• Tuesday, 04 February 2025
logo

«الترييف السياسي»... تحليله وتداعياته

«الترييف السياسي»... تحليله وتداعياته

كفاح سنجاري

 

تحدثنا في مقالات سابقة عن التحولات الديموغرافية التي اجتاحت مجتمعاتنا بعد تأسيس الدول الحديثة، خصوصاً عقب موجة الانقلابات التي شهدتها دول الشرق الأوسط، فقد تعرضت مجتمعات هذه الدول لتغيرات حادة، بعضها جاء بشكل عشوائي دونما توجيه، نتيجة الفروقات الشاسعة بين القرى والمدن، التي أصبحت بمثابة «الإسفنجة»، تجذب سكان القرى بفعل الفقر والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية من صحة، وتعليم، ومواصلات، والتي أدت إلى تفريغ القرى والأرياف من سكانها الذين لجأوا إلى المدن بحثاً عن فرص أفضل، بينما بقيت قراهم أسيرة التخلف والإهمال الحكومي.

اليوم، نسلط الضوء على ظاهرة أكثر خطورة وأعمق تأثيراً، وهي «الترييف السياسي»، التي اجتاحت البلدان ذات النظم أحادية الحكم من قبل حزب معين أو قائد انقلاب ما، هذه الظاهرة لم تكن مجرد تحولات ديموغرافية طبيعية كالتي ذكرناها سابقاً، بل أصبحت أداة سياسية وبرنامجاً معدّاً بدقة ومخططاً له بفترات زمنية وتخصيصات مالية كبيرة استخدمتها تلك الأنظمة المؤدلجة قومياً، كما حصل في كل من العراق وسوريا منذ ستينات القرن الماضي.

هذه الظاهرة استخدمت سكان القرى والأرياف وفقراء المدن وأطرافها في تنفيذ برامجها للتغيير الديموغرافي، أو لتسطيح الرأي العام والسيطرة عليه من خلال مجاميع تعتمد الولاء الأعمى والمطلق لصاحب النعم (القائد الضرورة)، حيث استقدمت آلاف الأسر من مناطق نائية إلى مناطق أخرى لتغيير طبيعة تكوينها القومي، أو احتواء شبابها في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والحزبية.

وتنقسم عمليات «الترييف السياسي» إلى قسمين رئيسيين في أبعادها؛ وهما:

1.الترييف القومي: استهدف هذا النمط من الترييف، المدن التي تتميز بأغلبية قومية أو عرقية تختلف عن تلك التي ينتمي لها النظام، وذلك بنقل مئات الآلاف من سكان القرى والأرياف من قومية النظام إلى هذه المدن، ومنحهم امتيازات كبيرة في السكن والعمل والزراعة ومؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، مستغلة حرمان تلك المجاميع في قراها وأمكنتها الأصلية، من أبسط خدمات ومتطلبات الحياة، وقد نقلت معهم كل وثائقهم ومستمسكاتهم وغيرتها إلى المدن الجديدة التي أسكنتهم فيها، مقابل تهجير السكان الأصليين وبعثرتهم كمجاميع صغيرة في المدن البعيدة ذات القومية الواحدة من غير قوميتهم، مستهدفة إذابتهم في بوتقة عمليات التعريب المنظمة التي استمرت لأكثر من جيلين.

وبتقادم الزمن، تشوهت أمور كثيرة في طبيعتها وواقعها الأصلي، حيث أنتجت تلك العمليات والممارسات آثاراً اجتماعية كارثية خطيرة، إذ مزقت النسيج الاجتماعي، وأشاعت الكراهية والعنصرية بين المكونات القومية والدينية، التي لا تزال تعدّ التحديات والعقبات الكبرى والأكثر تعقيداً أمام استقرار تلك الدول. ففي سوريا على سبيل المثال، تُعدّ هذه الظاهرة من أعقد المشكلات التي تواجه النظام الجديد، خصوصاً ما يتعلق بمواطنيها الكُرد الذين حرموا من جنسيتهم ووثائقهم الرسمية من قبل نظام الأسد السابق، وتم تهجيرهم وبعثرتهم في مدن ومناطق بعيدة وغريبة في طبيعتها عن مناطقهم الأصلية، كما واجه النظام العراقي بعد 2003، تحديات كبيرة في تطبيع الأوضاع وإعادة السكان إلى مناطقهم الأصلية، وقد ظلت تلك العمليات سبباً رئيسياً للخلافات المستمرة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد منذ ذلك الحين وحتى اليوم.

الترييف المؤسسي: اعتمد هذا القسم من «الترييف السياسي» على فرض الهيمنة والتحكم في المدن، من خلال مجاميع من شبيبة القرى والأرياف الذين تم استقدامهم واحتواؤهم في بناء مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والاستخبارية، باعتمادهم في معظم مفاصلها الخاصة، وأصبحت القاعدة الأساسية للحزب الحاكم أيضاً، حيث جرى دمجهم في صفوفه وتوليتهم مسؤوليات مؤثرة في المدن والبلدات لاحقاً، وقد عززت تلك الأنظمة ولاء هذه المجاميع الكبيرة بامتيازات وخدمات جمة، في مقدمتها منحهم قطع أراضٍ سكنية مع قروض معفاة من الفوائد وبأقساط طويلة الأمد، كما ساعدتهم في شراء سيارات شخصية أو آليات وأدوات ومستلزمات زراعية وبسعر التكلفة للذين اختاروا العمل الزراعي في الجمعيات الفلاحية ومشاريعها التعاونية، كما حصل في العراق وسوريا، مما جعل ولاءهم المطلق للحزب وقائده يعلو على أي انتماء للوطن، مما أدى تدريجياً إلى تقليص وإقصاء دور الكفاءات الثقافية والعلمية والتقنية (التكنوقراط) من مواقع القيادة في الدولة، والإبقاء على النظام تحت سيطرة الولاء الأعمى، وهو ما تسبب في كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في دول كثيرة مثل العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، وإيران، ولبنان، وغيرها من الدول التي حكمتها أنظمة أحادية مغلقة، حيث أُهدر مفهوم المواطنة لصالح آيديولوجيات الحزب الحاكم.
أسفر «الترييف السياسي» بشقيه القومي والمؤسسي عن مجموعة من التداعيات الخطيرة، أبرزها:

تمزيق النسيج الاجتماعي: الذي أدى إلى خلق فجوات عميقة بين المكونات السكانية وإشاعة الكراهية والعداء، وتنمية روح وثقافة العنصرية والطائفية والطبقية بين مكونات المجتمع.
تعطيل التنمية الوطنية: وذلك بإبعاد النخب والكفاءات المدينية عن مراكز القيادة، مما تسبب في تقليص وانعدام فرص النهوض بالدولة.
تعقيد التحديات السياسية: أصبحت هذه الظاهرة إحدى أبرز العقبات التي تواجه الحكومات الحديثة في بناء دول مستقرة قائمة على المواطنة والعدالة.
وفي الخلاصة، فإنَّ ظاهرة «الترييف السياسي» ليست مجرد انعكاس للتحولات الديموغرافية؛ بل أداة سياسية استُخدمت لترسيخ الهيمنة والولاءات الحزبية على حساب الوطن والمواطنة، ومن الضروري أن تعي الحكومات الحالية خطورة هذه الظاهرة، وأن تعمل على تفكيك آثارها من خلال تعزيز قيم العدالة والمواطنة، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس مدنية حديثة.

 

 

 

باسنيوز

Top