• Friday, 28 June 2024
logo

الذكاء الاصطناعي يطفئ شاشة الأحزاب السياسية

الذكاء الاصطناعي يطفئ شاشة الأحزاب السياسية

طالب محمود كريم 

 

هل أن مجتمعاتنا اليوم هي بحاجة إلى أحزاب سياسية لتعبّر عن إرادة الجماهير مثلما يُقال، أم أنها ضرورة للارتقاء بالواقع اليومي من تنظيم إجتماعي وتقديم الخدمات وتقليل المشكلات التي تواجهها الدولة والمواطن؟

يفترض أن ندرس أي حالة على إنفراد سواء أكانت أطروحة فكرية، أم من حيث وجودها التجريبي في البيئة التي انبثقت منها ومعرفة درجة الوعي الاجتماعي ونوعية الوسائل العلمية التي يستخدمها المجتمع آنذاك.

هذه الجزئيات تعطينا نوعية الأفكار التي يطمح لها الفرد في إنجازها وثمة محاولة لكشف الرؤية فيما بعد وحدود المساحة التي نقف عندها. فالأفكار في العصر الزراعي هي ليست نفسها في العصر الصناعي كما وهي ليست نفسها في عصر الثورة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. إذ أن نظرة الفرد إلى الحزب السياسي سابقاً قد تكون نظرة يشوبها الطابع الغيبي، لأن الخطاب السياسي كان يذهب ببرامجه إلى مساحات أبعد بكثير مما يشعره الفرد وإيمانه القاطع بالمنتوج الذي يدخل في تحسين خدماته وواقع حياته. ولذلك كان الأمل والتفاؤل آنذاك بالمستقبل المقبل هو المعالج لحالة اليأس والإحباط التي يمرّ بها المجتمع.

من هنا تبدأ الايديولوجيا عملها الساحر لتقوم بتحويل الأفكار الى رموز وسيميائيات مقدسة سعياً منها للسيطرة على الشعور السيكولوجي وخزين الذاكرة الإجتماعية، ومن ثم تُصدّر نفسها على انها المدونة الفكرية المُخَلّصة التي تَستبطن الحقائق والإحاطة بتحولات التاريخ الاجتماعي، حتى تقرر مجموعة من السلوكيات والتي توصف بالسلوك الاخلاقي لتصبح فيما بعد معايير ضابطة للإيقاع الجماهيري، يحتكم اليها الأفراد والجماعات في معرفة مفاهيم العدل والحق والمساواة والحريات وحقوق الإنسان، أي معنى يُلخص مبادئ الخير والشر.

تترك عندنا هذه المقدمة إنطباعاً صورياً حول معنى الضرورة التي تدفع الفرد إلى التسلح بأدوات المعرفة الفلسفية، وتاريخية القيّم، وكيفية تشكّلها، وتفاعل الباطن الوجداني معها. ليتسنى لنا حينئذٍ معرفة إمكانية نشأتها من جهة، ونوعية المصادر التي دفعت بهذه القيم لتشكل بعداً وجدانياً وتاريخياً لا ينفصل عنها الإنسان بتاتاً من جهة اخرى.

تتنوع هذه القيم على مجموعة المصادر التي تتخذها الاحزاب عنواناً في عملها السياسي الإجرائي أي بين الديني والفكري والثقافي والإنساني والتاريخي لتكون مادة دسمة تغذي خطابها السياسي وتعمل على استدامة التواصل مع الفئات الاجتماعية المختلفة.

هذه المبادئ تأخذ بالقارئ إلى أن يقوم بعمل مقارنة بين الأحزاب السياسية التي تشكلّت في القرنين 19-20 وبين التي هي في طور التشكّل في عصر الزجاجة الإلكترونية وقبول التعددية الإثنية والثقافية والدينية. عندها سيكشف القارئ اللبيب الفارق الذي هو بمثابة المحرّك للجماهير والعلاج لظاهرة الفقر والجهل الاجتماعي ومفهوم التوزيع العادل للثروات، وانتزاع الحريات التي تؤسس لحالة الابداع والعمل الحرّ.

هذه المفاهيم التي وصفناها في أعلاه، تتساوى مع معنى المحرّكات التي تختلط وتذوب في منطق نُظم الأفكار الحزبية التي تعتمد البعد التاريخي والوجداني وأحياناً الديني منها، لتعبّر عن عمق الفكرة وموقع العالم على الخارطة السياسية وفهم الحياة ومصير الإنسان في نظامها الفكري والفلسفي.

حتى تبدأ مرحلة المقارنة والبحث مرة أخرى لتكشف لنا عن قناعات مؤسسي هذه الاحزاب وكوادرها المتقدمة، بالمفاهيم المُعلنة وسرّها المقدس، التي يقاتل من اجلها الانسان وتنتهي به إلى وضع دستور يُعلن عن نهاية بزوغ أحزاب جديدة.

هذه المبادئ التي دونتها الأحزاب السياسية والتي تُعبّر عن نسيج شائك ليس سهلاً إنجازها، بل تجعل من المواطن أو المتابع أن يراقب السلوك الحزبي ويكشف عن التطابق التام فيما بينهما، أي بين المبادئ المُعلنة والتطبيقات لها، والتي تمثل الميدان الواقعي المعقّد في إختبار النظريات السياسية وسلوكيات المؤسسين وانتظار الحلول السياسية للمشكلات أو مجالات القفز نحو واقع أفضل.

تستمر المقارنة مع هذه الأحزاب ( أحزاب عصر الزجاجة الإلكترونية والتيك تاك)، أحزاب السرديات الكبرى ( التي باتت اليوم فاقدة لشروط بقاءها) ليكون المعيار الثابت في كمية التضحيات التي قدمتها ودرجة ثقة الشعب بها.

ثم ينتقل بِنَا الحديث إلى نوعية القيادات الحزبية والتي قد تمثل أو تجعل من وجودها أيقونة الدفاع والعمل السياسي. هنا أود أن أبين أن طبيعة التاريخ هي طبيعة متغيرة وصُنّاعها يرتكزون على وجود المتغيّر الذي يظهر أمام المجتمع والنخب، لتستفيد منها وتعمل على إبرازها أمام الرأي العام بطريقة منطقية وجميلة تمثل فاعلية القيادات والأحزاب السياسية.

لا أخفي إن هذا الأسلوب قد يأخذ حيزاً كبيراً من الذكاء والفطنة وتمثل قراءة جيدة لمجريات التاريخ. أي إن الاستمرار في العمل السياسي بعيداً عن الإحباط هو فهم واعي لمحرّكات الجمهور واستمالته نحو المشروع المُعلن لهذه الاحزاب من جانب، في الوقت نفسه هو رفض لمبدأ حتمية التاريخ وَعَوْدْ التاريخ من جانب آخر، بمعنى ما، هو دحض لفكرة المجتمعات التي تُكَرر نفسها وأفكارها، ومحاولة اشراك الجميع في نتيجة حتمية واحدة قد أُعدت منذ فجر الوعي الانساني.

الاستمرار والتواصل مع طرح كل جديد، إذ يمثل قراءة مستقبلية لشكل النسخة الجماهيرية المقبلة، وهذه القراءة المستقبلية تُلزم وجود مجموعة مفكرين ومتخصصين في الشأن الاجتماعي والإنساني لمعرفة ثيمة الفكرة وعلاقتها مع الأفكار السابقة، أي هي عملية البحث عن الأصل والجذور لنوع الفكرة ومراحل تشكلها وقبولها من الجماهير.

لكن من الأهمية بمكان، أن أقول إن على الرغم من كل هذه الملّخصات وحجم المعايير الإجرائية التي تلزم الفاعل السياسي أن يصاحبها، فهي لم تَعِد حاضنة تولّد أحزاب سياسية في العناوين والمعاني نفسها التي أسلفنا عنها فيما سبق.

قلناها مراراً وتكراراً إن العالم قد تَغَيّرْ ، ونعني بعبارة التغيير ، هي شكل طبيعة الفكر الإنساني الحاصل في عالمنا الراهن، ومدى قناعة المواطن مع المقولات التي كانت تُشكل عنده ثوابت حتمية لا يمكن تغييرها أو تجاوزها.

هذا العالم لم يُعد يتساوق مع فكرة البطل أو قائد الضرورة والذي عُدَّ فيما سبق شرطاً أساسياً في إستدامة الفكرة الايديولوجية التي تعتمد التاريخ والوجدان الاجتماعي. إننا نخطو بخطوات سريعة نحو الانتقال المرحلي من مرحلة تاريخ الأفكار والسلوكيات التي جاءت مع مرحلة النظريات الشمولية والعالم المغلق ورمزية العرق وقداسة الشعوب، إلى مرحلة تجاوز الحدود التي تقسم المجتمعات بحسب الدين أو العرق أو الثقافة وفلسفة الإدارة وإدارة البرامج التي تتغلب على عنوان القيادة الحزبية .

لقد انتهى عصر البطولة، إذ بتنا اليوم أمام عصر الذكاء الاصطناعي والآلة الذكية، كما اننا وصلنا إلى نهاية مرحلة الزعامة، وأصبحنا أمام البرامج العلمية والمعرفية، التي يلزم الناشط السياسي أن يمتلك جدولاً من سلّم المعرفة التي تؤهله للتفاعل مع العلوم الرقمية والانتقال من الجغرافية المكانية إلى الجغرافية الذهنية، وَنَخلص من هذا أن العمل السياسي المقبل يتجاوز حالة الديماغوجية التي تدغدغ العاطفة الشعبية والايديولوجيا المغلقة التي تكشفها الشاشة الرقمية.

 

 

 

روداو

Top