عبد الحسين شعبان: العراق لا يمكن أن يُحكم من جماعة واحدة.. وقيام دولة كوردية قابلة للتطبيق عاجلاً أم آجلاً
حاوره: معد فياض
منذ سنوات مبكرة من وعيه الفكري، توجه عبد الحسين شعبان للعمل على موضوع السلم المجتمعي وحقوق الانسان، فهو أكاديمي ومفكّر من الجيل الثاني للمجدّدين العراقيين، يساري النّشأة والتوجّه، ومنذ أواخر الخمسينات ارتبط بالحركة الشيوعية وأصبح عضواً في الحزب الشيوعي في مطلع الستينات، لكنه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية ولم يلتزم أطرها التنظيمية التي تمرّد عليها، وبدأ يهتم في التنوير والحداثة، خصوصاً الانشغال بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان والقوانين الدستورية والدولية بما فيها قضايا النزاعات والحروب والتّسامح واللاّعنف.
في حواره سلط المفكر شعبان على اهمية السلم الاجتماعي والتداول السلمي للسلطة، وقال:" كنت وما أزال أؤمن بأن العراق لا يمكن أن يحكم من جماعة سياسية واحدة. مشددا على ان"لا حلّ لمشاكل بغداد وأربيل إلّا بالحوار وبالسلم، وقد جرّبت بغداد في السابق والحاضر اللجوء إلى حلول عسكرية، لكنها فشلت في ثني الشعب الكردي عن المطالبة بحقوقه والدفاع عنها"، مؤكدا " قيام دولة كوردية قابلة للتطبيق إنْ عاجلًا أم آجلًا"، معبرا عن اعتقاده بان"ثقافة التعايش والاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية ما تزال غائبة في العراق".
وأيد شعبان في حواره طروحات نيجرفان بارزاني حول اهمية"توحيد قوات البشمركة بين الحزبين الكورديين،الديمقراطي والاتحاد الوطني".
وفيما يلي نص الحوار:
* كرستم جلّ بحوثكم ومحاضراتكم قبل الاحتلال الاميركي للعراق عن مفهوم السلم المجتمعي والتداول السلمي للسلطة، كيف تفسرون ما آلت اليه اوضاع العراق اليوم حيث سيادة العنف والتطرف؟
عبد الحسين شعبان: كنت وما أزال أؤمن بأن العراق لا يمكن أن يحكم من جماعة سياسية واحدة، وهي إحدى الاستنتاجات التي توصّلت إليها منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، حتى حين كنت أتعاطى السياسة في الحزب الشيوعي. وحين تحوّلت إلى خوض غمار السياسة من خلال الفكر، فقد شعرت أن مسؤوليتي الأكاديمية والوطنية صارت أكبر، خصوصًا في الترويج لقضايا حقوق الإنسان الأساسية، لاسيّما حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم وحق الشراكة والمشاركة، وبالطبع بعد حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف، وهنا تداخلت المرحلة الحقوقية مع المرحلة التساؤلية العقلانية النقدية وأخذت بالتدرّج تنحسر المرحلة الإيمانية العاطفية التبشيرية، خصوصًا وقد تكشّفت الكثير من الحقائق مثلما أَجريْتُ مراجعات ضرورية في إطار النقد والنقد الذاتي متحرّراً من وهم الأيديولوجيا وتأثيرها المخدّر.
ومسألة التنوّع والتعدّدية تنطبق على الجميع حكومات ومعارضات، وذلك خارج دوائر الاقصاء والإلغاء والتهميش، وهي منظومة شمولية عملت الأحزاب جميعها تحت لوائها، تارة باسم " العروبة والوحدة القومية"، وأخرى باسم "الكادحين والأممية" وثالثة باعتبار "الإسلام هو الحل". وهذه التوجّهات جميعها ودون استثناء تستبطن الهيمنة وفرض الرأي والزعم بامتلاك الحقيقة والأفضلية في حق الحكم.
ولأن طبيعة القوى التي وصلت إلى السلطة بمساعدة المحتل بعد العام 2003 لا تؤمن بالتداولية والتناوبية وبحقوق الإنسان كمنظومة متكاملة، ولأنها تحاول التشبّث باعتبارات أخرى، فقد سلكت طريق الذين سبقوها وإنْ اختلفت الظروف. ولعب وجود دستور ملغوم وقابل للانفجار في أية لحظة دورًا كبيرًا في فتح شهيّتها على المواقع والمناصب وإغراءات السلطة وغواية المال، علمًا بأن الدستور تأسس وفقًا للخطّة الأميركية التي عبّر عنها بول بريمر في "مجلس الحكم الانتقالي" بالتقاسم الوظيفي – الطائفي الذي لم يعارضه أحد من المشاركين في العملية السياسية وجميعهم وافقوا على الدستور وذيوله عند إبرامه أو فيما بعد، فقد آلت الأمور إلى هذه المنافسة غير المشروعة وإلى سيادة العنف القائم على التعصّب والتطرّف ووصلت الأوضاع إلى طريق مسدود لدرجة أن الجميع يشكو من انسداد آفاقه.
جدير بالذكر أن الدستور كان قد وضعه الأميركي نوح فيلدمان، أما بعض الألغام، فقد كانت من صياغة بيتر غالبرايت، ووضع كل فريق ما يريده فيه، بحيث أصبح متناقضًا، أرضى الجميع لكنه لم يرضي أحدًا حتّى من الذين يتشبثون به، واكتشف هؤلاء أن خصومهم بالفريق الآخر وضعوا ما يريدون أيضاً.
نحتاج إلى إعادة تركيب المعادلة السياسية بإعادة النظر بالدستور وتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة وحكم القانون ورد الاعتبار إلى القضاء، ليقوم بدوره المشهود وهو يحاول ذلك على الرغم من الضغوط والتحديات. وإذا ما توجّهنا في هذا الطريق فيمكن تذليل العقبات وإزالة بؤر التوتّر ومكافحة الفساد ومساءلة المفسدين ورد الاعتبار إلى الدولة ونزع سلاح الميليشيات جميعها ودون استثناء ووضع عقيدة موحّدة للجيش أساسها الولاء للوطن والدولة.
* قبل تغيير النظام عام 2003، حيث كنتم في لندن، هل توقعتم ان العراق سيصل الى ما هو عليه اليوم؟
عبد الحسين شعبان: لا أظنّ أحدًا يستطيع أن يتكهّن بما ستؤول إليه الأمور، فتلك نبوءة لا أدّعيها وبعد نظر لا أملكه إلّا على طريقة فتّاحي الفأل أو قارئي الكف بما يمتلكونه من براعة وحيل وبهلوانية، لكنني أستطيع القول، وأنت مطلع على ذلك، أنني من الأوائل الذين حذروا المعارضة من الانخراط في المشروع الخارجي وقد انسحبت من مسؤوليتي فيها كأمين سرّ المعارضة برسالة صريحة ومسؤولة العام 1993، وأوضحت فيها خطأ ولا إنسانية الاندفاع وراء سراب الحصار الاقتصادي الذي سيطيح بالنظام، وخطل ولا إنسانية تأييد القرارات الدولية المجحفة بحق العراق، فضلًا عن خطأ وعدم جدوى الرهان على العامل الدولي الذي سيوظّف المعارضة لمصالحه الخاصة، فضلًا عن أساليب العمل القديمة وعدم ثقة بعضها بالبعض.
كان البعض يعادي صدام حسين كديكتاتور، في حين كنت أدعو إلى قيام نظام ديمقراطي يحترم إرادة الناس ويلبّي طموحاتهم، وهذا هو المهم، ولذلك بدلًا من العداء للديكتاتورية أنتجنا ديكتاتوريات مصغّرة عديدة تمترست بمواقعها وبدوقياتها وكانتوناتها.
* هل تنظرون بعين الثقة للنظام الديمقراطي وممارساته في العراق؟
عبد الحسين شعبان: إن مجرد إجراء انتخابات ومداورات على السلطة لا يعني وجود نظام ديمقراطي، خصوصًا في ظل نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية المكرّس دستوريًا، فالديمقراطية تتطلّب دستورًا يمثّل الحدّ الأدنى من التوجّه الديمقراطي، وقوانين ديمقراطية وقضاء مستقل ومهني محايد وحصر السلاح بيد الدولة، إضافة إلى إشاعة الحريّات الديمقراطية وتداول سلمي للسلطة ونظام رقابة فعّال، ولعلّ هذه غائبة إلى حدود كبيرة وهي مؤشرات للديمقراطية على المستوى العالمي.
إن الدستور النافذ الذي تمّ الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2005 قام على مبدأ المكوّنات، وليس ذلك سوى التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، خصوصًا عند الحديث عن مؤسسات الدولة والجيش والقوات المسلّحة وقوى الأمن الداخلي، تحت عنوان "التوازن".
وقد ورد مبدأ المكوّنات في المقدّمة (مرّتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، فماذا يعني ذلك غير تعويم فكرة المواطنة التي يرد ذكرها في الدستور؟ وخصوصًا حين يجمع التناقض على نحو فاقع، حيث ينصّ الدستور على عدم تعارض أي من مواده مع قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثمّ يشير في المادة نفسها على عدم معارضة مواده لمبادئ الشريعة الإسلامية، ولكن ماذا لو حصل التعارض؟ وهو حاصل فعلًا، فلمن ستكون الغلبة؟ وهكذا يمكن أن تتفجّر مواد الدستور في كلّ لحظة في العلاقة بين اختصاصات المركز (السلطة الاتحادية) وسلطة الإقليم(أقليم كوردستان)، لاسيّما في قضايا المناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك والنفط والمنافذ الحدودية وغيرها.
* كيف تفسرون استمرار النزاعات السياسية في العراق بعد اكثر من 19 سنة من تغيير النظام؟
عبد الحسين شعبان: الأمر مفهوم بسبب الصراع على مناطق النفوذ والاستحواذ على المزيد من المواقع في الدولة، سواء باسم الطائفة أو باسم الأديان أو باسم الإثنيات، ناهيك أحيانًا عن استغلال العشائر والجهويات والمناطقيات وحشدها في الصراع الطائفي – الإثني بما فيه من انقسمات داخل الطوائف والإثنيات. إن جميع المشتركين في العملية السياسية يستمرّون بشكل أو بآخر في الحصول على مكاسب وامتيازات تحت عناوين مختلفة، وهكذا نشأ النظام مشوّهًا لأنه لا يعتمد مبادئ الكفاءة والوطنية أساسًا في التقييم، بل يقوم على الولاء والتبعية، لأن الأساس فيه هو الغنائم والزبائنية.
وسيبقى هذا الصراع وقد يتّسع، بسبب تخندق الجماعات السياسية في مواقعها، وغياب المساءلة والمحاسبة على هدر المال العام ونهب الموارد وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة، إضافة إلى استمرار الشحن الطائفي والإثني، لأنه صراع من أجل الغلبة وليس في إطار مشاريع فكرية وسياسية تتبارى لخدمة البلاد وتنميتها.
*دعا نيجيرفان بارزاني، رئيس اقليم كوردستان الحزبين الرئيسيين في اقليم كوردستان(الديمقراطي والاتحاد الوطني) الى توحيد قوات البشمركة. انتم عاصرتم مقاومة البشمركة امام النظام السابق كيف تنظرون الآن الى قوات البشمركة؟
عبد الحسين شعبان: من الأخطاء الكبرى في التجربة التاريخية الكردية أن البيشمركة ظلوا متوزعين على الحزبين حتى بعد قيام الإدارة الكردية نهاية العام 1991 ، وذلك بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان وقرار الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بإنشاء "الملاذ الآمن" ، وعلى الرغم من الدعوات لتوحيدها ودمجها، إلّا أنها ظلت منقسمة بين الحزبين حتى الآن.
وإذا كان من مبرّر لمثل هذا الانقسام في المعارضة وخلال الصراع الكردي – الكردي 1994 – 1998 ، فإنه ليس مقبولًا بقاءها على هذا الحال، وهو يعكس عدم ثقة بين الحزبين، وعدم ثقة في إدارة الإقليم، وسبق لي أن قلت إذا كان تقسيم كردستان خطيئة، فالقتال جريمة.
البيشمركة لعبوا دوراً في الدفاع عن حقوق الشعب الكردي والتصدّي للأنظمة التي انتهكتها، وخصوصًا مواجهة النظام السابق، وكذلك في مواجهة داعش والتنظيمات الإرهابية، وهي جزء لا يتجزأ اليوم من القوات المسلّحة العراقية، وينبغي أن تكون بخبرتها وتجربتها التاريخية في الموقع الذي تستحقه، موحدة ومجهزة لحماية ما تحقق من منجزات الشعب الكردي وللمساهمة في عملية التنمية.
* قلتم: إنّ استمرار وجود بؤر للصراع وتقاطعات حادّة بين الطموح(الكوردي) والواقع، إضافة إلى عدم ثقة متبادلة بخصوص المستقبل، يجعل التفكير في قيام كيان كوردي مستقلّ موضع تنازع بل وصراع قد لا تُعرف أبعاده.. هل هذا يعني عدم التفاؤل بقيام دولة كوردستان على المدى الزمني القصير و البعيد؟
عبد الحسين شعبان: الموضوع ليس التفاؤل أو التشاؤم أو التشاؤل إقتباسًا من رواية إميل حبيبي "سعيد أبي النحس المتشائل"، فأنا شخصيًا ومنذ عقود أدعو إلى حق تقرير المصير للشعب الكردي ولن أتنازل عن ذلك أو أغيّر رأيي من هذه القضية المبدئية، الحقوقية، الإنسانية، مع أنني قد أختلف في هذا الرأي أو ذاك ومع هذا الاجتهاد السياسي أو ذاك لهذه القيادة الكردية أو تلك، فهي مثل القيادات العربية واليسارية تخطأ وتصيب، لكن حق الشعب الكردي هو الحق الثابت غير القابل للتصرّف أو المساومة أو المغامرة.
وأظن أن قيام كيانية كردية أو دولة تحكم نفسها بنفسها ستكون قابلة للتطبيق إنْ عاجلًا أم آجلًا، لأنها تمثل حقوق شعب عانى كثيرًا ويريد أن يتمتع بحقوقه كاملة وغير منقوصة. وأنا شخصيًا مع هذا الحق بلا حدود، ولا بدّ هنا من اختيار اللحظة التاريخية وتوازن القوى وإدراك المخاطر الخارجية، وخصوصًا في دول الجوار، ولا سيّما إيران وتركيا، لانعكاس ذلك على حقوق الكرد في كلّ منهما وتأثيره على سائر دول المنطقة.
العالم متجه نحو التعبير عن الخصوصية والهويّة وهو ما شهدناه في أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا، خصوصًا بعد انهيار الأنظمة الشمولية، إذْ لم يعد اضطهاد أمّة أو هدر حقوق شعب تحت أي زعم، مقبولاً، ولا بد من سماع نبض الشعوب، خصوصًا إذا ما أحسنت قياداتها اختيار اللحظة التاريخية.
* انتم بادرتم بالحوار الكوردي - العربي منذ وقت مبكر، ترى هل توصل هذا الحوار الى نتائج قربت بين الطرفين؟
عبد الحسين شعبان: لي الشرف أني عملت على إنجاز فكرة إجراء أول حوار ضمّ 50 مثقفًا كرديًا وعربيًا من أقطار مختلفة، وكان ذلك قبل ما يزيد عن 30 عامًا، في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أتشرّف برئاستها. وحينها لم يكن مفهومًا مثل تلك المبادرة، بل أثير حولها لغط كثير وإن كان همسًا، فالموالون للحكومة العراقية اعتبروها ممالأة لقوى أجنبية، وقال عنها متعصبون قوميون، أنها لمصلحة الكرد وأن منظّمها من أصول كردية فيلية، حتى وإن كانوا يعرفون آرومته العربية الحِميَريَّة القحطانية، وعبّر إسلاميون عنها بأنها خروج عن المفهوم الإسلامي، وهو ما كان اجترارًا من وجهة النظر الإيرانية، وحاول البعض الذهاب بعيدًا بزعم معاداتها للعروبة، في حين أنها كانت مبادرة أدركت أهمية العلاقة التاريخية فناقشت قضايا مستقبلية، منها المواطنة والثقافة والمشترك الإنساني والجوامع بدل الفوارق، كما توقّفت عند مفاهيم: الحكم الذاتي والفيدرالية وحق تقرير المصير وطبيعة الدولة (مركزية أم اتحادية) أي (بسيطة أم مركبة) والحقوق والواجبات.
وفي مؤتمر فيينا للمعارضة صِغْتُ التقرير السياسي الذي عُرض على المؤتمر وجئت على حق تقرير المصير ومضمونه في الظروف الملموسة للشعب الكردي، وقد تطيّر منه بعض الحاضرين وشكلوا وفداً ضم 5 شخصيات بعضها من يزاود اليوم عن حقوق الكرد، بل يتملّقهم، للقاء جلال الطالباني، الذي كان حاضرًا ويدعوه لإلغاء هذه الفقرة التي تعني الانفصال، وكتب جلال الطالباني الذي أصبح رئيسًا للعراق عبارة "دون الانفصال بعد عبارة حق تقرير المصير" بخط يده لتطمينهم، لكن التقرير والبيان الختامي جاءا على حق تقرير المصير دون تقييد في أكثر من موضع ودون أن يلحظه المعترضون، ويمكنك الرجوع إلى ذلك.
بعد 6 سنوات من الحوار العربي – الكردي انعقد في القاهرة حوارًا ثانيًا وكان حينها جلال الطالباني حاضرًا، كما شارك فيه معظم الشخصيات الكردية التي دعيت إلى المؤتمر الأول وتشكّلت لجنة تحضيرية من عدنان المفتي وعمر بوتاني (من الحزبين)، كما حضر من الشيوعيين عزيز محمد وبهاء الدين نوري ونوري عبد الرزاق، إضافة إلى شخصيات مصرية بينها محمد فائق وأحمد حمروش وحلمي شعراوي ومحمد السيد سعيد وآخرين. كما شارك بعض الشخصيات العربية العراقية مثل أحمد ومحمد الحبوبي وجليل العطية وغيرهم.
ثم تشكّلت في أربيل جمعية للصداقة العربية – الكردية ترأسها الصديق صلاح بدر الدين في العام 2000، وعقدت عدة إجتماعات، كما تم تنظيم أكثر من لقاء عربي – كردي وقامت بعدد من الأنشطة بما فيها تأسيس بعض الفروع في البلدان العربية.
أعتقد أن فكرة الحوار العربي – الكردي أصبحت ركنًا مهمًا من أركان العلاقة العربية – الكردية، حيث تولّى سمو الأمير الحسن بن طلال وبعد تجربة الاستفتاء الكردي 2017 وفي إطار منتدى الفكر العربي بعمّان تنظيم حوار عربي – كردي موسّع حضره نخبة من الشخصيات الكردية والعربية، كما نظم بعدها مؤتمرًا حول حوار "أعمدة الأمة الأربعة" ضم شخصيات كردية وفارسية وتركية وعربية.
المؤتمران امتداد وتتويج لجهد طويل الأمد ومتنوّع وصبور على الرغم من التحديات السياسية، ولعلّ الرغبة اليوم تزداد لأهمية مأسسة الحوار وديمومته، وهو ما انعقد بعدها مناظرة بين ملّا بختيار وبيني في السليمانية لقى صدىً كبيراً.
أعتقد أن هذه الحوارات والدعوات وبالتراكم شكّلت تطوّراً جديداً في فهم العديد من القوى والشخصيات لواقع الحركة الكردية ولحقوق الشعب الكردي بما فيها حقه في تقرير مصيره، وهي جهد ثقافي ومعرفي، بحيث أصبحت الأمور أكثر وضوحاً: ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ وإذا كنتُ محبًا وصديقًا للشعب الكردي فإنني في الوقت نفسه ناقدًا للسياسات وفقًا لاجتهاداتي، وكما يقال: صديقك من صدقك وليس من صدّقك.
صحيح أن ثمة عقبات وعقد تاريخية وأخطاء وتراكمات، لكن البوصلة هي باتجاه التقارب، وشخصيًا أنا فخور بهذه المبادرة المبكّرة وكذلك بمبادرة حوار مثقفي الأمم الأربعة. التي كانت قد انعقدت حولها لقاءات في تونس وبيروت تحت عناوين "التكامل الإقليمي".
* ألا تعتقد أن الآن الكورد و العرب بحاجة اكثر الى حوار كوردي – عربي لخلق ارضية الحوار السياسي بين أربيل و بغداد ؟
عبدالحسين شعبان: نعم هذا صحيح، لكن الحوار العربي – الكردي له أبعاده الثقافية والأدبية والفنية والاجتماعية والصداقية والإنسانية، أما حوار بغداد – أربيل فغالبًا طابعه سياسي، وفي السياسة تدخل المصالح والمنافع والمساومات والتداخلات والمناورات، في حين أن الثقافة أكثر صفاءً ووضوحًا ورقيًّا. قد يساعد الحوار الثقافي في التهيئة للحوار السياسي بحيث يمكن حلحلة المشكلات عبر التفاهم الإنساني والعيش المشترك والرؤية الجمالية التعدّدية المتنوّعة.
* هل تعتقدون ان المشكلة بين اربيل وبغداد تحل فعلا بالحوار؟
عبد الحسين شعبان: لا حلّ لمشاكل بغداد وأربيل إلّا بالحوار وبالسلم، وقد جرّبت بغداد في السابق والحاضر اللجوء إلى حلول عسكرية، لكنها فشلت في ثني الشعب الكردي عن المطالبة بحقوقه والدفاع عنها، وجربت الحركة الكردية الوسائل العسكرية لتحقيق أهدافها، لكن هذه الأخيرة تحقّقت بالحوار، سواءً في بيان 11 آذار / مارس 1970 أم فيما بعد الإطاحة بالنظام السابق وإقامة النظام الفيدرالي على جميع الملاحظات التي عليه.
* كيف تنظر الى الأزمة الحالية و الضغط المستمر لبغداد على اقليم كوردستان و الضغوطات الاقليمية على اقليم كوردستان ؟
عبد الحسين شعبان: الأزمة بين بغداد وأربيل لا بدّ أن تنتهي، أولًا بتشكيل مجلس الاتحاد الذي يضم الإقليم أو عند تشكيل أقاليم جديدة والسلطة الاتحادية، وكذلك وضع قانون النفط والغاز وإنهاء مشكلة المناطق المتنازع عليها التي وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (المادة 58)، والتي تم نقلها إلى المادة 140 من الدستور الدائم، وكذلك حل مشكلة المنافذ الحدودية ووضع ضوابط لجعل العلاقة سالكة بين الطرفين في إطار مصلحة العراق وشعبه بشقيه العربي والكردي، وبقية المجموعات الثقافية.
* كيف تقيمون أحداث انتفاضة تشرين، حيث عبّر العراقيون عن حرية رأيهم في السلطة؟
عبد الحسين شعبان: حركة تشرين وتوجهاتها ومطالبها عادلة ومشروعة ونبيلة، وهي مثّلت الشرائح المجتمعية خارج دوائر الطوائف والإثنيات والأحزاب والمناطقيات والجهويات. إنها حركة وجدانية صميمية صادقة وشجاعة.
ربما ما كان ينقصها وجود قيادة مجرّبة، فضلًا عن غياب برنامج كان يمكن فرضه في الشارع من خلال الملايين. لو أعلنت الحركة:
1- استقالة الوزارة.
2- تشكيل حكومة مؤقتة (لعامين مثلًا) لا تدخل الانتخابات القادمة.
3-حل البرلمان وتحويل صلاحياته إلى الحكومة المؤقتة.
4- إلغاء الدستور أو تعليقه وإصدار إعلان دستوري أساسي يمكن أن يستمد بعض أسسه من الدستور فيما يتعلّق بالمواطنة والحريّات واستقلال القضاء وتداول السلطة والانتخابات مع إزالة الألغام منه.
5- طرح اسم رئيس الوزراء في الشارع.
6- إعلان فترة انتقالية بأحكام مشدّدة وحظر حيازة السلاح.
7- إلغاء نظام المحاصصة واعتماد الكفاءة أساسًا في تولّي المناصب العليا.
كان يمكن لحركة تشرين أن تضع القوى السياسية خلفها، وقسم من هذه القوى تراجع لدرجة أبدى استعدادًا للتعاطي مع الحركة معترفاً بأنه فشل في تولّي الأمور وأن العملية السياسية تكاد تقترب من نهايتها.
لم يكن بإمكان أي جهة مواجهة الملايين من الناس في الشارع، لكن استمرار هذه الملايين بشعارات عامة: مساءلة المسؤولين عن قتل المتظاهرين ومحاربة الفساد والمفسدين وإن كان ذلك مهمًا، لكنها بدلًا من سحب الثقة من الطبقة السياسية وأركان العملية السياسية منحتها أو خوّلتها القيام بالمساءلة وهي المسؤولة عن تردّي الأوضاع.وهذا لعمري يدلّ على طيبة لا متناهية إن لم يكن دليل سذاجة سياسية، مع احترامي وتقديري للتضحيات الكبيرة والشجاعة الفائقة، لهذا جرى الالتفاف على الحركة والإجهاز على المتظاهرين، ثمّ محاولة شقّهم وتفريقهم واشغالهم بوعود لا تغني ولا تسمن من جوع، وهكذا تبدّد هذا المنجز الكبير وأصاب قسم كبير منهم حالة إحباط أو قنوط أو خدر أو عدم ثقة بإمكانية التغيير. أما التعويل على الانتخابات في ظل هذه الأوضاع وفي ظروف عدم توازن القوى، فإنه لم يحقق المراد، علمًا بأن نحو 80 % من الناخبين لم يشاركوا فيها.
* بعد اسقاط نظام صدام حسين كانت هناك مجاميع مسلحة في العراق و شهدنا الحرب المذهبية، بعد داعش تاسست مجاميع مسلحة كثيرة باسم الحشد الشعبي و الآن هناك اكثر من 12 مجموعة مسلحة و لكن قريبة من الحشد الشعبي ، هل تتوقع نشوب حرب داخلية شيعية- شيعية في العراق أو اقتتال مذهبي آخر؟
عبد الحسين شعبان: شخصيًا أنا مع حصر السلاح بيد الدولة فلا مرجعيّة فوق مرجعيّة الدولة، سواءً كانت مرجعية دينية أم طائفية أم إثنية أم حزبية أم عشائرية أم جهوية أم مناطقية أم غير ذلك، فالدولة هي الجهة الوحيدة التي يقع على عاتقها حفظ السلم والأمن وحماية أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام. وحسب ماكس فيبر عالم الاجتماع إن احتكار السلاح ويقصد العنف هو جزء لا يتجزأ من مهمات الدولة. وإذا كان الحشد الشعبي قد قام بواجبه الوطني في التصدّي لتنظيمات داعش الإرهابية، فإن انتهاء مهمته وضمّه إلى القوات المسلّحة، لا بدّ أن تنهي إزدواجية العلاقة.ولا بدّ أن تكون مرجعية القوات المسلّحة واحدة بجميع تشكيلاتها وأن تكون لها عقيدة عسكرية واحدة، وتلك الأساس في الجيوش الحديثة التي تتبع الدولة ككيان قانوني وليس السلطة السياسية التي تتغيّر، أو هذا الحزب أو ذاك، أما الدولة فهي باقية.
* هل هناك أمل في خلق مجتمع مدني في العراق في ظل وجود هذه الحالة الدينية المذهبية الحالية في العراق؟
عبد الحسين شعبان: لا يمكن القول أنه لا يوجد مجتمع مدني في العراق، حتى وإن كان النمو الجديد جنينيًا، فقد ولد مع ولادة الدولة العراقية، لكن مضامينه وتوجهاته اختلفت في مساراتها، وخصوصًا بعد الاحتلال، بل أن قسمًا منه وقع في المصيدة قبل الاحتلال وانجرف في مشاريع خارجية وبتمويل من الجهات ذاتها. أما بعد الاحتلال فقد تعرّض للتشويه، بل أن بعضه كان رديفًا لمجموعات طائفية أو قومية أو حزبية، في حين أن المجتمع المدني ينبغي أن يكون مستقلّاً وبعيدًا عن السلطة ومعارضتها، أي أنه ينبغي أن يضع مسافة بينه وبينهما.
وبعض منظمات المجتمع المدني لجأت إلى السفارات واستعانت بها، بل اعتمدت في تمويلها على المشاريع الخارجية، وهناك عشرات من الموظفين اليوم والذين يعملون باسم المجتمع المدني يتلقون مساعدات خارجية بعضها كبير جدّاً، حتى أن بريمر وزّع على ما يسمّى بالمجتمع المدني 780 مليون دولار خلال وجوده في العراق وهو ما يذكره في كتابه "عام قضيته في العراق" ولا أحد يعرف أين ذهبت تلك الأموال ومن استلم حصّته من المنظمات؟ وهذه الحالة يعود بعضها إلى أيام المعارضة حين تلقّت جهات ومراكز أبحاث أو تسمّي نفسها بذلك وصحافة وصحفيين معونات ووقّع العديد منهم عقودًا مع البنتاغون بعنوان " مشروع تحرير العراق"، وبالطبع فإن هذه الجهات هي التي ستتحكم بالمجتمع المدني ومنظماته خدمة لأغراضها.
والمجتمع المدني يقوم على التداولية والتناوبية والانتخابات الديمقراطية في هيئاته وإداراته حسب أنظمته الداخلية، لكننا نلاحظ ان بعض قيادات هذه المنظمات استمرّت لعقدين أو ما يزيد من الزمن بإدارتها، بل تعتّق بعضها فيها مثلما فعل بعض الرؤساء العرب بحيث يقال منظمة فلان وجمهورية فلان، كما أن بعض المنظمات اقتصرت على رئيسها أو من يعاونه، وبعضها أصبح منظمات عائلية. وهو ما أضعف ثقة الجمهور بها حتى أصبحت مجالًا للتندّر والقذف والشبهة، بسبب حالات التكسّب والتربّح والابتعاد عن المعايير المهنية، بل والوطنية أحياناً.
والمجتمع المدني ليس من مهماته الوصول إلى السلطة أو تأييد هذا الفريق أو ذاك، لكن بعضه انخرط في لعبة السلطة، بل رشح أحيانًا لصالح هذا الحزب أو ذاك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والمجتمع المدني ينبغي أن يكون مفتوحًا فلا تغلق أبوابه لطائفة أو جهة أو فئة أو جماعة إثنية، في حين نجد الكثير من المنظمات مقتصرة على فئات أو جماعات محدّدة.
نحن بحاجة إلى تنقية أجواء منظمات المجتمع المدني بالتأكيد على الاستقلالية والتدقيق في مواردها، خصوصًا المتأتية من القوى الخارجية، فضلًا عن تداول المسؤوليات بإجراء انتخابات دورية شفافة ورقابة قضائية، كما يحصل لنقابات المحامين والمهندسين والأطباء والصحافيين والأدباء والكتاب واتحاد الحقوقيين، إضافة إلى منظمات العمّال والفلاحين، إذ لا يمكن قيام ديمقراطية حقيقية دون منظمات مجتمع مدني تكون رقيبًا وراصدًا لسلوك السلطات، وعليها أن تتحوّل من منظمات احتجاج إلى منظمات اقتراح لمشاريع قوانين ولوائح وأنظمة ومشاركة في عملية التنمية.
ولا ينبغي للمجتمع المدني أن ينخرط في الصراع السياسي الفكري لصالح هذا الفريق أو ذاك مثلما عليه أن يتجنّب اتخاذ مواقف سياسية مؤيدة للحكم أو معارضة، إنما هو ينحاز لصالح أعضائه ومنتسبيه وللقضايا المهنية والوطنية العامة.
* هل تعتقدون ان العنف في اسلوب حياة المجتمع العراقي ثقافة اصيلة ام مكتسبة؟
عبد الحسين شعبان: كلّا العنف ليس أسلوب حياة في المجتمع العراقي، ولا بدّ أن نبحث عن أسبابه وجذوره الاجتماعية – التاريخية المتعدّدة والمتشعّبة. وإذا كان العنف هو الصفة الغالبة في تاريخ الأمم والشعوب بسبب الصراع على السلطة والثروة التي قادت إلى حروب ونزاعات مسلّحة، فإن الإنسان حاول أن يؤنسن إنسانيته بالدعوة إلى السلم والتسامح وحلّ الخلافات دون اللّجوء إلى الحرب والعنف، بل بالتفاهم والبحث عن المشترك الإنساني والمنافع المتبادلة.
ومثلما عانى المجتمع العراقي من العنف الداخلي والخارجي، وعاش حالات احتراب وصراع ونزاع داخلي وغزوات واحتلالات واختراقات خارجية، فإن أوروبا هي الأخرى عاشت مثل هذه الصراعات والنزاعات المسلّحة والحروب الأهلية والخارجية. يكفي أن نذكر مثالًا واحدًا وهو حرب الثلاثين عامًا (1618 – 1648) والتي انتهت بصلح ويستفاليا وكانت عبارة عن صراع دموي إقصائي إلغائي إبادي بين البروتستانت والكاثوليك راح ضحيّته عشرات الملايين من البشر، وقبله حرب اﻟ 100 عام. وكان مجرّد دعوة للاصلاح تفجّر نزاعًا مذهبيًا قد يستمر إلى خمسة قرون وهو ما حصل بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اللّوثرية ، حتى تمّ التوصّل مؤخرًا إلى اتفاق العام 2016 يقضي بترك شأن الخلاف للدراسات اللّاهوتية ولكتب التاريخ والبحث العلمي والانشغال بما هو مشترك، لاسيّما رسالة السيّد المسيح الجامعة.
سبق لي أن دعوت إلى ويستفاليا عربية أو ويستفاليا إسلامية، وإلى ترك الخلافات الطائفية والمذهبية للباحثين والمؤرخين والمشتغلين بالدراسات الدينية، وهذه مسؤولية علماء الدين ولا أقول رجال الدين، فليس لدينا في الاسلام إكليروس مثلما يوجد في المسيحية، إذ من واجب هؤلاء قبل غيرهم نبذ هذه الخلافات والتخلي عن محاولة إعادة التاريخ، بدلًا من استحضاره لأخذ الدروس والعبر منه، فكيف يصبح خلاف مضى عليه أكثر من 14 قرناً أمراً حاضراً، بل عامل نزاع وخلاف راهن.
أقول بثقة لا يمكن إصلاح أوضاع العراق والعالم العربي والإسلامي دون إصلاح المجال الديني، وهذا يعني إصلاح الفكر الديني ومن ثمّ الخطاب الديني، لتنقية الأجواء بنبذ العنف والتخلّي عن اللجوء إلى السلاح لحسم النزاعات التاريخية.
التاريخ مضى ولا يمكن إعادته ومن يتشبّث بذلك باسم الطائفة أو الدين أو العِرق أو غير ذلك، إنما يريد صبّ الزيت على النار لكي تبقى مشتعلة، ولكي تتحوّل ثقافة العنف إلى قدر مفروض، وبالتالي يصبح أصيلًا مع مرور الأيام، في حين أن الظروف والأوضاع التي مرّ بها العراق أكسبته ذلك، وما أن تتغيّر هذه الأوضاع وتُستبدل بدولة يحكمها القانون وتحترم مواطنيها ومواطنتها، فإن حالة العنف ستنحسر وتتراجع لصالح ثقافة اللّاعنف والتسامح والسلام.
* باعتقادكم ماهي الاسباب التي أسست و كرست لثقافة العنف في المجتمع العراقي؟
عبد الحسين شعبان: هناك كما أشرت أسباب داخلية وأخرى خارجية، فالخارج لعب دورًا كبيرًا في تعزيز حالات العنف والنزاع المسلّح. ولا نريد العودة البعيدة إلى التاريخ، فالعثمانيون حكموا العراق بالحديد والنار طيلة ما يزيد عن أربعة قرون تركوا خلالها آثارًا كبيرةً في الشخصية العراقية، فيها ردود الفعل العنيفة أيضًا، ثم جاء الاحتلال البريطاني للعراق الذي مارس عنفًا منهجياً ضدّ الشعب العراقي، الذي حاول مقاومته بالعنف أيضًا، وثورة العشرين خير دليل على ذلك، حيث أُغرقت بالدم.
وبعد تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، كان هناك عنفاً مقنّناً ضد الكرد والأشوريين وضدّ حركات الاحتجاج الفلاحية في ريف الفرات الأوسط وريف الجنوب، وشهد العراق عنفًا سياسيًا، فمنذ وقت مبكّر حدث انقلاب بكر صدقي في العام 1936، وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي، ثم جرت إعدامات الضباط الخمسة الذين شاركوا في حركة رشيد عالي الكيلاني العام 1941، وفيما بعد إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العام 1949 بسبب الرأي السياسي، وتعاظم العنف خلال فترة حلف بغداد 1955 مع إصدار عدد من القوانين الغليظة والمقيّدة للحريّات، فضلًا عن قمع انتفاضات ووثبات الشعب ضدّ السياسة الممالأة لبريطانيا، في العام 1948 (ضدّ معاهدة بورتسموث) وفي العام 1952 وفي العام 1956 انتصارًا للشقيقة مصر ضدّ العدوان الثلاثي الأنكلو- فرنسي "إسرائيلي".
واستمرّ العنف يتصاعد بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ضدّ أقطاب الحكم الملكي وضدّ القوى القومية التي وقفت موقفًا سلبيًا من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وانفلت العنف على مصراعيه في العام 1963 ضدّ الشيوعيين وفيما بعد ضدّ الحركة الكردية التي حاول قاسم قمعها منذ أيلول / سبتمبر العام 1961، وهكذا كان العنف الساسي ضدّ الخصوم السمة الأبرز في أنظمة العنف المتعاقبة في العراق الجمهوري، وباستثناء فترة حكم الأخوين عارف (نهاية العام 1963 ولغاية العام 1968) فإنها كانت الأقل عنفًا من سابقاتها ومن لاحقاتها في العهد الجمهوري، مع أنها استمرّت في سياسة الإقصاء بتحريم العمل السياسي وحصره ﺑ "الاتحاد الاشتراكي العربي".
والواقع فإن ما حدث من أعمال عنف وتجاوز على القانون، بل سنّ قوانين غاية في الغرابة وتخالف أبسط القواعد القانونية، بما فيها محاكم اعتبرت ثورية، كان في العهد الجمهوري في العام 1958 وفيما بعد انقلاب 1968، وخصوصًا في الفترة الثانية من الحكم أي بعد استقالة الرئيس أحمد حسن البكر في العام 1979، والتي امتدّ فيها العنف إلى دول الجوار، بإعلان الحرب العراقية – الإيرانية 1980 التي دامت ثمان سنوات، ثمّ مغامرة غزو الكويت العام 1990 وما أعقبها من حرب قوات التحالف لتدمير العراق وفرض حصار دولي جائر عليه استمرّ 12 عاماً.
ثم جاء الاحتلال الأميركي للعراق 2003 وما أعقبه من عنف منظّم ومبدّد لمقاومة المحتل من جهة ولنشر الإرهاب من جهة أخرى، حيث تمكنّت التنظيمات الإرهابية من بسط سيطرتها على مناطق شاسعة من العراق، فبعد تنظيم القاعدة الذي قاده أسامة بن لادن، جاء دور تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) الذي احتلّ الموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية العام 2014، وكذلك نحو ثلث الأراضي السورية واختار الرقّة عاصمة له.
تلك هي أسباب موضوعية لنشر ثقافة العنف وتكريسها، وهناك أسباب أخرى ذاتية، فتدنّي الوعي وشحّ فرص الحريّة والوضع الاقتصادي المتدهور والحروب التي عاشها العراق والنزاعات المسلّحة والقمع الذي تعرّض له تاريخيًا والانقسامات الطائفية والإثنية التي تم تغذيتها خارجيًا وإنعاش ما في خزانة الكتب القديمة من أسباب للخلاف الطائفي والقومي، كلّ ذلك لعب دورًا كبيرًا في سيادة العنف، بل والتغنّي به باعتباره الأسلوب الأمثل لنيل الحقوق والزعم بالوصول إلى الحقيقة والتغيير من خلاله.
* قلتم ان "الثقافة هي السلاح الأمضى في مواجهة التسلط والاستبداد واللاّمساواة"، هل تصدت الثقافة في العراق للتسلط والاستبداد السائد منذ عقود طويلة؟
عبد الحسين شعبان: نعم، الثقافة هي السلاح الأكثر تأثيرًا وعمقًا في الترويج لقيم الحرية والسلام والعدالة والمساواة والشراكة والمشاركة، وهي قيم مثلَ المواطنة السليمة والحيوية، وهو ما نحتاجه في مجتمعاتنا. وستبقى بلداننا تعاني من العنف طالما تغيب عنها تلك القيم التي ينبغي وضعها في إطار منظومة قانونية متكاملة ومترابطة عضوياً.
والأمم المتقدّمة والتي سارت في طريق التنمية المستدامة وتخلّصت من العنف داخليًا على أقل تقدير هي التي اعتمدت مبادئ المواطنة وقيمها الإنسانية بعيدًا عن التمييز لأي سبب كان ديني أم قومي أم جنسي أم لغوي أم سُلالي أم اجتماعي أم لأي سبب آخر.
الثقافة كانت رقمًا صعبًا وخصمًا عنيدًا للاستبداد، لذلك حاولت الأنظمة المستبدّة تطويعها وترويضها وتدجينها، بالإغراء أو بمقص الرقيب أو بالسجن أو بكاتم الصوت أو بالمنفى، وحتّى من ظلّ صامتًا ظلّ يقاوم بالصمت، وأظن أن شخصًا مثل حسين جميل المثقّف الليبرالي الحرّ والفقيه القانوني الأبرز، اضطرّ إلى الصمت لما يزيد عن عقدين من الزمن، وكان صمته بليغًا وفعل مقاومة مؤثّر، في حين هناك من اختار المنفى وهم عشرات من المثقّفين الكبار أمثال الجواهري، عبد الوهاب البياتي، سعدي يوسف، مظفّر النوّاب، هادي العلوي، حسن العلوي، شمران الياسري (أبو كاطع)، محمود صبري، علي الشوك، بلند الحيدري، محمد بحر العلوم، ناهدة الرمّاح، وزينب وعشرات غيرهم. ولعلّ مجرّد ذكر مثل هذه الأسماء يعني ثمّة موقف من جانب المثقفين الذين حاولوا من خلال ثقافتهم وإبداعهم الترويج لقيم الحريّة والجمال والعدل، بالضدّ مما كانت تريده السلطات الحاكمة.
* كرستم جزء من أطروحاتكم لمفهوم ان "الإرهاب نقيض الثقافة، لأن الثقافة تقوم على المعرفة، والمعرفة قوة وسلطة"، لكن الارهاب شاع حتى في المجتمعات الغربية المتعلمة؟
عبد الحسين شعبان: كتبت عموداً صغيراً بعد اغتيال الشيخ الجليل حسين مروّة الشخصية اللبنانية الشجاعة العام 1987، أشرت فيه إلى أن ما يوحّد المثقفين هو قيم الحريّة في مواجهة القتل والجريمة والاستلاب، وكان مهدي عامل قد ألقى كلمة على قبر استاذه مروّة مخاطبًا جمعنا الثقافي بقوله: إذا كانت الثقافة لا توحّدنا فأي شيء سيوحّدنا في مقاومة الظلم والعنف والاغتيال. ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحيّة الثانية بعد مروّة. وهكذا يستمرّ مسلسل القتل والاغتيال للرموز الثقافية ليس عبثًا أن يقوم المحتل الأميركي باغتيال نحو 1000 شخصية ثقافية وفكرية وأكاديمية وعلمية في العراق بعد الاحتلال، وأن يغادر الوطن عشرات الآلاف من العلماء والأكاديميين والاختصاصيين بسبب موجة العنف والإرهاب التي تفشّت في المجتمع العراقي واستشرت إلى حدّ كبير وتداخل فيها عنف المحتل مع عنف الجماعات المسلحة وتحت مسمّيات مختلفة.
وتبقى ثقافة السلام هي الحصن الأكبر في مواجهة ثقافة العنف والإرهاب، ولذلك يراهن الطغاة والغلاة والغزاة على كسب معركة الثقافة قبل كسب الجماعات السياسية.
وإذا كانت بعض مظاهر الإرهاب قد شاعت في الغرب، فإنها حالات محدودة، لأن ثمة قوانين رادعة، إضافة إلى ثقافة أساسها احترام الآخر والقبول بالتنوع والإقرار بالتعدّدية، فضلًا عن حرية التعبير التي تشكّل مرجعًا أساسيًا لأي دستور غربي وتطبيقاته والرقابة عليه في إطار المسؤوليات القائمة، وذلك بحدّ ذاته يشكّل ضمانة لاستمرار قواعد التعايش السلمي والعيش معًا في إطار المشترك الإنساني وحكم القانون.
وإذا كانت نزعات شعبوية وعنصرية واستعلائية قد انتعشت في الغرب في العقد ونيّف الماضي، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإلى حدّ ما بريطانيا وتاليًا في النمسا وتشيكيا وبولونيا وهنغاريا وهولندا وبعض دول اسكندنافيا، ناهيك عن الولايات المتحدة بصعود الرئيس دونالد ترامب إلى دست الحكم، فإن الثقافة السائدة والتي تضمن الحقوق تشكّل عنصر تحدٍّ ومقاومة لمثل تلك النزعات الضيقة، التي بعضها جاء إثر الأوضاع المعيشية المتدنية في أوربا، خصوصًا بفعل انتشار وباء كورونا أو بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وقبل ذلك ضدّ اللّاجئين، وخصوصًا بعد الأزمة السورية أو ضدّ الجماعات الإرهابية التي حاولت استثمار بعض عوامل السخط لتجنيد إرهابيين من بعض البلدان الغربية.
الشرعية لأي نظام تقوم على رضا الناس وتحقيق مكاسب ومنجزات لهم. أمّا المشروعية فتأتي من حكم القانون، وإذا ما سارت الشرعية بخط موازٍ للمشروعية، فإن ذلك قمّة ما يطمح إليه أي مشروع ثقافي أو فكري أو سياسي. ولذلك ليس عبثًا أن يتمّ الاشتغال على الثقافة بما يؤثّر على وعي الناس.
* هل تعتقدون ان التطرف الديني، وجزء منه الاسلام السياسي، هو من تسبب بإشاعة العنف، ام الممارسات السياسية للأحزاب، في العراق مثالا، هي من تسببت بذلك؟
عبد الحسين شعبان: التطرّف ابن التعصّب، وإذا ما انتقل التعصّب من التفكير إلى التنفيذ، يصبح عنفًا لأنه سيكون سلوكًا، والعنف حين يضرب عشوائيًا يصير إرهابًا، وإذا ما كان عابرًا للحدود، لإضعاف ثقة المواطن والمجتمع بالدولة وثقة الدولة بنفسها وبالنظام الدولي، يتحوّل إلى إرهاب دولي.
والتعصّب ووليده التطرّف لا ينحصرا بالدين والأديان والمتديّنين، فجميع الأحزاب الشمولية هي أحزاب إلغائية وإقصائية وتهميشية للآخر تزعم امتلاكها للحقيقة وتتصرّف باعتبار هذه الأخيرة تميل معها حيثما تميل، بل إن لها أفضليات على الآخر كما تزعم، لهذا تبرّر لنفسها ارتكاب المعاصي السياسية بما فيها أعمال العنف بادعاء أن أهدافها تعطيها مثل هذا الحق طالما كانت الحقيقة معها والأفضلية لها، ولهذه الأسباب عاش العراق الجمهوري إقصاءً مضادًا. الكل يقصي الكل، وهكذا.
بعد العام 1958 كان الزعم السائد، إن من يقف ضدّ الثورة فهو رجعي ومعادي ومشبوه، وهكذا أقصينا القوميين والبعثيين وهم الشركاء في جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست العام 1957 وشاركوا في التحضير للثورة، وتحت هذه الذريعة برّرنا ارتكاب بعض المجازر في الموصل وكركوك العام 1959، وحتى اليوم لم نقدّم نقدًا ذاتيًا جريئًا لذلك، وبعد العام 1963 أصدر البعثيون بعد انقلاب 8 شباط الدموي البيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين، وقُتل في مقرّات الحرس القومي العشرات بل المئات، فضلًا عن تعذيب عشرات الآلاف، وكلّ ذلك تمّ بدم بارد وبزعم أنهم يمتلكون الحق في ذلك وأن الحقيقة معهم، ولهم الأفضلية، ووصموا الآخرين بالأعداء وحاولوا النيل منهم بشتّى التهم.
وحين أطيح بنظام البعث الأول بانقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، تقرّر قيام تنظيم واحد باسم "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وتحريم وتجريم التنظيمات السياسية الأخرى، كما جرت الإشارة إليه.
وبعد انقلاب 17 تمّوز / يوليو 1968 وإن شهدت البلاد فترة هدنة وتمّ الاتفاق مع الكرد على بيان 11 آذار / مارس 1970 لحل القضية الكردية، وفيما بعد مع الحزب الشيوعي على عقد جبهة وطنية 1973، لكن الانفراد بالحكم والاستحواذ على مقاليد الأمور وادعاء الأفضليات ساد بالتدرّج، حتّى شنّت الحرب على الكرد ونُحيَ الحزب الشيوعي وحورب منتسبوه، وكانت أكبر الحملات ضدّ حزب الدعوة الإسلامي والحركات الإسلامية التي اتُهمت بأبشع التهم.
وحين وصل الإسلاميون إلى دست الحكم أقصوا خصومهم، وخصوصًا من النظام السابق، وكان بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق 2003 – 2004 قد أصدر قانون إجتثاث البعث الذي ما يزال ساريًا تحت اسم "قانون المساءلة والعدالة"، والذي يحرّم العمل السياسي لمن انتسب إلى حزب البعث ضمن رتبة تنظيمية معيّنة.
وهكذا لم يستفد الجميع من التجربة التاريخية، فالعقيدة لا تقاوم بالعنف والإرهاب وإنما بالعقيدة، والحجّة لا تقرع إلّا بالحجة، والرأي بالراي والموقف بالموقف وهكذا.
أعتقد أن ثقافة التعايش والاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية ما تزال غائبة، بل إن الزعم بامتلاك الحقيقة والأفضليات هو السائد والمترسّخ في الثقافة الرسمية، ومثل هذه الثقافة هي تفتيتية متعصّبة ومتطرّفة ولا تستطيع بناء دولة يحكمها القانون في ظلّ مواطنة متكافئة وسليمة.
فالتنظيمات الإرهابية قامت على التعصّب، وكلّ متطرّف لا بدّ أن يكون متعصّبًا، وحين يتحول التطرف، وهو ابن التعصّب، إلى سلوك يصير عنفاً وهذا الأخير حين يضرب عشوائيًا يتحوّل إلى إرهاب وإرهاب دولي.
* ألا تعتقدون انه يجب ان تكون ثقافة السلم المجتمعي كجزء من المناهج الدراسية في العراق؟
عبد الحسين شعبان: نعم، التربية عنصر مهم، فالتربية على ثقافة اللّاعنف وتكييف المناهج الدراسية للترويج لقيم السلام والتسامح والتفاهم والتعايش والمشترك الإنساني مسألة في غاية الأهمية.
صحيح أن العنف لن ينتهي اليوم أو غدًا، لكن التراكم يؤدي إلى تعزيز ثقافة اللّاعنف والبدء من المراحل الدراسية الأولى، الإبتدائية والمتوسطة ووصولاً إلى الجامعة أمر مهم جدّاً، ويحتاج ذلك إلى جهود كبيرة وتدريب وتأهيل للمعلمين والمشرفين التربويين والمعنيين بالإدارات المدرسية، إضافة إلى النشاط اللّاصفي الاجتماعي، ولاسيّما بتشجيع أسر التلاميذ والطلبة على المشاركة فيه.
وأريد أن أشير هنا إلى أن يوم ميلاد الزعيم الهندي المهاتما غاندي ( 2 تشرين الأول / أكتوبر 1869) يُعتبر يومًا عالميًا للّاعنف يتمّ الاحتفال به على المستوى الكوني بقرار من الأمم المتحدة، وحبّذا لو تولّت الدولة العراقية الاحتفال الرسمي في هذا اليوم وأقامت فعاليات فنية وثقافية تخليدًا لدوره في المقاومة السلمية المدنية اللّاعنفية، وكذلك لإحياء وتعزيز ثقافة اللّاعنف.
وعلينا أن نفتش في تاريخنا العربي والإسلامي عن أمثلة وممارسات لتجارب لاعنفية نحن بحاجة إلى نشرها والاستفادة منها كجزء من تراثنا العربي - الإسلامي. وأشير هنا إلى أهميّة حلف الفضول 595 ﻡ حين اجتمع فضلاء مكّة في دار عبد الله بن جدعان وقرّروا أن لا يدعو أحدًا من أهلها ومن سائر الناس أي (مواطنًا أو من دخلها أجنبيًا) إلّا وأعادوا الحق إليه ونصروه على ظالمه، وهي تجربة عن العدالة وحقوق الإنسان. وحين سُئل النبي محمد (ص) عن حلف الفضول "الجاهلي" ، قال لو سئلت عنه في الإسلام لأجبت أي لوافقت عليه، وحين ألغى الرسول الكريم جميع أحلاف الجاهلية أبقى على حلف الفضول.
كنت وما أزال أدعو إلى اعتبار حلف الفضول "أول رابطة لحقوق الإنسان على المستوى الكوني"، وخلال العقود الثلاثة المنصرمة قمنا بجهد مشترك مع الدكتور جورج جبور لمخاطبة الأمم المتحدة للاعتراف به كوثيقة من الوثائق التاريخية لحقوق الإنسان، وجاء في رسالة للأمين العام للأمم المتحدة 2008 إشارة مهمّة إلى حلف الفضول.
* باعتقادكم ما هي السيناريوهات المقترحة لحل ما يسمى بـ"الانسداد السياسي" في العراق؟
عبد الحسين شعبان: الأزمة السياسية الحالية في العراق هي جزء من أزمة مستفحلة منذ الاحتلال الأميركي، وهي أزمة بنيوية عضوية مركّبة، أي أزمة إدارة وأزمة ممارسة وأزمة فكر بالدرجة الأساسية. فالإدارة ليست لها تجربة أو معرفة بآليات عمل الدولة، وغالبيتها السابقة لم تتعرّف على ميكانزمات عمل الدولة ودواوينها، بل إنها لم تستعن بخبراء ومجرّبين عملوا في هذه المواقع، وقسم كبير من هؤلاء تمّ إقصائهم وإبعادهم أو إجتثاثهم.
أما الممارسة السياسية فهي مزاجية وأنانية حزبوية طائفية وإثنية ضيّقة وأحيانًا متداخلة مع قوى خارجية، سواء المحتل الأميركي أو النافذ الإيراني الطويل الذراع، وأحيانًا التركي، إضافة إلى أجندات بعضها خفية، وهي ذات مصلحة أنانية ضيّقة وقصيرة النظر، ولا علاقة لها ببناء الدولة. وظلت القوى المهيمنة على الدولة تتصرّف بعقلية المعارضة، بل أن بعضها استمرّ بالأسماء المستعارة.
وإذا عدنا إلى الفكر، فالنظام بعد العام 2003 ظلّ يترنّح بين التشدّد والانفتاح وبين القطاع العام والقطاع الخاص، وأحيانًا يجمع بينهما تحت سقف واحد أو ينامان في سرير واحد وهما على عداء وتعارض في فلسفتهما.
ولم تستطع الدولة خلال المدّة المنصرمة من وضع استراتيجية واضحة، بل ظلّت تتخبّط في ميدان التنمية، وتدهورت الخدمات إلى درجة مريعة في ميادين التعليم والصحة والكهرباء والماء والبيئة والبلديات والتجارة والصناعة والزراعة. وأهملت البنية التحتية المهترئة والمتهالكة، ولا توجد مشاريع يُشار إليها بالبنان في العراق، فهذه البصرة ثغر العراق والمنتج الأساسي للنفط وسلّة الغذاء في الماضي وفينيسيا الشرق، تعاني من شحّ المياه وشظف العيش وتدهور الخدمات وغياب هيبة الدولة، ونسمع يومياً عن الصراعات العشائرية المسلّحة، فضلاً عن التداخلات الخارجية.
قد تصل الجماعات السياسية بعد انسحاب جماعة السيّد مقتدى الصدر، وهي جماعة مؤثّرة في المشهد السياسي وحازت على 73 مقعدًا في البرلمان، إلى اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ومجموعة السيادة، لكن مثل هذا الاتفاق سيكون محفوفًا بالمخاطر إذا تحرّك الصدر ونزل إلى الشارع. وقد يؤدّي مثل هذا التحرّك إلى إعادة تشرين بروح جديدة، خصوصًا بقيادة معلومة، الأمر الذي سيربك العملية السياسية، بل وسيضعها على كفّ عفريت.
وهناك احتمال أن يعود الصدر عن قراره وأن يتولّى إعادة قيادة المشهد بالاتفاق مع خصومه هذه المرّة من الشيعيّة السياسية أو بعضهم لتشكيل الحكومة. وأي كان السيناريو الغالب، فالأزمة مستمرّة، بل أنها ستتعاظم مع استمرار نظام المحاصصة وتوزيع المناصب دون اعتبار للكفاءة والوطنية، ناهيك عن استمرار انفلات السلاح وغياب استراتيجية واضحة للدولة في مجال التنمية.
أما السيناريو البعيد المدى، فحسب الدراسات المستقبلية هناك ثلاث احتمالات؛
الأول – أن يستمرّ الوضع يراوح في مكانه، خطوة إلى الأمام ... خطوتان إلى الوراء، بل ثلاثة أو أربعة خطوات إلى الخلف، وقد يستغرق الأمر حقبة زمنية قد تمتد إلى عقد من الزمن، حتى تتكشّف معالم الأزمة، بل تنفجر.
الثاني – أن يتدهور الوضع أكثر فأكثر، منذرًا بحرب أهلية، بل حروب أهلية: شيعية – شيعية، كردية – كردية، وسنية – سنية، وهي حروب قائمة أو مستترّة أو غير معلنة، لكن مجرّد إشعال الفتيل يمكن أن يتحرّك الجميع كلّ من موقعه للحصول على مناطق النفوذ، وسيكون الصراع كذلك: عربيًا – كرديًا، وكرديًا – تركمانيًا، وخصوصًا في كركوك ومناطق أخرى، وكردياً – أشورياً، في الموصل وسهل نينوى، وشيعياً – سنياً في بغداد وضواحيها وديالى والحلّة والبصرة ومناطق أخرى.
ولو حصل الامر لا سمح الله فالجميع سيكون خاسراً، بل إن العراق والشعب بجميع فئاته وقومياته هو الخاسر، ولن يستفد من ذلك سوى أعداء العراق والمتربصين بوحدته ومستقبله.
الثالث – أن يتحسّن الوضع، خصوصاً إذا وصل الجميع إلى طريق مسدود وشعروا أن ما حصلوا عليه سيكون مهدّداً وأن المخاطر قد تطالهم، ولذلك يمكن إعادة النظر وبالتدرّج بأصل قيام العملية السياسية التي تأسست مع الاحتلال. ونقطة البدء في ذلك توفّر إرادة سياسية موحّدة أو من القوى الأساسية، للاتفاق على مشروع سياسي جديد، ويتطلّب ذلك إعادة النظر بالدستور لأنه أُس المشكلة ومنبع الصراع الأساسي بوجهه القانوني.
روداو