حرية الرأي في النظام الديمقراطي بين الانضباط والانفلات
نايف كوردستاني
لا يختلف العقلاء في العالم أن حرية الرأي، والتعبير حق أساسي من حقوق الإنسان في المجتمعات المتحضرة جميعًا، لكن ليس من حق الإنسان أن يفتري، أو يشتم، أو يسيء للآخرين باسم حرية التعبير عن الرأي !
ويمكن عدّ حرية الرأي هو العمود الفقري للحريات في النظام الديمقراطي في أية دولة من دول العالم المتقدّم، وهي ضرورة من ضروريات الحياة في مجتمع متحرك، وهي الركيزة الأساسية، وحجر الزاوية في المجتمع الديمقراطي.
ويتضح ذلك في نص ميثاق الأمم المتحدة، إذْ إنَّ حرية الرأي ارتبطت بأهداف الأمم المتحدة التي من ضمنها حفظ الأمن، والسلام الدوليين؛ وذلك إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلُّ على عالمية حرية الرأي، وضرورتها، وحرية الرأي تتقيِّد ببعض الضوابط، والإجراءات من أجل تنظيم استعمالها، وانضباطها؛ وذلك حفاظًا على القوانين الوطنية، والأخلاق العامة، والنظام العام .
إنَّ حرية الرأي ضرورة حتمية لممارسة العملية الديمقراطية؛ لأنَّها تمكن أصحاب الرأي من انتقاد السلطة الغارقة في الفساد، وتتيح إمكانية تغيير الواقع السياسي بطرق منطقية، وعقلانية من دون الانجرار إلى مرحلة العنف، واستخدام القوة !
وقد جاءت المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام ( 1948م) بخصوص حرية الرأي:" لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء، والأفكار، وتلقِّيها، ونقلها إلى الآخرين بأيَّة وسيلة، ودونما اعتبار للحدود".
وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في عام (1966م) ضمن المادة (19)
1-لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة.
2- لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس، وتلقّي، ونقل المعلومات، والأفكار من جميع الأنواع، دونما اعتبار للحدود، سواء بالقول، أو الكتابة، أو بالطباعة، أو في قالب فني، أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3- تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة (2) من هذه المادة واجبات، ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، لكن يجب تكون كما ينص عليها القانون، وأن تكون ضروريةً:
أ- لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
ب- لحماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو المصلحة العامة، أو الآداب العامة.
وجاءت المادة (38) من الدستور العراقي في عام (2005م) حول حرية الرأي التي تنصُّ "تكفل الدولة، وبما لا يخلُّ بالنظام العام، والآداب:
أولًا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل ".
وتعد حرية الرأي حقًا من حقوق المواطنين عما يعتنقون من الأفكار من دون المساس بالنظام العام، وحقوق الآخرين، وعدم الازدراء بالقوميات، والديانات، والمذاهب ، والتقليل من شأنهم، والاستهزاء بهم بحجة حرية الرأي، والتعبير !
إنَّ حرية الرأي مقيِّدة، ومكبلة في الأنظمة القمعية ذات الصبغة الدكتاتورية التي تحكم بسياسة الحديد، والنار مع شعبها لا سيما الذين يريدون أن يعبروا عن آرائهم تجاه الحكومات، والمسؤولين حول الوضع السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتربوي، والتعليمي، والصحي، والأمني، والعسكري، والثقافي المزري، والمتدهور !
إذا حاولت أن تنتقد، وتُعبِّرَ عن رأيك حول ما يجري من حولك في الأنظمة القمعية، فأنَّ حياتك مهددة بالخطر، إمَّا بالتهديد، أو الخطف، أو القتل، أو التصفية، أو صدور أوامر القبض عليك، ومذكَّرات الاستقدام، ومن ثَمَّ السجن بسبب التعبير عن الرأي، وربَّما يكون المُعبِّر لم يكن قاصدًا ذلك المعنى الذي أحدث ضجّة في الشارع، والرأي العام بصورة عامة، أو تحاول جهات سياسية استغلال المقالة، أو المفردة، أو العبارة، أو الجملة أو المنشور، أو التغريدة، أو الصورة، أو مقطع الڤيديو من دون فهم حيثيات الموضوع، والقصد من ذلك كله، ومن ثَمَّ استغلال الجمهور المؤدلج، والساذج لزعزعة الوضع الأمني، والسياسي واستثماره سياسيًا !
من المؤسف أن نرى انفلاتًا واضحًا في حرية الرأية من خلال تشويه الحقائق، وطمسها متعمدين في ذلك ضرب العملية السياسية، والنسيج الاجتماعي: القومي، والديني، والمذهبي، وتهديد السلم المجتمعي، وهدم أسس التعايش لاسيما تلك الشخصيات المدفوعة من قبل الأحزاب السياسية، أو الذين يُنفِّذون الأجندات الخارجية بتوجيه الاتهامات للأطراف السياسية الأخرى من أجل قلب الحقائق، وتأجيج الشارع خاصةً المتعلقة بإقليم كوردستان من قبل أطراف سياسية معادية لفكرة التعايش، وعدم استقرار البلاد سياسيًا، وأمنيًا، وتفكيك العلاقة ما بين أربيل، وبغداد من خلال الحملات الإعلامية التي تشنُّ بين الحين والآخر من قبل بعض المرتزقة، والمتسولين على أعتاب أبواب القنوات الفضائية مقابل أجور زهيدة ، أو شخصيات سياسية أخفقوا في تقديم الخدمات للشارع العراقي، لكي يبثوا سمومهم، ودعاياتهم الكاذبة، منها بأن إقليم كوردستان يسرق أموال نفط البصرة، وأن إقليم كوردستان بُنيت بأموال المحافظات الجنوبية، وأن إقليم كوردستان يستقطب المجرمين، والهاربين من العدالة، وأن إقليم كوردستان مركز الموساد، وأن إقليم كوردستان محتلٌّ! ومن هكذا خطابات تحريضية لا أساس لها من الصحة بحُجَّة حرية الرأي، والتعبير !
وهناك تعريفات كثيرة، ومتناثرة حول حرية الرأي، ويمكن إجمالها بالآتي :"كُلُّ ما يمكن استخدامه من أداة، أو وسيلة يسمح معها التعبير عن الرأي سواء كان ذلك بالقول، أو الفعل، أو الخطابة، أو الكتابة، والنشر، أو بالحركات الدالة، والصور، والرسوم ، وذلك من دون أية رقابة حكومية شريطة ألا يمثل طريقة، ومضمون الفكر، والتعبير عنه اختراقًا للقوانين، والأعراف، والديانات الناظمة لذلك في الدولة، إذْ إنَّ حدود حرية الرأي، والتعبير قد تتغير وفقًا للظروف الاجتماعية، والسياسية، والدينية لكل مجتمع".
وما دمت تتحدث عن حرية الرأي، وتتمتع بها فعليك أن تتوقف عند حدود الآخرين، وعدم التجاوز عليها من دون زجّ البلد في نفق الصراعات، والفتن مستهدفين المكونات الاجتماعية للبلد باسم حرية الرأي .
إذًا لابد من مجموعة ضوابط لحرية الرأي :
1- عدم التعرض بالإساءة للديانات، والمذاهب، والمعتقدات الآخرين، والازدراء، والسخرية منها .
2- عدم التطاول على الذات الإلهية - سبحانه وتعالى – والأنبياء، والرسل جميعهم من دون استثناء.
3- عدم استفزاز مشاعر الآخرين بأية طريقة، وبأية وسيلة .
4- عدم التحريض على الفتن القومية، والدينية، والمذهبية، والطائفية بين أبناء المجتمع الواحد .
5- عدم التحريض بالقتل، والاعتداء على الآخرين .
6-عدم التحريض على خطابات الكراهية، أو العنصرية، أو العنف بأشكاله جميعًا ضد شخص معين، أو مجموعة أشخاص بسبب أصلهم، أو انتمائهم .
7-عدم الإساءة إلى الآخرين بما يمسُّ سمعته، أو حياته الشخصية، أو عرضه، أو شرفه!
8-يكون الانتقاد من باب النصح، والإرشاد، وبالأدلة الثبوتية القطعية، وليست الظَّنَّيّة، والقيل، والقال، ولا حدثني (فلان عن علان عن فلتان) !
9- ألا يكون الرأي مدفوعًا من قبل الأجندات الخارجية لتسقيط الحكومة، أو محاربة الخصوم ، لنشر الإشاعات الكاذبة لكسب الشارع ، والرأي العام.
10- عدم نشر الرذيلة، والفساد، والانحلال الأخلاقي، والإلحاد، والتلاعب بعقول الناس!
إنَّ القيود التي توضع على حرية الرأي الهدف منها هو حماية مبدأ الشرعية، والالتزام بحماية حقوق الآخرين، وعدم المساس بسمعتهم، ونزاهتهم، وشرفهم، وعدم الإخلال بالنظام المجتمعي، والآداب العامة، فليس من حرية الرأي نشر، وترويج الأفكار العنصرية، أو التحريض عليها، أو ارتكاب أعمال العنف !
إنَّ حرية التعبير مهمة لثلاثة أسباب رئيسة، وهي:
الأول: أن الحق في التعبير عن النفس ناحية أساسية لكرامة الإنسان.
الثاني: أن أفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة يتحقق من خلال وجود (سوق الأفكار ) إذ يتم تبادل الأفكار، ووجهات النظر بحرية، وهذا لا يكون إلا إذا احترمت حرية الرأي.
الثالث: أنه لا يمكن أن يكون هناك أي حوار مفتوح، ونقاش علني من دون حرية انسيابية، وتدفق للمعلومات.
إنَّ حرية الرأي تعدُّ حقًا دستوريًا كفلتها مختلف الدساتير في دول العالم المتمدِّن فضلًا عن ذلك، فأنها دعامة وثيقة للمجتمع الديمقراطي، فالنظام الديمقراطي هي في بُنيته يستهدف إرادة تكوين الدولة تكوينًا يرتكز على إرادة الشعب الحرة .
اليوم نرى فُوضى خلاقة في حرية الرأي، وانفلات في الآراء من دون محاسبة تلك الشخصيات، أو تلك القنوات الفضائية، أو منصات التواصل الاجتماعي التي تحاول أن تحدث شرخًا في البُنية الاجتماعية للبلد، ونسف النظام الديمقراطي القائم على التعددية !
وتتخذ حرية الرأي قوالب، وإطارات عديدة، ومختلفة، فمن حرية القول إلى حرية الكتابة إلى الحرية الأدبية، والفنية، وحرية الصحافة، ووسائل الإعلام، وحرية الخطابة .
وقبل بضعة أيام قام أحد المسيحيين، وهو مسؤول كتائب روح الله عيسى بن مريم المنضوية تحت تشكيلات كتائب الإمام علي، بحرق بعض الأوراق من القرآن الكريم في مملكة السويد بحجة حرية الرأي، والتعبير مع التجاوزات بكلمات غير لائقة عن القرآن الكريم !
وهذا الفعل هو ازدراء للدين الإسلامي الحنيف، وعدم احترام لمشاعر الملايين من المسلمين في العالم، ويعدُّ اعتداءً على قدسية المعتقد الديني الإسلامي، وإساءة إلى رسول الإنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم -.
إنَّ مثل هكذا سلوكيات تثير الفتن، والأحقاد، والكراهية في المجتمع، وإنَّ السلم المجتمعي هو الركيزة الأساسية في استقرار الدولة، والمُعكِّر الأول لصفو هذا السلم هو انتقاد أديان الآخرين، والمعتقد الديني لهم بحجة حرية الرأي !
فلو أننا افترضنا قيام شخصية ما بحرق كتاب التوراة، أو الإنجيل، أو الكتب المتعلقة بالديانة البوذية، والهندوسية، أو حرق علم المثليين هل ستكون مسألة طبيعية ، وتدخل في باب حرية الرأي ، والحرية الشخصية بالدول الأوروبية التي تنادي بالحرية، أو أن الأمور ستكون مختلفة حينذاك ؟!
علمًا أنَّني أرفضُ الاعتداء على أي دين، أو المساس بمعتقداته، أو الاستهزاء بهم بأيّ شكل من الأشكال.
ومن مظاهر الخروج عن حدود حرية الرأي :
- الاعتداء على قيم المجتمع .
- خدش الحياء، والآداب العامة .
- استهداف الصحف، والقنوات الفضائية، والإذاعات للتشهير ، والابتزاز !
- الخروج عن القيم الإخبارية، والمعايير المهنية ( الإساءة للآخرين ) .
- إسقاط القدوات في المجتمع .
أهمية حرية الرأي :
تعد حرية الرأي الوسيلة الأساسية من أجل تقدّم المجتمع، وتقدّم المجتمع، وتطوره من ثمار حرية الرأي، ولاسيما المبنية على النقد البنّاء، وليس الهدام .
إن حرية الرأي هي السياج الحامي للحقوق كافة، والحريات العامة فضلًا عن كونها مؤشرًا على وجودها في مجتمع، أو عدم وجودها فيه، والدساتير، والقوانين الوضعية ليست سبب وجودها بقدر ما هي - أي حرية الرأي - سبب لوجود الدستور .
وعليه فأنَّ التعبير عن الرأي من جانب الصحافة، ووسائل النشر كافة، وحق الجمهور في الإعلام من أهم الوسائل للوصول إلى مجتمع ديمقراطي .
إنَّ غياب حرية الرأي في مجتمع ما له أضرار كثيرة عامة، وخاصة فهو يعني إطلاق يد الحاكم في احتكار جوانب من حياة المواطنين الفكرية، وتشريع القوانين التي تخدم مصالحه، وسلطاته، إنَّ الحرية في التعبير عن الرأي تُلْزِم المُشرِّع بسنِّ القوانين التي تُعبِّر عن أفكار الجماهير، واحترام رأيهم، ومناقشته مع ممثليهم، وطرح مشكلاتهم على الساحة لمناقشتها، ودراستها، وتقديم أوجه الرأي السديد من أجل خدمة المجتمع .
إنَّ حرية الرأي هي روح الفكر الديموقراطي؛ لأنها تعبر عما يجول في خاطر، وتفكير الفرد، والمجتمع حتى يعمل النظام القائم على تحقيق طلباته، وما يحتاجونه من خدمات فمن دون هذا الحق لا يمكن للنظام التعرّف على طلبات المجتمع، وتحقيقها على أرض الواقع .
إنَّ أهمية حرية الرأي لا تعني بالضرورة إطلاق العنان لهذه الحرية من دون وجود قيود، أو ضوابط، بل نصت المواثيق الدولية، والتشريعات الوطنية للدول الديمقراطية علـى جملـة مـن الضوابط التي تنظم هذه الحرية التي تصبّ مجملها في إطار حماية حقوق الآخرين، وحرياتهم، وضمن حماية النظام العام، والأمن العام، والآداب العامة، والمصلحة العامة.
تأسيسًا على ما تقدّم فأن حرية الرأي حجر أساسي في النظام الديمقراطي، وحمايته رمز للمجتمع المدني المُتحضِّر، وحقٌّ أساسي من حقوق الإنسان الذي يحترم التعددية القومية، والدينية، والمذهبية، والسياسية، ويجب الابتعاد عن الأساليب الاستفزازية التي تهدد الأمن المجتمعي والسلم الأهلي والتعايش من قبل المرتزقة، والجيوش الإليكترونية ، وعدم جرح مشاعر الآخرين، وإغضابهم، ولابد من أن تكون حرية الرأي منضبطة، ووجود قوانين صارمة، وتطبيقها على الجميع من دون استثناء لاسيما الذين يحاولون استغلال حرية الرأي، ومن ثَمَّ تكون الأمور سائبة، ومنفلتة!
وأختم مقالتي بإحدى المقولات المشهورة ألا وهي :" تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين"!
باسنيوز