نينوى 23 المثنى 49
ديالى 34 ذي قار 34
الأنبار 21 ميسان 27
صلاح الدين 40 البصرة 34
بغداد 13 العراق 23
بابل 41
قارن: وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي, تقرير خط الفقر وملامح الفقر في العراق, بغداد 2009.
موقع الحضارية على الإنترنيت, أيلول/سبتمبر 2010.
ومنه يستدل على الفجوة الكبيرة في ما بين المحافظات من جهة, ونسبة الفارق الكبيرة بين محافظة المثنى (السماوة) حيث بلغت نسبة الفقر فيها 49% من إجمالي سكانها, ومحافظات أربيل والسليمانية حيث بلغت نسبة الفقر فيهما 3%, على سبيل المثال لا الحصر.
أما على مستوى الفقر في الريف والحضر فأن الأرقام التالية تؤكد تلك الفجوة الكبيرة بينهما:
فقد بلغت نسبة الفقر في الريف 39% ونسبته في الحضر 16,1%. (قارن: نفس المصدر السابق).
ومن المثير حقاً أن ندرك بأن نسبة الفقر بين الفترة الواقعة بين 2007 و 2010 لم تتراجع في محافظات الوسط والجنوب وعلى مستوى العراق عموماً بل ازدادت كما أشار إلى ذلك الدكتور مهدي العلاق, وكيل وزير التخطيط ورئيس الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات. إذ بلغت نسبة الفقر بين الأسر العراقية (28%) و(30%) بين الأفراد وهم يعيشون في حالة حرمان شديد, حسب تعبير العلاق, أي تحت خط الفقر المعروف دولياً. كما أكد العلاق أن 95% من العراقيين يفضلون استمرار البطاقة التموينية, أي إنها النسبة السكانية العالية جداً التي ترى ضرورة الحصول على مساعدات حكومية, أما 5% الباقية من العراقيين فيبدو أنها من كبار مسؤولي العراق والأغنياء والمتخمين بالمال جداً. (قارن: موقع وزارة التخطيط على الإنترنيت, الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات 27/أيلول 2010).
أما البطالة في العراق فتشير أرقام وزارة التخطيط إلى إنها بلغت 30,2% من مجموع القوى القادرة على العمل, دع عنك وجود بطالة مقنعة تزيد على هذه النسبة وتستنزف الكثير من موارد خزينة الدولة وتعرقل إنجاز مصالح المواطنين. ومما هو جدير بالذكر أن نسبة البطالة في ذي قار (الناصرية) وصلت إلى 46,2% كمتوسط ونسبتها بين الذكور 48,8%, تأتي بعدها محافظة الأنبار 33,3%. ولا شك في أن نسبة البطالة بين النساء عالية جداً, إذ غالباً ما تحسب النساء ضمن فقرة ربات بيوت, وبالتالي لا يدخلن في أرقام البطالة الفعلية في العراق.
على ماذا يعبر هذا الواقع في العراق الجديد وفي بلد غني بثرواته الأولية وخاصة النفط والغاز؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بذكر الأسباب التالية:
1. لا شك أن سنوات حكم الدكتاتورية وحروبها وسياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية ذات النهج التدميري والعدواني ضد الشعب العراقي ومصالحه ونهبها لخيرات العراق وموارده المالية تشكل أحد أهم الأسباب المهمة والأساسية للواقع الذي لا يزال يعيش فيه العراق حالياً.
2. الاختلال المستمر في بنية الاقتصاد العراقي وغياب فعلي للتنمية الإنتاجية في قطاعي الزراعة والصناعة وانتهاج سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الاعتماد على الاستيراد ورفض تطوير وحماية المنتجات الوطنية...الخ. فهيكل الاقتصاد مشوه ومتخلف وعاجز عن فتح فرص عمل جديدة في العملية الإنتاجية المعطلة. وينعكس ذلك على البنية الاجتماعية المشوهة.
3. خراب النظام التعليمي السابق وضعف النظام التعليمي الراهن وعجزه عن التجاوب الضروري مع ضرورات التنمية الاقتصادية الإنتاجية وحاجة السوق الفعلية للقوى المؤهلة مهنياً للعمل الإنتاجي, إضافة إلى مستوى التأهيل الضعيف للخريجين الجدد. إن غالبة الخريجين يسعون للحصول على وظيفة لدى الدولة والتناغم مع سياسة الدولة ضد التنمية الإنتاجية وما ينشأ عن ذلك من قلة فيالقوى المهنية والعلمية المؤهلة للقطاعات الإنتاجية.
4. غياب إستراتيجية التنمية الوطنية في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية وقضايا الاستثمار والتشغيل ومكافحة البطالة بصورة علمية. ويتجلى ذلك في عدم توفير مستلزمات الاستثمار في الإنتاج الصناعي والزراعي لقطاعات الدولة والخاص المحلي والأجنبي والمختلط والتعاوني.
5. غياب جدي للعدالة الاجتماعية في البلاد بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي مارستها الدولة سابقاً وحالياً والتي لا تتجاوب بأي حال مع مصالح المجتمع. ويكفي أن نلقي نظرة على السياسة الاقتصادية لحكومة بغداد لندرك المخاطر التي يمكن أن تنتهي إليها الحالة المعيشية للسكان في الفترة القادمة وما يترتب عليها من أوضاع سياسية واجتماعية معقدة. ففي الوقت الذ توجد في العراق نسبة عالية من الفقراء, توجد بجوارها نسبة مهمة من أصحاب المليارات والملايين من الدولارات الأمريكية, وهم في الغالب الأعم ممن كونوا ثروتهم بطرق غير نزيهة ومخلة بالشرف وتساهم في تعميق المشكلات الاجتماعية.
6. إن نظام الفساد المالي, إلى جانب الفساد الإداري, سائد في البلاد, وهو نظام لم يعد في المقدور مكافحته وفق الآليات القديمة لأنه لم يعد ظاهرة بل أصبح الفساد نظاماً, وهو ما تؤكده منظمة الشفافية ومعايير الفساد في العالم, إذ "صنفت العراق لأعوام خمسة على التوالي ضمن الدول الثلاث الأكثر فساداً من بين حوالي 180 دولة, وقال ديفيد نوسبوم, المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية, إن التقارير تشير إلى أن الفساد في العراق متفاقم بصورة غير معقولة". (راجع: موقع مفكرة الإسلام, شريف عبد العزيز. لماذا العراق أخطر بلد في العالم؟. حزيران 2010).
7. وعلينا أن ندرك بأن هناك علاقة عضوية بين ثلاث مشكلات يواجهها المجتمع العراقي: الفقر والفساد والإرهاب, إنها الثلاثي الخطر الذي يخلق حلقة مفرغة يصعب كسرها وتخليص البلاد منها وتسهم في تهديم العراق ما لم تكافح بجدية ووفق برنامج سليم ومقر على الصعيد الوطني وعلى مدى طويل ومن خلال حكومة وطنية مدنية وديمقراطية وغير طائفية ومدركة بعمق مخاطر هذا الثلاثي الرهيب.
فهل سيكون بمقدور الشعب العراقي توفير هذه المستلزمات للخلاص من التخلف والتشوه والبطالة والفقر في البلاد؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال غير الشعب العراقي كله, غير إرادته وتطلعه للحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية, غير تطلعه للاستقلال والسيادة الوطنية واستثمار ثرواته الوطنية لصالح تقدمه الاقتصادي والاجتماعي.