بغداد واربيل.. عام حافل بالتفاهمات والتقارب والدور الاقليمي للعراق
ان العام 2021 حافلا في أحداثه ما بين بغداد واربيل، ما بين السياسي والأمني والاقتصادي، بالاضافة الى الديني والذي تمثل بزيارة البابا فرانسيس، وفي تفعيل دور العراق خارجيا واقليميا، بالاضافة الى تجديد الحياة السياسية من خلال انتخابات العاشر من اكتوبر/تشرين الاول، وما اضفته من حيوية اضافية على العمل الحزبي برغم الكثير من التوترات والمناكفات الداخلية.
ولعل من المحطات المهمة في أحداث العام 2021 تلك الزيارة التي قام بها رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني الى بغداد في 11 نيسان/ابريل، في اطار جهود من جانب بارزاني ل"إنهاء المشاكل" القائمة بين بغداد واربيل وتعزيز الانفراج بين الطرفين، وذلك بعد ايام فقط على اقرار البرلمان العراقي الموازنة بعد شهور من التعثر والتوترات، والذي اتاح عودة تدفقات الحقوق المالية الى الموظفين في اقليم كوردستان.
واذا كانت القمة الثلاثية التي نظمها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في حزيران/ يونيو الماضي وجمعته مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والملك الاردني عبدالله، استقطبت اهتماما واسعا على مستوى المنطقة، فان القمة الاقليمية-الدولية التي استضافها لاحقا في شهر آب/اغسطس، بمشاركة زعماء وممثلي دول عربية بالاضافة الى تركيا وايران وفرنسا، شكلت نقلة نوعية في الدور العراقي على الساحة السياسية الخارجية، عززتها المحادثات السرية التي كانت ترعاها بغداد منذ الربيع الماضي، بين الخصمين الإقليميين، السعودية وايران، لرأب الصدع بينهما، بما يؤمل ان ينعكس ايجابا على المصالح العراقية.
لكن العراق واقليم كوردستان، ظلا يعانيان من تفشي وباء كورونا طوال العام 2021، مع موجات مد وجزر للفيروس، من دون ان يبلغا مرحلة الحصانة المجتمعية من خلال رفع نسبة الملقحين ضد الوباء. وبشكل مشابه، ظل العراق واقليم كوردستان تحت خطر ارهاب داعش الاخذ بمحاولات توسيع جرائمه التي يوزعها يمنة وشمالا مستغلا الثغرات الامنية القائمة ما بين حكومتي بغداد واربيل، موقعا العديد من الضحايا، وهو ما فرض حتمية اللقاء بين الطرفين اللذين قاما بتفعيل ادوارهما العسكرية المشتركة، ما شكل بارقة امل طال انتظارها، لاحتواء الخطر.
ولم تكن زيارة البابا فرانسيس في اذار/مارس، حدثا عاديا، لا على المستوى العراقي ولا الدولي، بما يمثله العراق من مهد للحضارات البشرية والديانات، وهو كان بدأها في الخامس من الشهر، حيث اعدت له مراسم ترحيب حارة من الكاظمي والرئيس برهم صالح، ثم التقى الاساقفة والكهنة في كنيسة "سيدة الخلاص". وكانت هذه الزيارة البابوية الاولى للحبر الاعظم الى العراق.
وتميزت الزيارة البابوية بلقائه في اليوم التالي مع المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني في النجف، ثم زيارته الى مدينة أور التاريخية التي تضم بيت النبي ابراهيم، كما اجتمع بشخصيات دينية من مختلف الطوائف، واحيا قداسا في كاتدرائية "القديس يوسف" الكلدانية في بغداد.
وفي مشهد جامع للمعتقدات والقوميات، انتقل البابا في 7 مارس الى اربيل، والتقى نيجيرفان بارزاني والزعيم التاريخي مسعود بارزاني، بالاضافة الى مختلف القيادات السياسية الكوردية والدينية، وحضر بعدها مراسم الصلاة على ارواح ضحايا الارهاب في مدينة الموصل، ثم توجه بعدها الى قرقوش وزار كنيسة الطاهرة، قبل ان يعود الى اربيل مجددا لحضور قداس شعبي، ويغادر في اليوم التالي من بغداد الى روما بعد حفل وداع رمزي في ختام زيارة نالت اهتماما عالميا استثنائيا حول دور العراق وحضوره. لكن البابا خص اقليم كوردستان بتصريح لافت عندما قال خلال لقائه مسعود بارزاني، انه لم ينس كوردستان الذي اصبح بيتا وملاذا آمنا للمسيحيين.
وظلت العلاقات بين بغداد واربيل تحت أنظار المراقبين والسياسيين خلال العام 2021 والتحولات التي جرت فيها او المأمول حدوثها. ولعل موقف حكومة اقليم كوردستان عبر عن ذلك بشكل رسمي من خلال موقعه الالكتروني الرسمي اذ يحدد بوضوح ان هدفه اقامة "شراكة بنّاءة وراسخة مع بغداد مبنية على أساس الاحترام المتبادل والتعاون الهادف. ويشمل ذلك فهماً واضحاً لحقوق وواجبات الطرفين".
وتقول حكومة اقليم كوردستان "نحن نشترك بمجموعة من المصالح المتبادلة مع بغداد لاسيما تلك التي تتصل بالتجارة وأمن الحدود والازدهار الاقتصادي لمواطنينا. لا يمكن تحقيق هذه المصالح إلا من خلال الشراكة وليس التنافس المستمر. هناك مشكلات شائكة تحتاج إلى حلول، وهذه الحكومة ملتزمة بإيجاد سبل جديدة للحوار"، داعية الى "تنحية النزاعات الماضية جانبا، مقابل تطوير سبل جديدة للتحديات المشتركة"، مضيفة ان الدستور سيكون "هو الفيصل للمفاوضات مع بغداد، والتي سيقودها فريق مفاوض رفيع المستوى من حكومة إقليم كوردستان".
وتلفت حكومة كوردستان بشكل محدد الى قضايا مثل مخصصات الموازنة السنوية، وتقاسم موارد النفط والغاز، والتعاون العسكري والأمني، والمناطق المتنازع عليها، والتعاون السياسي، وتعويض ذوي الشهداء وضحايا الأنفال والمتضررين من الانظمة السابقة.
وفي 31 مارس/آذار، اعلن العراق بعد شهور من الجدل والتعطيل التي عقدت المشهد السياسي، اقرار الميزانية، حيث رفع البرلمان حجم الموازنة العامة لعام 2021 إلى أكثر من 101 ترليون دينار عراقي (نحو 69 مليار دولار)، بارتفاع عن تقديرات الحكومة التي بلغت 96 ترليون دينار عراقي، حيث احتسبت الحكومة سعر برميل النفط على اساس 42 دولارا للبرميل الواحد ومعدل تصدير قدره 3.25 مليون برميل يوميا، لكن البرلمان احتسبه بسعر يصل إلى 45 دولارا.
وفيما يتعلق باقليم كوردستان فقد حددت الموازنة للاقليم دفع 250 ألف برميل يوميا على الاقل من انتاج حقول النفط في الاقليم الى حكومة بغداد لتصديرها مقابل دفع رواتب الموظفين العامين في الاقليم.
وبعدها بأيام، وتحديدا في 11 نيسان/ابريل، حط نيجيرفان بارزاني في بغداد لاعطاء هذه الانفراجة فيما يتعلق بالميزانية، زخما اضافيا، حيث التقى الرئاسات الثلاثة وقادة حزبيين، في محاولة جديدة لانهاء الخلافات العالقة بين الطرفين، خاصة تثبيت حق الاقليم في الميزانية، بالاضافة الى تطبيع الاوضاع في سنجار، والوضع الامني والتحديات الصحية المتمثلة بوباء كورونا وتأمين اللقاحات.
وبحسب بيان لمكتب الكاظمي وقتها، فإن الطرفين تناولا "عددا من الملفات التي تصب في مجال التعاون والتكامل بين مؤسسات الدولة في الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كوردستان، وفق ما أطره الدستور". كما اكد الكاظمي على "ضرورة تعزيز التكامل الامني بين بغداد واربيل بالشكل الذي يحقق الاستقرار الداخلي، ويمنع حدوث أي فجوة يمكن أن يستغلها الارهاب او الجريمة المنظمة، في المناطق المتنازع عليها أو غيرها".
وقبل مجيئه الى بغداد، كان نيجيرفان بارزاني زار باريس قبلها بأيام حيث اجرى محادثات تعكس الصداقة الخاصة بينه وبين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وهو كان اعلن انه بعد عودته سيطلع القيادات في بغداد واربيل على مضمون محادثاته الفرنسية.
وجاء خبر سعيد آخر بالنسبة الى حكومتي بغداد واربيل في 16 حزيران/ يونيو عندما اعلن عن قرار مجلس الوزراء العراقي صرف حصة الاقليم من الميزانية العامة للعام 2021، ما شكل صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين، حيث تقرر "صرف مبلغ شهري قدره 200 مليار دينار عراقي بأثر رجعي، منذ بداية العام الجاري".
تعززت هذه التفاهمات مع اعلان وزارة النفط العراقية في 8 اغسطس/آب ان الحكومة الاتحادية ونظيرتها في كوردستان، اتفقتا على فتح صفحة جديدة للتعاون في مجالي النفط والغاز، وحسم الخلافات السابقة وفق القانون والدستور، وذلك كنتيجة للقاء عقد في بغداد بين وزير النفط العراقي احسان عبد الجبار ووزير الثروات الطبيعية في اقليم كوردستان كمال الأتروشي.
وفي 27 حزيران/يونيو، كانت بغداد على موعد مع قمة مهمة استضافها الكاظمي للرئيس السيسي والملك الاردني عبدالله، في اطار بحث سبل التعاون والتنسيق والتكامل الاستراتيجي بين البلدان الثلاثة، في سياق ما كان الكاظمي نفسه اعلنه قبل شهور لصحيفة امريكية، بانه سيسعى الى اطلاق ما اسماه مشروع "الشام الجديد" الذي يجمع بغداد والقاهرة وعمان، بما يتيح يتيح تدفقات رأس المال والتكنولوجيا بين البلدان الثلاثة على نحو أكثر حرية.
وبعد القمة الثلاثية، قال الكاظمي ان المحادثات مع السيسي وعبدالله، ركزت على "الاستثمار والتعاون الاقتصادي، واتفقنا على رؤية مشتركة، ونجحنا في الوصول الى تصورات محددة، ونحن الآن في مرحلة الوصول إلى تنفيذ هذه المشروعات، في مجالات الربط الكهربائي والزراعة والنقل، بالإضافة إلى مسألة الأمن الغذائي التي طرحها الملك عبدالله في لقاء القمة السابق".
وبعدها بشهرين، عقد مؤتمر بغداد الاقليمي الدولي، برعاية مباشرة من الكاظمي وماكرون، وبحضور قادة وممثلون لكل من السعودية وايران والامارات ومصر والكويت وتركيا والاردن وقطر والذي لقاء لم تعهد مثله بغداد منذ عدة عقود، واكد على توحيد الجهود الإقليمية والدولية لضمان استقرار الشرق الأوسط وعلى مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية.
وشكل المؤتمر مناسبة للتأكيد على ظهور العراق على الساحة الخارجية كلاعب فاعل قادر على جمع دول اساسية وتقريب وجهات النظر وترسيخ بدائل للتعامل الاقليمي من خلال التنسيق والتعاون الاقتصادي. كما اطلقت خلال المؤتمر دعوة جماعية مؤيدة لخطوة اجراء الانتخابات العراقية في العاشر من اكتوبر.
وبرغم ان لا الملك السعودي سلمان ولا الرئيس الايراني الجديد ابراهيم رئيسي حضرا مؤتمر بغداد، الا ان المؤتمر عقد ايضا على خلفية المحادثات السرية التي رعاها الكاظمي بين السعوديين والايرانيين لتقريب وجهات النظر بينهم والتي يعتقد انها بدأت في نيسان/ابريل الماضي وعقدت عدة جولات منها.
ولم يكتف الكاظمي بذلك، ففي 12 ايلول/سبتمبر، حط في طهران ليكون اول زعيم خارجي بارز يزرو العاصمة الايرانية لتهئنة الرئيس الايراني الجديد ابراهيم رئيسي، فيما كانت بغداد تواصل وساطتها السرية بين طهران والرياض. وغلبت على محادثات الكاظمي مع المسؤولين الايرانيين، الملفات الاقتصادية المتداخلة بين البلدين والمتنامية بشكل ملحوظ. وجاءت الزيارة ايضا قبل نحو ثلاثة اسابيع فقط من تننظيم الانتخابات العراقية.
وقال ابراهيم رئيسي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الكاظمي في طهران انه "خلافا لرغبة الأعداء، فإن العلاقات بين إيران والعراق ستشهد نموا في جميع المجالات".
الا ان الانهماك العراقي بالشأن الخارجي، والمكاسب التي قد يكون جناها من وراء ذلك، لم يبدد حقيقة ان العراق واقليم كوردستان، يواجهان تحديا خطيرا يتمثل في التهديد الذي يمثله الارهاب وتنظيم داعش، والذي عبر عنه مسعود بارزاني في 6 كانون الاول/ديسمبر الحالي، عندما اختصر الصورة قائلا ان هزيمة داعش تتطلب تنسيقاً وتعاونا عسكريا على أعلى المستويات بين الإقليم والحكومة الاتحادي، وذلك غداة سلسلة من الهجمات التي شنها الإرهابيون في مناطق "متنازع عليها" او عبر الثغرات الامنية التي تتيحها، واوقعت اكثر من 20 قتيلا خلال ايام.
وقبل تصريح بارزاني بيومين، قام وفد عسكري من وزارة البيشمركة في حكومة الاقليم بزيارة الى بغداد حيث التقى نائب قائد العمليات المشتركة الفريق أول ركن عبد الأمير الشمري، وذلك بهدف العمل على الحؤول دون تمكن داعش من شن هجمات وتأمين المناطق المشتركة بين حكومتي اربيل وبغداد.
وكان الطرفان اتفقا في 12 اغسطس/آب على تشكيل قوات أمنية في المناطق الفاصلة، وفق ما أعلنت اللجنة العسكرية العليا للتنسيق بين الطرفين، وذلك بعد اجتماع آخر مع وفد اتحادي برئاسة الفريق الركن عبد الأمير الشمري، بحسب ما اعلن الأمين العام لوزارة البيشمركة، الفريق جبار ياور، حيث جرى التفاهم على تشكيل مراكز تنسيق عددها 6 وتضم ضباط الجيش والبيشمركة، اثنان منهما رئيسيان، الأول ببغداد والثاني في اربيل، وأربعة في مدن ديالى - خانقين وكركوك ومخمور ونينوى- الكسك.
ومهما يكن، فان انتخابات العاشر من اكتوبر شكلت منعطفا مهما على صعيد العراق واقليم كوردستان، وهي الانتخابات الخامسة منذ سقوط النظام في العام 2003، وافضت الى تعديل محدود ولكن لافت للنظر في تركيبة الطبقة السياسية التي ما زالت تخوض مفاوضاتها خلف الكواليس، لترتيب المشهد السياسي والبرلماني الجديد في العراق، حيث يؤمل ان تتشكل حكومة جديدة خلال العام 2022، بانتظار حسم التجاذبات والمساومات بين القوى العراقية والكوردية المتعددة.
وبكل الاحوال، فبرغم بروز زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر كاقوى لاعب في صناديق الاقتراع، مثلما برز الحزب الديمقراطي الكوردستاني كأكبر لاعب على المستوى الكوردي، فإن التحالفات وخيارات تشكيل الحكومة ما زالت محل مفاوضات، ومرت بفترة من التوتر بسبب الشكوك بحدوث عمليات تزوير وتلاعب في نتائجها، وفي خضم كل ذلك وقعت محاولة اغتيال للكاظمي عندما استهدفت طائرات مسيرة منزله بالمتفجرات بعد اقل من شهر على تنظيم الانتخابات، وتحديدا في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، لكنه نجا منها.
شفق نيوز