كُوباني والظلم الناعم: قوى البناء
كل ذلك، في العشرينيات من القرن المنصرم، يعني لم تطأ قدم الحكومات العربيّة بعد في أرض البرازى. فقط الكُوبانيون كانوا يعرفون حينذاك حكمين، العثمنلي، والفرنسي والإنكليز.
الإنخراط في عمليّة بناء المدينة ليس أمراً سهلاً. المدينة تجلب تقاليد جديدة، وتفرض نمط حياة مختلف، وتؤسس لثقافة على ثقافة الجيل الذي كان مورده الأساسي الزراعة، وتربية المواشي، وشيء من التجارة المحليّة العابرة لحدود تركيا، لكن ليس أبعد من بيراجيك و رها، وعنتاب، وبينما كان الناس يجتمعون على أغاني مشي بكبور في مرحلة المدينة صار الناس يتعرفون على نماذج أخرى من التسلية والترفه، وذلك شهدت كُوباني مسرحيّات متنقلة، كمن يجلب أحد منهم "قرد" ويصبح مسرح الضحك في إحدى بيوت الوجهاء أو محل البيادر، وشيئاً فشيئاً دخل السينما ولو بشكل بدائي والتقط الناس أنفاسهم بينما يشاهدون أشياء لم يعادونها من قبل.
في بدايّة القرن المنصرم لم يعلم الناس أن يكون هناك قطار، ويُقال إنّ واحداً من سيف علي(قرية غرب كُوباني) تحدث على أنّه سيأتي زمًن ويسير الحديد على الحديد وينقل الناس، وسرعان ما شاهدوا القطار، وركبوا على متنها للعمل في الحقول في سري كانيه. في تلك الأزمان كان عدد أجهزة الراديو قليلة وقد تصادف من بين ٢٠ قرية لا تجد مذياع واحد، وشكل نقل الرسائل، وأدوات الحراثة، وشكل اللباس.
ملحوظة: إنّ عدد قطع اللباس الذي كان يرتدن النساء في تلك الأزمان ستة عشرة قطعة، وكان نادراً أن يقتني شخص لباس النوم ولباس الظهور بين العوام. في الخمسينينات لأول مرة عرف الكوبانيون بيجاما، حيث عند ذهاب تلاميذ إلى منبج لتقديم الإمتحانات وإن يجدوا في حقيبة زميلهم إبن شرطي بيجاما كانوا يستفسروا عنها ،وفيما بعد عرفوا بأنّها مخصصة فقط للنوم ولأجل الراحة.
ثلاث مكونات أسست كوباني وأصبحت على وضع كما نشاهدها الآن:
-وجود شركة للسكك الحديدية، والتي كانت قد بنت خط "ب ب" بغداد برلين، وفيما بعد أصبح هذا الخط سبباً لتحولات مجتمعيّة حيث ساهم في عمليات التنقل والبحث عن العمل في المناطق الأخرى والتجارة، وكل هذا ساهم في صياغة التراكمات لتنتج لاحقاً المدينة.
-بناء السرايا من قبل الفرنسيين، ودفع الناس للتوظيف في السلك "المليس" والوظائف الإداريّة الأخرى كمحاسب مالي وجني المحاصيل والضرائب(قاجور جي)، إضافة إلى تأسيس الفرنسيين "عبارات الحبوب" في عدد من القرى الكُوبانيّة.
-دور الوجهاء أي رؤساء العشائر والذي تحول مضافاتهم لتأخذ محل ديوان الهم والرسم المستقبل أو "ديوان تبادل المعلومات"، فضلاً عن استقبال الضيوف من المناطق الأخرى، وغالباً إن المقرر الرئيسي لشؤون والشجون كان في مضافات رؤساء العشائر، ولذلك، وبسبب تعامل الفرنسيين بمواقف مسبقة وكانوا يتعاملون مع أبناء المنطقة تبعاً لحساسيات المناطق الأخرى العربيّة أو حساسيات عثمنليّة فإن البعض من العشائر سرعان ما وجدوا أنفسهم في دائرة مقاومة الفرنسيين وحملات ودعوات جلاء قواتهم، وهو السبب المباشر بوجود وجهاء من كوباني في الجمعية الوطنية السوريّة في أواسط الثلاثينيات القرن المنصرم.
(للحديث تتمة).