بناء الدولة وخرابها.. العراق انموذجا
معد فياض
عبر كل حقب التاريخ قرأنا عن بناة الدول ومخربي هذا البناء.. هناك من يبني دولة وهناك، ايضا، من يخرب ويهدم هذه الدولة، سومر كانت دولة، لكن اعظم وأول دولة في التاريخ كانت بابل التي خربها الغزاة والاعداء، وآشور كانت دولة عظيمة، كذلك خربها الاعداء، وأول دولة عربية منظمة كانت الحضر، قبل ان يؤسس الامويون اول دولة في تاريخ الاسلام، والتي انتهت على ايدي العباسيين الذين اسسوا وبنوا امبراطورية اسلامية، وهكذا في الجانب الآخر من العالم حيث الامبراطوريات الساسانية واليونانية والرومانية والعثمانية، وهنا نحن لا نريد ان نستعرض تاريخ الدول فهذا موضوع آخر ومعقد ويبعدنا عن المصداقية والدقة في المعلومات.
لكن ما نريد ان نذهب اليه هنا هو ان الدول، وكما تخبرنا احداث التأريخ، يصنعها العظماء، ويخربها الغزاة والاعداء الغرباء، كما حدث مع الدولة العباسية التي انتهت على ايدي المغول، خربة ومدمرة، لكن هناك دول أحتلت من قبل الآخرين وتم تحريرها من قبل اهل البلد وحافظوا على بنائها، كما حصل مع اسبانيا عندما احتلها المسلمون العرب، وحررت من قبل اهلها واستمرت حتى اليوم.
المفارقة التاريخية الغريبة، والشاذة هي ان الدولة العراقية الحديثة التي استمرت منذ قيامها على يد الملك فيصل الاول، الذي تم تتويجه ملكا على العراق في 23 أب عام 1921، في ساحة القشلة ببغداد، اي قبل قرن من الزمان، وبقي تحت الانتداب البريطاني حتى 1932، حيث كان رئيس وزراء المملكة العراقية قد زف في الثاني من تشرين الاول، عام 1932، بشرى انتهاء الانتداب البريطاني في برقية موجهة الى وزارة الخارجية العراقية جاء فيها"دخولنا العصبة (الامم المتحدة) الاثنين، 3 تشرين الاول الساعة 11 ونصف" ليكون العراق من أوائل الدول العربية التي استقلت عن الوصاية البريطانية. حدث هذا قبل 89 عاما بالضبط، حيث اعتبرت الحكومة العراقية هذا اليوم عيدا وطنيا للبلاد، وبعد 71 عام، وتحديدا في العاشر من نيسان عام 2003، انهى، من اطلقوا على انفسهم مصطلح"المعارضة في الخارج" وبدعم قوات الاحتلال الاميركي الدولة العراقية وحولوها الى مجموعة من السلطات التي تم توزيعها وحسب مبدأ المحاصصة بين الاحزاب الشيعية حصريا.
هذا هو الامر الشاذ والقبيح في تاريخ العراق الحديث، دولة بناها امير عربي وبمساعدة فريق عراقي وطني مخلص ومهني في كافة المجالات، حيث اسسوا الوزارات والجيش والمصانع وبنوا المستشفيات والمدارس واسسوا لاقتصاد متين رغم ضعف موارد الدولة وقتذاك، فريق لم يلتفت للانتماءات القومية او الدينية او المذهبية للمشاركين بعملية البناء، فكان بينهم العربي والكوردي والمسلم السني والشيعي والمسيحي والصابئي والايزيدي للنهوض من بلد كان عبارة عن مجموعة بلدات وقرى متناثرة ليتحول الى دولة مؤسساتية رصينة.
ما يجب ذكره هنا هو مساهمة كبار السياسيين والضباط الكورد، ومنذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، في العمل بالمؤسسات الحكومية والجيش العراقي، فكان بينهم الوزراء والسفراء وقادة الجيش، ولعل ابرزهم، أحمد مختار بابان، وهو سياسي عراقي شغل منصب رئيس الوزراء في عام 1958، رئيس آخر حكومة في العهد الملكي، وهو كوردي، من مواليد بغداد، وتنحدر عائلته من مدينة حلبجة ويرجع نسب عائلته إلى سلالة بابان وهي من الأسر الكوردية العريقة في كوردستان العراق.
ويؤكد الدبلوماسي، ووزير خارجية العراق الاسبق، الدكتور عدنان الباجه جي، على انه "لولا الكورد لما قامت الدولة العراقية الحديثة"، مشيرا بذلك الى "موافقتهم على الاستفتاء الذي أجري على الحاق ولاية الموصل بالمملكة العراقية، مقابل ضمان حقوقهم القومية المشروعة".
ويقول الباجه جي، في مذكراته التي كتبتها "عدنان الباجه جي.. ذاكرة العراق"، ان "الكثير من كبار الموظفين في وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي كانوا من الكورد، وكذلك في وزارة الدفاع وبقية المؤسسات الحكومية وكانت لهم مساهمات فاعلة لقيام الدولة العراقية ولسنوات طويلة".
وحسب سيسل جون إدمونز (Cecil J. Edmonds) في كتابه "كرد وترك وعرب: سياسة ورحلات وبحوث عن الشمال الشرقي من العراق 1919-1925"، فقد "قدَّم الكورد خدمة كبيرة في تأسيس دولة العراق وذلك بأصوات الأغلبية الكوردية في ولاية الموصل".
يتحدث الزعيم مسعود بارزاني في كتابه"للتاريخ"، عن معاهدة لوزان عام 1923 التي أيد فيها كورد العراق، الذين كانوا يشكلون غالبية في الموصل، بقاءهم ضمن الدولة العراقية الحديثة حيث "وضع أمام سكان المناطق الكوردستانية خياران فقط وهما: البقاء مع تركيا أو الانضمام إلى العراق"، منبهاً إلى أن الاتفاقية كانت قائمة "على أساس الشراكة بين الكورد والعرب" وبمصادقة عصبة الأمم. مستطردا في كتابه "الكورد أنقذوا ولاية الموصل من أيدي تركيا"، ويتساءل "ولكن هل يتذكر العرب هذا الأمر؟ كما أشار إليه المندوب البريطاني سيسيل جي إدمونز في كتابه (كورد ترك عرب)، قال "وإنهم لعلى إدراك تام بما فعلوه، ويعني الكورد، أترى ستفتح الحكومة العراقية عينيها بهذه المناسبة وتتبنى سياسة كريمة بعيدة النظر اتجاه الكورد"، ويضيف الزعيم بارزاني، لكن "الحوادث والكوارث التي تعرض لها الشعب الكوردي على يد الدولة العراقية، كلها وثائق تدل على أن العرب نسوا الفضل الكوردي".
لقد برهن كورد العراق منذ تاسيس الدولة العراقية، وما زالوا بانهم بناة دولة، واكدوا ذلك مرتين، مرة في عام 1921، والاخرى في 2003 عندما حافظوا على الدولة العراقية، وما زالوا ووافقوا على البقاء ضمنها بشرط منح الكورد ومن خلال اقليم كوردستان حقوقهم المشروعة، بل ان بناءهم لاقليم كوردستان شبه المستقل وفق اسس حضارية يعد مشروعا ناجحا لبناء دولة متطورة.
روداو