• Sunday, 30 June 2024
logo

القانون في أبسط معانيه.. معادلة القوة بين القانون وبدائله

القانون في أبسط معانيه.. معادلة القوة بين القانون وبدائله

سنار شريف علي 

 

إن لكل نظام مصدر طاقة ووقود يحركانه لأجل القيام بوظيفته، وهذه حتمية البقاء والدوام التي لا بد منها، ولا يمكن تصور استمرارية وحيوية نظام ما دون هذه الطاقة، حتى وإن تخلف مصدر ونبع هذه الطاقة سرعان ما ظهر مصدر آخر يخلفه ويحتل مكانه لأجل تحريك النظام؛ لأنه لا مجال للفراغ والسكون في عالم التنافس.

العلاقة هنا عكسية، فتقدم إحدى مصادر القوة يحتم تراجع الاخرى والعكس صحيح، وفي نفس الوقت للقوة أو الطاقة طبيعة إيجابية هجومية، لا يوقف تدفقها إلا قوة أخرى أكبر منها أو أشد منها بأساً تستحوذ عليها وتستغرق سلطانها وتضع حد لسيلها وشريانها، وتبدد تماسكها.

إن مصدر قوة وطاقة تحريك نظام المجتمع في إعطاء كل ذي حق حقه إما أن يكون القانون أو تكون سطوة بدائله إذا غاب هو. وأقصد بقوة القانون أو طاقته هي جعل القانون الأساس والقوة المحركة لسير واستمرارية نظام المجتمع ووظيفته المتمثلة في إهداء الحقوق وفرض الالتزامات. فالقانون عندما يعطي حقوق ويفرض التزامات متبادلة، ويكون الأساس الوحيد لهذه الحقوق والالتزامات انما يوحي بوجود دولة تعلو فيه سيادة القانون أي نبضه وقوته، بمعنى آخر، القانون يكون المحرك لصون الحقوق وفرض الواجبات.

وحينها، يتمكن الكل من التمتع بحقوقهم مقابل التزامات هي بمثابة حقوق لآخرين، وهكذا تستمر الدائرة بين الكل يتمتع بحقوق والكل يخضع لالتزامات. ولا حاجة لجهد خاص لكي تتمتع بحقوقك القانونية، أو تدفع عنك التزامات لا يفرضها القانون عليك. ولا مجال للبحث عن جني ما لا تستحقه قانوناً، لأن القانون يضع قواعد عامة ومجردة يتمتع بها ويخضع لها الكل، على حد سواء.

وبالعكس، حينما تتراجع قوة القانون، يتعرقل النظام ويخلف فراغاً لابد من ملئه. فحينها تبرز القوى البديلة لملئ الفراغ الذي كان يفترض أن يملأه القانون، وبهذا تكون الكفة لصالح الفوضى. كيف لا وان الوظائف تحتاج إلى طاقة ومحركات ولا سبيل للاستغناء عنها، وإن تخلفت طاقة أو محرك ظهرت أخرى. لأن مصدر قوة ما يجب أن يوجد والفراغ محال، وإن للقوة - كما أشرنا إليها آنفاً - طبيعة إيجابية هجومية وعكسية؛ أينما تجد الفراغ تنطلق إلى ملئه، واين ومتى ما واجهت قوى أكبر منها استسلمت هي واستولت عليها الأخرى، وهذه هي القوى البديلة.

القوى البديلة في سياق موضوعنا هي التي يوجدها غياب القانون أو ضعفه في مواجهتها، دعنا نسمي مجموعها الفوضى. الفوضى أقل ما يقال عنها هو عدم الانتظام، والانتظام يعني التشابه والتنسيق، وهي وسائل تحقيق وتطبيق العدل والمساواة. عندما تسطو قوة الفوضى على قوة القانون، سيختفي الانتظام ويزول التشابه والتنسيق وينتهي العدل وتقوض المساواة. لأن الفوضى بخلاف القانون لا تعتمد على منهجية منتظمة بقدر ما تعتمد على الأهواء والميول، والأخيرتين مسائل نفسية شخصية تختلف باختلاف الأشخاص وتتقلب - من حين لآخر - ولا تستلزم اتباع نمط متسق.

ولكي تحصل على حقك يجب أن تبحث على مصدر طاقة، وقوة محركة لكي تشغل النظام وتدفعه الى ضمان حقوقك، وفي نفس الوقت تحتاج إلى قوة وطاقة لكي تدفع النظام على ان يدفع عنك الشر. وهذا ما نراه جلياً في المجتمعات غير النظامية أو الفوضوية، الكل - في غياب المحرك القانوني - يحتاج إلى إيجاد القوة المحركة لأجل الحصول على حقوقهم ودرء الاعتداءات عليها. وهذا ما يفتح الباب أمام معضلة أخرى وهي ضرورة البحث عن النفوذ، لأنه الآلة التي تولد المحركات والمحفزات. ومن هنا تبرز القوى البديلة وتتنافس على النفوذ وتقسيم لقمة الفوضى. للعشيرة حظ، وللأحزاب السياسية حظ ولأصحاب الأموال حظ، وللعصابات حظ، وما يزيد الطين بلة هو كلما ازدادت وتيرة هذه القوى كلما تعددت أنواعها وأشكالها، وترسخت في أذهان أفراد المجتمع وأصبحت جزءاً من ثقافتهم ومعتقدهم.

لذا يصبح النفوذ وامتلاك القوة شرفاً وليس خزياً أو عاراً، بل أكثر من ذلك يصبح ميزة يتحلى بها أصحابها، ومن يدعي الجاه لا بد من أن يثبت تملك النفوذ، ومن لا يملك النفوذ فهو فاقد الأهمية والاحترام. وقد يحدث وأن تقف في طابور المراجعين ستتفاجأ بسؤال الكثير ممن يعرفونك لماذا هذا الوقوف ولماذا لا تستعين بأصحاب النفوذ لكي تتخطى هذه الطوابير! وكأن احترام القانون أصبح حكراً على الفقراء والضعفاء، وأن القانون لا يطبق إلا على الطبقة الدنيا، وان الطبقة العليا لها قانون خاص يعلو قانون العامة وهو قانون الفوضى، والأكثر ألماً هو أن الالتزام بالقانون بات ضعفاً وذلة وصغراً.

في المجتمعات النظامية التي يسودها القانون يجب أن تبحث عن مواد قانونية تحميك، وفي المجتمعات الفوضوية يجب أن تبحث عن قوى غير قانونية تحميك وترد حقك القانوني المسلوب، وأحياناً للتهرب من التزامات قانونية. إذن فلا عبرة لامتلاكك للحق بل العبرة في امتلاكك لقوة محركة. في تلك المجتمعات تعلو كلمة الأشخاص والأحزاب والجماعات ذات النفوذ على كلمة القانون، وللحصول على أبسط حقوق ومستلزمات الحياة لابد من الاستعانة بهم، وعندما يعجز القانون ان يكون القوة المحركة الوحيدة وتأتي القوى البديلة لملئ الفراغ، في النتيجة يزداد الفساد وهو بدوره يؤدي إلى تضاعف القتل والنهب والظلم فضلاً عن اغتيال النخبة من الكتاب والمفكرين من كل التوجهات... إلخ.

فالكل يلجأ إلى القوى البديلة لأخذ حقوقهم والكل يلجأ إليها للدفاع عن أنفسهم في وجه المعتدين، وهنا تعلو كلمة الطرف الأقوى نفوذاً وليس الأحق. الضعيف يزداد ضعفاً والقوي يزداد قوة، وهذا يذكرني بقانون الغابة الذي لا يسمح بعيش الوحوش الأقوياء دون سلب حياة العزل الأبرياء. ويفرز هذا الوضع الى جانب العواقب السياسية والامنية والاقتصادية عواقب اجتماعية جمة، فعندما تحصل على حقك عن طريق المحاباة والرجاء من غيرك فهذا يولد علاقات غير سليمة، علاقات تعبدية واذلالية ربما تؤدي إلى مساومات أخلاقية ومبدئية ونتائج فتاكة للبنية الاجتماعية، ويذل العزيز بفعل ذليل، فضلاً عن ابتكار الأفراد طرق متنوعة للمراوغة على القانون، ويصبح تطبيق القانون أمراً نسبياً.

ومن جانب آخر، تستنزف الدولة قوتها وبنيتها التحتية وذلك بتقاسمهما مع الآخرين. كل قوة تحصل على نصيب وتصبح السيادة الداخلية للدولة على محك الانهيار ويتم تقويض الخارجية منها. ويستنزف المجتمع أيضاً طاقته وقوته وذلك بتركيز القوة في يد البعض وحرمان الغلبة العامة منها.

والمؤسف للغاية هو أن مالكي زمام الأمور قد وجدوا ضالتهم في هذا الوضع، وأن أي مساس بالوضع القائم بمثابة المساس بوجودهم؛ لذلك يصبحوا حماة لهذه الفوضى ومروجين لها، ويأبون التغيير. كيف لا وأنهم لولا الفوضى لما نالوا ما نالوه، ولولا غياب القانون لما أوصلتهم استحقاقيتهم وجدارتهم إلى ما هم عليه الآن. فالفوضى هي بيئتهم المثلى التي يتغذوا عليها ويترفهوا بها. وما يثير السخرية هو النفاق في احترام القانون، كقيامهم بلقطات مصورة تجسد مواقف يحترمون فيها القانون ويتباهون بذلك، وكأنهم يمنون على المجتمع "احترامهم" للقانون، ناسين ان احترام القانون واجب ليس فيه منة. وأكثر من ذلك، هم بفعلتهم هذه يثبتون عزمهم بيع الناس حقوقهم، ويؤكدون ان القانون في وضع يرثى له.

ولقد تعودنا في بلداننا على الاعتماد على القوى البديلة للقانون. فعندما نحتاج القيام بأمر ما، أول سؤال يخطر ببالنا هو هل يمكننا أن نتعرف على شخص في المؤسسة التي فيها الأمر لكي يقوم "بمساعدتنا" على هذا الأمر، حتى وإن كان الأمر حق من حقوقنا فهذا لن يضيف إلى الأمر شيئاً، حتى وإن كنت بحاجة إلى استفسار بسيط لن تتمكن الحصول عليه إلا باللجوء إلى قوى بديلة كالصداقة أو الاستعانة بأصحاب النفوذ؛ وذلك بسبب عدم إتاحة سبل ووسائل اتصال واستفسار. بينما المؤسسات في المجتمعات المنتظمة تتيح وسائل متينة وفعالة للتواصل، مثلاً عن طريق البريد الإلكتروني، مما يساعد في توفير الوقت والجهد والمال، وليس للأفراد وحسب، بل على المدى البعيد، للمجتمع برمته.

خلاصة الأمر، أن الحاجة إلى القوة المحركة أمر لا مفر منه، وهذه طبيعة كل نظام، لأنه يجب أن يستمر ويأبى أن يتوقف، حتى وإن سلبت منه مصدر قوة تحركه، حتما سيجد مصدر قوة بديلة. ويبقى الأمر بين خيارين وليس ثالث، إما يكون المصدر قوة القانون، أو قوة الفوضى. فالاولى، تضمن احترام الحقوق، والتناسق والتماثل في تحمل الالتزامات. وهي قواعد عامة تخاطب الأوصاف وليس الأشخاص، لأن القانون لا يرى ما يفرق بين الأشخاص ما عدا التجريد التي تتصف به القواعد القانونية. أما الفوضى فهي عبارة عن البديل الذي ينتهز ضعف القانون أو غيابه لكي يقلب المعادلة لصالحه ويتربع في المجتمع.

وعندما تترعرع الفوضى في المجتمع، تقوم الفئة المستفيدة بالاحتفاظ بهذا الوضع ومحاربة أي محاولة لتغييره. ولايزال الأمر بخير لهذه النقطة مقارنة باللاحق! لأن القلق الحقيقي الأكبر هو انتهاء المسألة بتغيير المفاهيم والمبادئ والمعتقد، وتؤدي إلى شرعنة وتحبيذ نتائج الفوضى. ويتباهى من يمتلك السلطة ويتحدى القانون، ويسود الاعتقاد - وإن كان ضمناً - أن الخضوع للقانون هو إذلال واحتقار. ويصبح القانون حكراً على الطبقة الدنيا الضعيفة، وهم بدورهم يرون خضوعهم للقانون إكراهاً وليس اعتقاداً صادقاً بعلوية القانون، ويحلمون يوماً أن "يتحررون من قيود القانون وجوره" كما فعل "الأقوياء" بدلاً من أن يفكروا في التحرر من رؤوس الفوضى! إذا يصبح القانون هو القيد الجائر المكروه، والفوضويين الأقوياء هم أبطال تحرروا من القانون بفضل نضجهم العقلي وشجاعتهم الهائلة.

 

 

 

روداو

Top