في إنتاج العواصف المدمّرة
لبرنارد لويس الأستاذ في جامعة برستون الأمريكية مقولة فيها عظةٌ كبيرة قالها بعد أحداث 11 أيلول في نيويورك: ( في عام 1940 كنّا نعرف مَن نحن ، ونعرف العدو ، كنّا نعرف الأخطاء والنتائج ، أمّا اليوم اختلف الأمر ، لا نعرف مَن نحن ، ولا نعرف القضايا ولا التبعات ولا نعرف طبيعة العدو .. ) نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط ع 13747تاريخ 18.7.2016 .
وسيكون من المفيد هنا أيضاً أن نستذكر مقولة الساخر برنارد شو : ( عند العاصفة يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ ) . سوانا نحن الكورد وعلى مرّ التاريخ وبالنقيض من تجارب الشعوب وقضاياها ، وبمختلف جوانبها المتداخلة منها والمنفردة بجزئياتها ، والتي أثبتت على مرّ التاريخ ، بأنه بين الانكشاف الحقيقي وتبعثر القداسوي بكلّ أشكالها هي ذاتها تجليات تلك الشعرة التي تهتري كما الخيط في الثوب الأنيق لتكشف بدورها عن الاهتراءات الداخلية ، وأنّ الحقائق مهما طمست خاصةً في القضايا التي تمسّ مصير الشعوب ، ستنكشف وحينها لن تنفع مطلقاً كلّ سبل المحاججة و الرهان على المتغيّرات القادمة ، هذا إنٔ وجدت متغيّرات بنيوية – ذاتية أصلاً ، هذا الأمر الذي سيطرح جملةً من الأسئلة وبسلاسة : ماذا سيفعل أولئك المراهنون بعد انكشاف رهانهم الخاسر ونتائجه ؟
هل سيغامرون مرةً أخرى ؟ . و … يسعون لإنتاج ثغرة دفرسوار سينائية جديدة ( سيناء المصرية في حرب 1973 ) حتى لا نقول مأساة أخرى بحجم عفرين ؟ ..
وهنا سأستذكر مثالاً : الخمينية استُدرجت وببساطة لتتهاوى رغم شيطنة وتخوين وتكفير الاستكبار الأكبر وكشعار استثمروها بذكاءٍ في شعبوية ، ولكنها أخذت وإنٔ ببطئٍ شديد تنخر تسوّساً في عمق البنية مرتكزةً على الأخطاء الكبيرة للنظام ككلٍّ . وهنا دائماً يستظهر البديل الشعبوي وبمرياعيةٍ فظيعة ،
وعلى أنقاضها تعلو الأصوات وتصرخ بهتافاتٍ جديدة وبعناوين برّاقة ولكنها مفرغة تبنى على سياسة تحويل الانتكاسات في مختلف الصعد ، وبشكلٍ متقصد إلى انتصارات واهية وبحجة رفع المعنويات ، أو إعادة إنتاج وقولبة القناعات وفولذتها بدواعي العولبة أو المشاعية القطيعية فتتحوّل منغصات الأمس وتخوين نفس الممارسات والمواقف ببركات متكتكة !! تفعل نتائجها لتعمل مثل التسوّس في مرض الأسنان الذي يبدأ جداً صغيراً لا يلبث أن ينمو وينتشر !! ..
انّ قمة الجمود العقائدي تتجلّى أكثر من خلال سلب النمو وشطب / إلغاء التطور الفكري ، كما وطمس مبدأ وحدة وصراع الأضداد ، وذلك على فرض أن تكون الرؤى مثل القداسات قناعات وباسم العلمانية يتحكّمها طبق أصل ديدن من فكر مجرد تفكير بإمكانية الطيران خارج السرب في الفضاء الشاسع كفراً !! أو … / إخانة !! .
ولنعود من جديد إلى ذات الجدلية . هل هناك – مثلاً – إعادة برمجة وتوليف محدث لبعضٍ من المواقف والسياسات الناعمة في المواقف والممارسات التي كانت متبوعة ، يعني – وببساطة – سياسة النأي بالنفس عن النتائج وربطها بقدرية محتومة ، لا أخطاء وبكوارثها المنتجة ، والتي صارت مزعجة جداً إنٔ للنظام ومثلها مثل المعارضة ، وباتت هناك عناوين وبتفاسير جديدة ، وبلبوس مصطلحي متداخل ، مثل مقاومة العصر ، أو رمزٍ لممانعة لا يعرف غير الله مدى مطاطية تلك الممانعة ولمن ؟ سواها المنكشفة – الممانعة – كعنوان فاقع بأنٌ للجميع حقوقهم ! ( وأنت يا كوردي إخرس ) . هذه الممارسات دفعتنا كثيراً وببراءةٍ أن نتساءل : كيف يستطيع بعضنا أن يضع يده في يد قاتل الشهيد الخزنوي وآدي وفرهاد ووو أو أن يعانق الإجرام الممانعي وزنديقه نصر !! ـ الله !! ـ ودم شرف كندي ورفاقه لا تزال طريّة ، وقاسملو ورفاقه يصرخون: أين هو المجرم ذلك ؟ . نعم ، قد يقول قائل بأنه حتى الرسل والمصلحون الاجتماعيون وكبار العلماء والفلاسفة يخطئون إنٔ في التعليل أو التقدير ، ولكنهم وبتعليلهم جميعهم ايضاً فإنّ الخطأ يتحوّل إلى خطيئةٍ عندما يلتجئ إلى تمرير أو إخفاء خطأه بتعليلها أو تغطيتها بدل الجرأة في ممارسة نقد الذات لا باعتبارها جلداً للذات مع أنّ هناك حالات حتى جلد الذات فيها قليلة .. وكخلاصةٍ سنلاحظ بأنّ الارتهان إلى التسطيحية و إطلاق المبرّرات على عواهنها لن تنتج في المسألة إلا مزيداً من المواقف الصادمة حتى وإنٔ كانت محصورة للحلقات والدوائر المحيطة ، غير أنه ما كلّ المحيط يعتبر كلّ كلمة أو جملة منطوقة مقدّسة غير قابلة للتدقيق والتحليل ، خاصةً حينما يكون الهدف بمخططاته واضحاً : وكمثالٍ في واقعنا الكوردي في سوريا ، حيث يتمٌ استحضار المجلس الوطني الكوردي في الانكسارات ، وتغييبه وجوداً في الانتصارات ، وبات المجلس الكوردي هو بارمومتر الضغط الموازي لهم و … هم وإنٔ كانوا يعلمونها وبعضهم يسرٌبها كهفواتٍ غير مقصودة ولكنها واضحة ، وقد قالها السيد صالح مسلم : أمريكا قالت لنا بأنها لن تتعامل معنا سياسياً ! .
إذن : كيف وبأية طريقةٍ يتعاملون معكم ؟ . وهنا يستحضرني – وكأنموذجٍ – رواية ( الرفاق ) للفرنسي الراحل جول رومان والذي كتبها منذ أكثر من قرن ، وقد تحوّلت إلى فيلمٍ سينمائي والرواية تتضمّن سبعة أصدقاء ثائرين وغاضبين يكرهون حذلقات وقواعد العيش في مدن الريف الفرنسي فيقرّرون أن يعاقبوا مدينتين ، يزرعون فيها الفوضى … / .. وهكذا يتوجّه الرفاق اولاً إلى مدينة أمبير.. ويتقاسمون العمل ،يتنكّر بعضهم في أزياء ضباط الأركان زاعمين بأنهم آتون من العاصمة كي يشهدوا مناورات عسكرية .. / وتُجرى على حساب رعب السكان من دون أن يجرؤ أحدهم على الاعتراض .. و / .. بعد أيامٍ يضطرّ كاهن المدينة .. إلى التنحّي عن مكانه في عظة الأحد لوفد رجال دينٍ كبار قادمين من الفاتيكان ويمكننا أن نخمّن بأنّ الوفد مؤلّف من الرفاق أنفسهم ولنا أن نتخيّل الفوضى التي سادت أمام عظات خُيّل معها للمواطنين أنّ ثمة ثورة في الفاتيكان تتجلّى في الدعوة إلى أفعال وعلاقات ومواقف لا علاقة لها بالكاثوليكية … ومع هذا لا يجرؤ أحدٌ هنا مرةً أخرى على الاعتراض وعلى التساؤل عن حقيقة ما يجري كما وعن حقيقة هؤلاء الناس / .. وبعد إشباع رغبتهم من المدينة الأولى يتوجّهون إلى مدينة إيسوار مع مناسبة احتفال العمدة وكبار مسؤولي ووجهاء المدينة بإقامة تمثالٍ ضخم أنعمت به العاصمة .. / .. يمثّل الشخصية التاريخية القومية / فرسيجيتوريكس/ وعندما يُزاح الستار عن التمثال وسط صخب الموسيقى والضجيج يُذهل الناس مرّتين : الأولى حين يكتشفون جمال التمثال وكم أنه يصوّر الشخصية حقاً ، والمرة الثانية ، حين يتحرّك التمثال ويبدأ بالحديث متوجّهاً اليهم بكلامٍ ماكان أيّ واحدٍ منهم ليتصوّر انّ ذلك الصرح التاريخي يمكن أن يقوله يوماً … وطبعاً لم يكونوا يعرفون أنّ التمثال ليس سوى واحدٍ من الرفاق وأنّ اللعبة كلّها مدبّرة لنسف هذا التاريخ الفرنسي الساذج .. / ..
** نقلا من جريدة الحياة / الأربعاء / ٣ أيار ٢٠١٧ صفحة ٨ عدد ١٩٧٥٢ . إبراهيم العريس .
وهنا لتسمحوا لي بعرض بعضٍ من ( التفاهات ) !! وبالعذر من المفكر اللبناني علي حرب صاحب الجمل أدناه ـ .. / … قد لا يجدر جلد الذات ، نحن إزاء إشكالية تخصّ الفاعل البشري عموماً ، كما يتجلّى ذلك في شكلٍ خاص ، لدى أصحاب المشاريع الثورية والجذرية لتغيير العالم تحت هذا الشعار أو ذاك . فالملاحظ أنّ الإنسان لا يتحكّم بأعماله وصنائعه وأنظمته التي تتعدّاه وتفلت من سيطرته ، لكي تفاجئه بمفاعيلها وتداعياتها السلبية المدمّّرة ، وهكذا ، فنحن نريد التغيير ،ولكنّ العالم يتغيّر بعكس ما نفكّر فيه أو نسعى إليه ، بل أنّ حلّ المشكلات يولّد اليوم مشكلاتٍ أكثر تعقيداً أو خطورةً . كيف نفسّر هذه الإشكاليات المربكة والمفارقات الفاضحة؟ .
هناك كُتّابٌ عرب وغربيون يقاربون المسائل من خلال فلسفة التاريخ .. وعلى رأسها مقولة هيغل / مكر التاريخ / فالفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه يلجأ الى استعارة المكر والسخرية لكي يفسّر كيف أن أصحاب المشاريع الشمولية / النازية والفاشية والستالينية / ممّن أرادوا بناء مجتمعاتٍ على أساس العلم، قد جرّتهم الأحداث الى عكس ما خطّطوا له بقدر ما جرت من غير علمهم وضدّ إرادتهم .. / ويضيف المفكر علي حرب ويقول .. / … غير أنّ استعارة ـ المكر ـ الجذابة ولكن الخادعة تحجب وتموّه أكثر ممّا تشرح وتفسّر ، إذ هي وكما يفهمونها ، تُبنى على تأليه التاريخ ، بالتعامل معه كذاتٍ قاصدة تراقب من عليائها ، البشر كي تحاكمهم وتنتقم منهم كما ينتقم الله من عبيده الذين كذّبوا بآياته ، وهؤلاء هم الوجه الآخر للذين يقولون إننا فشلنا ، لأنّ الله عاقبنا ، لكوننا خرجنا على تعاليمه أو لأننا لم نعمل بما عمل به السلف الصالح ، إنهم سلفيون فيما يدّعون محاربة السلفية ، مع فارق أنّ السلف الصالح عندهم هو أن نفكّر بما فكّّر فيه ماركس وهيغل وكانط وفولتير ، بتقليدهم واحتذاء نماذجهم .. / .. ويضيف المفكر المبدع قائلاً .. / … لنعترف بالواقع لكي نعرف كيف نتغيّر ، فنحن ضحايا أفكارنا التي تختم على العقول ، لأننا تعاملنا مع القضايا والشعارات بطريقةٍ أحادية ، أصولية ، دغمائية ، ايديولوجية ، متعالية ، فردوسية ، قدسية ، بقدر ما تعاملنا مع الواقع بصورةٍ أحادية تبسيطية ، ساذجة ، قاصرة ، لذا الخروج من المأزق يقتضي أن نفكّر بطريقةٍ مختلفة ، بحيث نفكّك ما يستوطن عقولنا من المقولات المستهلكة والثوابت المتحجّرة والمعارف الميّيتة والرؤى الطوباوية والمفاهيم الساذجة حول التاريخ والتقدم والعقلانية والنهضة والاستنارة والإنسانية ، فضلاً عن التحرر من وصايتنا النخبوية الفاشلة على شؤون المجتمع والأمة والبشرية … / …
وسأختتم هذه المقتطفات مستذكراً مع القرّاء ممّن يرغب بالعودة الى ملخص محاضرته في مهرجان الجنادرية بالسعودية والمنشورة ـ الملخص ـ في جريدة الحياة العدد 18292تاريخ 4 – 5 – 2013 يوم السبت صفحة 9 .. وسأضيف جمل المفكر علي حرب التالية .. / … هكذا ليس في الأمر سحر أو غيب ، ليس مكر التاريخ ولامكر الله ، وإنما المسألة تتعلّق بعتمات الفكر وتهويمات العقل ودهاليز الوعي ومخاتلة اللغة ، أفخاخ الرغبة ، كما تتعلّق بنرجسية الثقافة واصطفاء العقيدة وعنصرية الهوية وازدواجية النشأة والحقيقة فضلاً عن شراسة الكائن البشري ووحشيته التي تفوق وحشية الحيوان ، كلّنا من أكلة لحوم بعضنا بعضاً ، كما يقول كلود ليفي شتراوس هكذا نحن إزاء عوائق ومنازع بنيوية هي التي تجعل في كلّ ما نفكّر فيه أو نقوله أو نعرفه ونبرهن عليه ، جانباً يبقى مجهولاً وخارجاً عن دائرة الضوء وعن منطق القبض والسيطرة ، سواءً كنّا حداثيين أم تراثيين ، علمانيين أم أصوليين … / .
باسنيوز