ملف الأمن الغذائي في كوردستان
والسؤال الذي أثيرفي المؤتمر المناخ الأخيرفي كوبنهاكن تركز حول كيفية التكيف مع هذه الزيادة السكانية في العالم بينما بات ملزما تقليل إستعمالات الطاقة الكاربونية بمعدل 50% وذلك لتجنب كارثة بيئية في منتصف هذا القرن؟ فأسعار المواد الغذائية سترتفع تباعا بارتفاع درجة حرارة الأرض وزيادة حدة أزمة المياه العذبة في العالم. ومما يجدر بالذكر بأن سوق المواد الغذائية قد سجل إرتفاعات ملحوضة من 53 مليار دولار أميريكي في سنة 1970 الى 326 مليار في سنة 1990 والى 410 مليار في سنة 2000. بينما زادت أسعار ألحنطة المنتجة (410 طن متري في 2009 ) بنسبة 92% وأزداد أسعار الرز المنتج (444 طن متري في 2009) بنسبة 75%. وعليه من المتوقع تفاقم الأمور أكثر مع تزايد الكوارث الطبيعية وإنشغال كل دولة بأمنها الغذائي قبل كل شيء. وفي ذلك من دلائل عدة حول ضرورة التعامل مع ملف الأمن الغذائي في كوردستان بجدية أكثر وذلك لكون الأقليم يمثل سلة غذاء واعدة في العراق والشرق الأوسط. فإضافة الى ضرورات الأمن الغذائي فالزراعة هي أفضل مصدر للثروة القومية والتي تتوافق وينسجم فيه ديمومة الأرض مع الحياة العائلية في كوردستان. ولعل ذلك هو أحد أهم أسرارالعامل القتصادي-الأجتماعي في بقاء وديمومة المجتمع الفلاحي الكوردستاني عبر التأريخ.
ألا أن معوقات الأمن الغذائي حاليا ونتيجة السيا سات السابقة للنظام البائد قد أسهم في قلة الأنتاج والأنتاجية معا وفي إنعدام نظم الري العملاقة للأستفادة من المياه السطحية ومما حسر الأعتماد على مياه الأمطارفقط أضافة للأنعدام الأدارة الحديثة لموارد المياه والتربة وإنعدام الأستثمار في الزراعة. ولعل ما زاد المشكلة تعقيدا هو بروز الخلل الواضح في التوزيع السكانيDisturbance of Demography) ) وسوء توزيع قوى العمالة (Mal-Distribution of Manpower) رافقه الصدام الحاصل ما بين أولويات تطوير وإعمار المناطق الحضرية على حساب المناطق الريفية وإزدياد الصراع على الأرض والمياه والطاقة ما بين المدن والقرى. ومما زاد من حدة المشكلة أيضا هو بقاء إشكالية عدم ربط مستلزمات صحة الطبيعة مع الصحة العامة للمواطن (Burden of Health Problems) والذي يعاني أصلا من سوء التعليم المهني وإنعدام المهارات (Burden of Education problems) مما يعيق من قدراته على هضم مفردات ومتطلبات نقل المعرفة (Transfer of Knowledge) في قطاع الأنتاج إجمالا.
والحديث عن الأليات المطلوبة للأمن الغذائي يجرنا الى إشكاليات الأنتاج والخزن والتسويق للغذاء في كوردستان والتي لازالت تشكل المحور الأساسي المطلوب لأنعاش القدرة المحلية في هذا المجال (كولان 800 في 4-10-2010). ومن الجدير بالذكر بأن الأستثمار الزراعي يجب أن يغطي قطاعي الأنتاج والتسويق معا حيث أن الحاجة ماسة للأستثمار الصلب (Hard Investment) في البنية التحتية والتي تؤمن ربط الفلاح مع السوق الداخلية والخارجية. يرافق ذلك الأستثمار المؤسساتي الناعم (Soft Institutional Investment) في النظم والقوانين وإدارة المخاطر والخدمة المعلوماتية حول نمط وأفضليات السوق إضافة الى عاملى التنظيم والأدارة (Management & organization) لتحديث المجتمعات الفلاحية. وفي هذا الصدد فإن الأصلاح الأداري والمالي والفني لقطاعي الزراعة والتجارة وبما يمكن إجماله ب (Sector Development) تحتم تطوير وسائل التنمية البشرية من الفوق- الى- التحت مصحوبة بوسائل مماثلة من تحت - الى - الفوق وضمن عملية دمقرطة عملية التنمية. والتي يؤمل أن تردم الهوة الفاصلة حاليا ما بين القطاع الخاص والقطاع العام. وتجارب المجتمعات الفلاحية في الدول الأسكندنافية والأوربية غنية في هذا الصدد ويمكن الأستفادة منها في نقل المعرفة المطلوبة (Transfer of Knowledge). وما لم يتم ذلك فأن التناقض باقيا ما بين الواقع الأداري والمالي والفني المتسم بقوالب الأشتراكية الغير متجددة ومتطلبات واقع السوق المفتوحة في كوردستان والذي تسير حاليا في صالح دول الجوار إقتصاديا وسياسيا.
ولعل في مقدمة ما يجب عمله ولتأمين مستلزمات الأمن الغذائي في كوردستان هو في ترسيم السياسة العليا للقطاع الأنتاجي يشقيه الزراعي والصناعي وتكامله مع السياسة العليا للتجارة الداخلية والخارجية. وبالضرورة تطوير فلسفة القوانين المعنية والتي يجب أن تتعامل مع إشكاليات البيئة المتفاقمة وسلامة المواد الغذائية التي تدخل جسد الأمة وتحديد حقوق المنتج والمستهلك أضافة للتعامل الجدي مع مشاكل الملكية الزراعية التي بدأت تداعى أمام موجة التمليك للأرض الزراعية لأغراض غير إنتاجية. فالأرض الزراعية (Green Lands) هي ملك صرف للأمة وحقوق إستغلالها هي لمن يررعها فقط وهذا هو العرف القانوني في جميع الدول. وفي سياق تحديث الزراعة فالحاجة تبدوا ماسة اليوم الى نقل المعرفة سواء في نقل المعرفة الفنية (Know How) أو في نقل الأدارة الحديثة (Modern Management) للحقول الزراعية أو في نقل المواد والتكنولوجيا (Materials & Technologies) المناسبة لكوردستان. فهنالك حاجة متزايدة لنقل البذور والتقاوي لأصناف المنتجات الغذائية المطلوبة في السوق (High Cash Crops) ونقل التكنولوجيا التي تؤمن الزراعة المكثفة وأدارة أفضل للموارد المائية ولمزارع تربية الحيوانات الحديثة. ويجب أن ترتقي أساليب وطرق التمويل الزراعي من بنوك زراعية وقروض صغيرة ميسرة الى مستوى الأدارة الحديثة وتفي بمتطلبات السوق المفتوحة وفي نظام مؤسساتي بعيد عن روتين الدوائر التقليدية. ويجب الأستفادة هنا من تجارب الشعوب المتقدمة في تقوية وتنشيط المجتمعات الفلاحية في بناء مؤسسات التسويق الحديثة (Marketing Association) والتي تكفل لأعضائها القروض من مصادر التمويل الداخلية والخارجية إضافة الى ضمان خزن وتسويق المنتج الزراعي باسعار مناسبة داخل وخارج الموسم الزراعي. ولعل من أكبر المهام المنتظرة هو في ضمان القيمة المضافة (Values Added) عبر تصنيع المنتوج الأولي الخام وفي تحقيق أرباح إضافية لقطاع الأنتاج عامة الزراعي والصناعي. ولعل في مقدمة الصناعات المرتقبة هي الصناعات القطنية والصوفية وصناعة الجلود وصناعة اللحوم البيضاء والحمراء وصناعة الزيوت النباتية وصناعة العصير وتعليب الفواكه والصناعات الغذائية للأطفال.
وبدأ فيجدر التأكيد على أن الأمن الغذائي يتحقق بتأمين السيطرة النوعية على كل ما يدخل في جسد الأمة من غذاء ومشروبات وأدوية وقد يتجاوز ذلك الى التأكد من الأسمدة والمبيدات التي تدخل في عمليات الأنتاج الزراعي. ولعل ما يبرر تلك الأجراءات الأحترازية هي مؤشرات الأمراض والحساسية المتزايدة بعد الثروة الزراعية والصناعية في العالم قاطبة. وهنالك دلائل أولية في كوردستان ورغم إنها تحتاج للمزيد من التوثيق حول تزايد الأصابات الكلوية والمعوية وأخرى في رحم النساء وجلطات دماغية وقلبية بين الطبقة الفتية إضافة الى تزايد الحالات السرطانية والحساسية بين سكان كوردستان. وفي الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأميريكية فإن مؤسسة مثل (Food & Drug Administration) تمتلك من الصلاحيات الواسعة لتنافس المؤسسات الأمنية في ضمان الأمن القومي. وفي كوردستان ورغم الجهود القائمة منذ 2005 في إرساء بنى ومقومات السيطرة النوعية إلا أن بناء نظام السيطرة ومختبراته لازال يعاني من ضعف الصلاحيات لأمتلاك السلطة الكافية في ردع تسرب الفاسد من الغذاء والمشروبات والأدوية التي تلتهم جسد المواطن في كوردستان. وبحساب بسيط لتداعيات إستهلاك المستورد الفاسد مما ذكر فإن الكلفة الكلية لعلاج المواطنين وما يترتب عليه من ضعف الأنتاجية في البيت والعمل هي الفاتورة الغير مرئية التي يتكبدها ميزانية الأقليم في كوردستان. وبأختصار فإن الأقليم أحوج ما يكون اليوم لتطوير السيطرة النوعية الى مؤسسة مستقلة تكون بداية لدولة المؤسسات في كوردستان. ومن الجدير بالذكر بأن مؤسسة السيطرة النوعية ستكون الحجر الأساس في توثيق ما مؤمل تصنيعه وتصديره مستقبلا من منتوجات زراعية وصناعات غذائية محلية وضمن التحول المنشود في إحياء وتطويرالأقتصاد البديل للنفط والقائم على الأقتصاد الزراعي التقليدي بشقيه النباتي والحيواني .