التكامل بين القومي والوطني في تجربة كوردستان العراق
صلاح بدرالدين
الدرس الأول في مسيرة الحركة القومية الكوردية منذ ظهورها وحتى الان يتلخص بالمقولة التالية : ( لانني قومي فانا وطني ) ، ولم يكن مستغربا ان الصراع السياسي الأول الذي نشب في صفوف الحركة في بدايات القرن العشرين ، وفي ظل الإمبراطورية العثمانية كان بين ماسمي بتياري – الاستقلاليين والاوتونوميين – أي بين من طالب باستقلال كوردستان ( العثمانية ) ، وانشاء الدولة الكوردية من جهة ، وبين من رأي احقية الاستقلال ولكن ان من مصلحة الكورد نيل الحكم الذاتي او الفيدرالية أولا ،لان الظروف الموضوعية والذاتية لاتتحمل اكثر من ذلك ، وكان هذا الشكل من الصراع ناشبا في العديد من الحركات القومية للشعوب الرازحة تحت النير العثماني ، وخصوصا في البلدان العربية .
وقد اثبتت الاحداث ، والتطورات المحلية ، والإقليمية ، والدولية فيما بعد ان القوى السائدة بالمنطقة ، وكذلك المجتمع الدولي ، لم يكن مستعدا حتى بقبول الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للكورد ، وهذا ماتوضح بجلاء في بنود اتفاقية سايكس – بيكو ( الفرنسية – البريطانية – الروسية القيصرية ) ، ومعاهدة لوزان ، وسائر التفاهمات الدولية الغربية ، والشرقية الى يومنا هذا .
مسألة موضوعية ، وقيمة البعد الوطني للحركات القومية الكوردية ، لاتنبعان من رغبات ذاتية ، او مفاهيم فكرية ، او مواقف سياسية عابرة بل هو واقع جيوسياسي يعيشه الكرد جيلا بعد جيل ، واطار. دستوري ، قانوني يجمع الكوردي بالعربي ، والتركي ، والإيراني وغيرهم في اطر دول وكيانات معترف بها دوليا ، وحدود مرسومة مثبتة في وثائق الهيئات الدولية ، تحرسها جيوش ، وتحرص عليها الارادة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
بطبيعة الحال كل ذلك لايعني ان مارسم ، وبني من دول ، وماتم من تجاهل لشعوب ، واقوام ، وما قسمت من اوطان الشعوب الاصلية مثل الشعب الكردي كان بمسار صحيح ، او متوافقا مع مبدأ حق تقرير مصير الشعوب ، وحتى مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة ، وشرعة حقوق الانسان .
ولابد من الإشارة هنا الى ان البعد الوطني للحركة القومية الكوردية ، يبقى العامل الأهم في مختلف اشكال حل القضية الكردية من الكونفيدرالية الى الفيدرالية ، الى الحكم الذاتي ، مرورا بالادارات المحلية ، والذاتية ، وحتى في حالة الاستقلال الناجز حيث يحل عامل العلاقات الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، مع الدول ، والشعوب المحيطة مكان البعد الوطني وكشكل متطور عنه .
القومي والوطني في تجربة كردستان العراق
منذ بدايات التحركات ذات الطابع القومي في كوردستان العراق ، كان البعد الوطني واضحا ، ففي عريضة المطالب التي قدمها الشيخ عبد السلام بارزاني والتي يعتبرها المؤرخون باكورة التحرك القومي لنيل الحقوق ، تطرقت الوثيقة الى ماهو مطلوب في مسالة الوضع القانوني لكورد العراق ، وتفاصيل العلاقات مع المركز الحاكم ، والبنية الدستورية لشكل العلاقة المتبادلة للكورد ضمن الكيان العراقي الوطني .
وفي جميع اشكال الكفاح الذي واصل البارزانييون وسائر أطياف شعب كردستان ممارسته من مواجهات مسلحة ، ونضال سياسي ، كان البعد الوطني العراقي يتصدر تطورات الحركة القومية الكوردية ، وتجلى ذلك في المعارك الدامية ضد المعتدين من جنود الاستعمار البريطاني ، ثم جيوش النظام ، والحكومات المتعاقبة على سدة الحكم ببغداد ، وكذلك في مضمون المباحثات ، مع الجانب الحكومي ، منذ العهد الملكي ، مرورا بعهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، وحقبة تسلط البعث ، وحتى اسقاط نظام صدام حسين ، والى يومنا هذا ، فقد كان الشعار الرئيسي لثورة أيلول ( الديموقراطية للعراق ، والحكم الذاتي لكوردستان ) ، أي اعتبار البعدين الوطني ، والقومي ، متكاملين بالضرورة ، فلا حل للقضية الكوردية الا بتوفر الديموقراطية ، والتوافق الكوردي العربي .
لاشك ان زخم البعدين القومي ، والوطني لم يستقرا على نسق واحد ، فقد جاءت ظروف كانت الحركة الوطنية الديموقراطية العراقية تجتاز ظروفا صعبة في ظل الدكتاتورية ، والاستبداد ، وتتعرض الى التنكيل ، والقمع المنظم ، وكانت الحركة التحررية لشعب كوردستان تثور في وجه الطغيان ، وتمارس الثورة ، وحروب الأنصار ، وتحول كردستان الى موئل ، وملاذ للمعارضة العربية العراقية بمختلف اطافها ، وفصائلها ، وفي ظل تلك الأوضاع كان التوازن الإيجابي بين القومي ، والوطني سائدا .
بالمقابل وفي مرحلة انتكاسة ثورة شعب كوردستان آذار عام ١٩٧٥ خلال اتفاقية الجزائر بين شاه ايران ، ودكتاتور العراق ، بوساطة دكتاتور الجزائر هواري بومدين ، وسكوت أمريكا والمجتمع الدولي ، وعندما تراجعت حركة شعب كوردستان ، كان لذلك التاثير السلبي على النضال الوطني والديموقراطي العراقي ، واختل التوازن لصالح الدكتاتورية ، الى حين إعادة ماتهدم ، وصعود الحركة من جديد مما أعاد الحياة للمعارضة العراقية من جديد ، ووحدت قواها مع الحركة الكوردية ، وحققت الانتصار بسقوط الدكتاتور عام ٢٠٠٣ ، وتمت إعادة التوازن الى البعدين القومي والوطني ، مما نتج عنه نظام فيدرالي ، ودستور متوافق عليه بين سائر المكونات العراقية .
حتى في ذروة المطالبة باجراء استفتاء تقرير المصير ، الذي دعا اليه واجراه الزعيم مسعود بارزاني ، كان البعد الوطني العراقي حاضرا بقوة ، بل ان رفع الصوت عاليا من كوردستان ، كان موجها لبغداد بالأساس من اجل إعادة النظر في مفهوم شوفيني موروث من العهود الماضية ، يتناسىى مبدأ حق تقرير مصير شعب كوردستان ، ويتجاهل استحقاقاته الدستورية ، ومستحقاته فيي السلطة ، والثروة ، والقرار ، ويطالب بإزالة الخلل ، وعودة علاقات المشاركة الحقيقية قولا وعملا ، وكانت رسالة واضحة المعالم مفادها : نحن وطنييون عراقييون الى درجة الشراكة في الحاضر ، والمصير ، وكوردستانييون الى حدود تقرير المصير .
هناك وفي تجربة الحركة القومية الكوردية ، ومجمل مسار شعب كوردستان العراق بمختلف قومياته ، واطيافه ، دروس في غاية الأهمية لكل اطراف الحركات القومية الكوردية ، تؤكد على تكامل البعدين القومي ، والوطني ، وعلى ضرورة اجراء التوازن الدقيق بين الجانبين بمزيد من المرونة ، والاعتدال ، وماالنجاحات التي يحققها – الحزب الديموقراطي الكوردستاني – العراق – على الصعيدين الكوردستاني ، والعراقي ، الا ثمرة من ثمار ذلك النهج السليم الذي تسير عليه القيادة منذ ثورة أيلول وحتى الان في مجال التعاطي الموضوعي مع البعدين القومي ، والوطني .
ان النهج السليم لمسيرة نضال الاشقاء في كوردستان العراق بخصوص التعامل مع البعدين القومي ، والوطني ، من شأنه أيضا تصحيح مسار العلاقات القومية بين الإقليم ، والاجزاء الأخرى ، نحو المزيد من التنسيق ، وتبادل الخبرات ، والتجارب ، وايلاء البعد الوطني لكل جزء الاهتمام اللازم ، والتقدير الكامل لدوره ، في حل القضايا الكوردية في كل بلد ، كما ننظر بالاحترام الى الدور الوطني على مستوى العراق للاشقاء في الإقليم .