مخطوفون ومغيّبون في دولة مخطوفة ومغيّبة

عبداللطيف السعدون
توثّق منظمّة العفو الدولية، في أحدث تقرير لها عن العراق، وقائع صادمة تثير الشَجَن لما يعانيه المعتقلون في السجون من انتهاكات لحقوق الإنسان، وتقدّم أدلّةً عمّا يجري في واحد من مراكز الاحتجاز، وهو مركز الجدعة، الذي يضمّ ما يقرب من ثلاثة آلاف معتقل، بينهم أطفال ونساء، اعتُقلوا تعسّفياً بدعوى ارتباطهم بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتثبت المنظّمة ملاحظةً لافتةً أن بعضاً منهم يختفون في ظروف غامضة، ولا يُعرَف عنهم شيء، فيما يؤكّد مطّلعون على ما يجري في مثل هذه الحالات، أن مليشيات معيّنة تختطفهم من داخل المركز وتُخفيهم في أماكن لا يمكن للسلطات الرسمية أن تصلها، وهي في النهاية تقتلهم بدم بارد استناداً إلى خلفياتهم الطائفية، وبما يشكّل جريمة "إعدام خارج القانون"، أو أن تساوم على حيواتهم بطلب فدية مالية من أُسرهم، وهو ما يشكّل أيضاً جريمةً، ولكن من نوع مختلف.
تحيلنا هذه الوقائع الصادمة إلى حالات الاختفاء القسري في عموم العراق، التي لم تجد لها حلّاً، بعدما تحوّلت في السنوات الماضية ظاهرةً بلغ عدد ضحاياها ما بين 250 ألفاً ومليون شخص، وفق ما قدّرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو عدد مهول قياساً إلى عدد السكّان الإجمالي البالغ 54 مليوناً ونصف المليون، وذلك كلّه يجعل العراق مؤهّلاً لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية.
ومن السذاجة أن يتوقّع المرء حلّاً لمشكلةٍ كهذه في دولة مُغيّبة مثل العراق، تضمّ من المغيّبين والمختطفين عدداً أكبر ممّا تضمّه أيّ دولة أخرى، فيما تقول لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموضوع أن حالات الاختطاف والتغييب في العراق لا تجري بشكل عشوائي أو عفوي كما قد يتصوّر بعضهم، وإنما هي "جزء من عمل منهجي مرسوم ومتواصل منذ سنوات"، استهدف ناشطين سياسيين وإعلاميين وأكاديميين ورجال أعمال ومهنيين. وبحسب ما وثّقه مرصد "أفاد" الذي يعنى بحقوق الإنسان، في إحصائية مثيرة، فإن عدد ضحايا التغييب القسري من أبناء 32 مدينة عراقية بلغ عشرات الآلاف على خلفية حسابات طائفية وسياسية.
ولكي لا نبخس الناس أشياءهم، نقول إن حكومة محمّد شيّاع السوداني أحالت، منذ أكثر من عام، مشروع قانون مكافحة التغييب القسري إلى البرلمان لأجل إقراره، لكنّ المشروع كان يظهر في أجندة المجلس، ثمّ سرعان ما يعود مجدّداً إلى الأدراج، وآخر مرّة كانت قبل بضعة أيام، إذ ظهر في جدول أعمال إحدى الجلسات لمناقشته، ثمّ سرعان ما اختفى بقدرة قادر كما في كلّ مرّة، اختفاءً قسرياً على ما يبدو.
إلى ذلك، يُحسب للعراق أنه إحدى الدول الموقّعة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الاختفاء القسري، وكذلك على ثمانية اتفاقات أخرى مكمّلة، إلا أن ما يثير التساؤل أن تلك الاتفاقيات لم تُفعّل ولم يُلتزم بها لسبب بسيط هو أن جهات مليشياوية مشاركة في السلطة لا يروق لها أيّ إجراء يقيّد حركتها بتصفية مناوئيها، وهذا ما دفع الولايات المتحدة، الراعية الأولى للعملية السياسية الماثلة، إلى تنبيه السلطات العراقية أكثر من مرّة إلى ذلك، وفي اليوم العالمي لضحايا الاختطاف والتغييب، اعتبرت سفارتها في بغداد، في بيان لها، تشريع القانون الخاص بهذه الظاهرة ضرورةً "حتى يشعر الناس بالأمان والكرامة في تجمعاتهم من دون خوف من الاختطاف أو التغييب"، فيما وجّه ناشطون أصابع الاتهام في تقاعس البرلمان عن إقرار المشروع إلى المليشيات المسلحة المهيمنة في الساحة السياسية، التي تمتلك فائض قوّة تستمّده من دولة "ولاية الفقيه"، وهي التي تقف وراء أغلب حوادث الاختطاف والتغييب التي شهدها العراق على مدى السنوات العشرين الماضية، وتخشى أن ينفضح السجلّ الأسود لارتكاباتها التي تجاوزت الحدود.
هكذا يجد العراقيون أنفسهم مخطوفين ومغيّبين في دولة مخطوفة ومغيّبة، مشلولة ومضطربة، ومرتهنة لهيمنة مخطّطات خارجية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولذلك تراها عاجزةً عن حمايتهم وتوفير الأمن والأمان لهم، وليس أمامهم من سبيل، وهم في هذه الحال، سوى انتظار غودو، الذي يجيء ولا يجيء.
باسنيوز