• Thursday, 27 June 2024
logo

قاموس كوردي بلغة زرادشت

قاموس كوردي بلغة زرادشت
طارق كاريزي


ربما يستغرب القارئ هذا العنوان. قاموس كوردي وبلغة زرادشت! لكن لو علمنا بان كتاب النبي زرادشت المعروف بالـ(آفستا) كتب بلغة عرفت بنفس الاسم، وهذه اللغة مازالت حيّة في كوردستان ويتكلمها شريحة كبيرة من الشعب الكوردي، عندها سيزول استغرابنا والقارئ.
حتى عام 1991 كان الرصيد السنوي للمطبوعات الكوردية (كتب، مجلات، صحف، دوريات) متواضعا، وعدد القواميس الكوردية كان لا يتجاوز عدد اصابع اليدين. وكمثال نشير الى (قاموس خال) للعلامة الكوردي الراحل الشيخ محمد خال، وهو قاموس احادي اللغة (كوردي- كوردي)، صدر بثلاثة اجزاء لكن خلال 12 عاما، صدر جزءه الاول عام 1966 وصدر جزءه الثالث في السبعينيات من القرن الماضي.
بعد انتفاضة آذار عام 1991، فقد شهدت الثقافة الكوردية انعطافة كبيرة، ومن مقومات هذه الانعطافة حرية الرأي، قانون المطبوعات الكوردستاني، الامكانيات المالية والتقنية التي باتت تحت اليد في كوردستان، حيث اسهمت كل هذه العوامل على انبثاق ثورة ثقافية في جنوبي كوردستان (كوردستان العراق)، شهد خلالها اقليم كوردستان صدور آلاف الصحف والمجلات خلال ربع قرن الماضي، وارتفع رصيد الكتب السنوية الصادرة باللغة الكوردية من معدل (100) مائة عنوان كتاب سنويا قبل عام 1991 الى اكثر من (5000) خمسة آلاف عنوان كتاب سنويا.
هذه الانعطافة في الواقع الثقافي وتطور واقع المطبوعات الكوردية، انعكس على واقع صدور العشرات من القواميس، حيث بلغ عدد القواميس الكوردية اكثر من (400) قاموس احادي، او ثنائي اللغة، منها القواميس اللغوية ومنها القواميس الاختصاصية في شتى صنوف العلوم والمعارف.
الاديب والباحث الكوردي (هردويل كاكيي) عرف بمؤلفاته في التراث والادب الشعبي الكوردي وتحقيقه لدواوين الشعراء الكورد، وصدر له حتى الآن حوالي (50) كتابا في هذه الحقول. وهو الآن مشغول بانجاز عدد من المشاريع الثقافية، اهمها قاموس خاص بلهجة كوران (غوران) احدى اقدم لهجات اللغة الكوردية.
يقول هردويل كاكيي، بأن الدافع لتأليفه هذا القاموس، هو التراجع المستمرّ للهجة الكورانية وسط الناطقين بها. وأكد "ان الذين مازالوا يتحدثون بهذه اللهجة باتوا يتحدثون بلغة هجينة هي خليط من لهجة كوران واللهجة الكرمانجية الوسطى في كركوك واللهجات الكرمانجية الجنوبية، خصوصا اللهجة الكلهرية في شرقي كوردستان. وهذا يعني اننا امام ضياع اللهجة الكورانية."
وتابع كاكيي، ومن اجل الحفاظ على القاموس اللغوي ومفردات لهجة كوران، خصوصا اللهجة المتداولة لدى الناطقين بهذه اللهجة في محافظة كركوك، ارتايت تأليف قاموس كوران، ليضم بين دفتيه جميع مفردات لهجة كوران. واوضح "لقد قمت بمسح ميداني لجمع مفردات هذه اللهجة، اضافة الى انني من الناطقين بها، اي كنت قريبا من نبض هذه اللهجة، علاوة على استفادتي من العديد من القواميس الكوردية التي تضم المئات من كلمات اللهجة الكورانية."
الاستاذ الباحث هردويل كاكيي اوضح ايضا، بان قاموس كوران يضم اكثر من (40) الف كلمة اصيلة من لهجة كوران بالتحديد، لتكون فی متناول الباحثين وكذلك الراغبين الاطلاع على هذه اللهجة او معرفتها.
ومن المهم الاشارة الى ان لهجة كوران، بحسب الباحثين في تأريخ اللغة الكوردية ولهجاتها، هي من اقدم اللهجات الكوردية، وكانت خلال العصور الوسطى لغة الادب والثقافة الكوردية طوال قرون عدة، وهناك خزين من الكنوز الادبية المكتوب بهذه اللهجة تعد من روائع الادب الكوردي، ولعل في مقدمتها ملحمة (شيرين وخوسرو) للشاعر خاناي قوبادي، و(الشاهنامة الكوردية) وكتاب (سرنجام) المقدس وديوان الشاعر الكبير مولوي وعشرات الشعراء الكلاسيكيين الاخرين وسرديات ذات قيمة ادبية وثقافية راقية.
اقدم النصوص الكوردية الباقية حتى الآن، وجدت مدونة على الجلود في كهوف منطقة هورامان، وهي مكتوبة بلهجة كوران. وهذه اللهجة هي الاقرب الى لغة الافستا، لغة الكتاب المقدس للنبي زرادشت. وهذا يعني ان قاموس كوران يمكن اعتباره قاموسا كورديا بلغة النبي زرادشت.
مستشرق ايطالي لا يحضرني اسمه الآن يذكر، بان لهجة كوران كانت لغة الكورد من اهل المدن في كوردستان، والكرمانجية كانت لغة الكورد من اهل القرى والارياف. هذا الرأي يحتاج الى المزيد من البحث والتقصي، خصوصا اذا علمنا بان الادب الكوردي بلهجة كوران كان سائدا في كوردستان الوسطى وكوردستان الجنوبية، بدأ من كركوك حتى سنندج مرورا بشهرزور وهورامان، ومن هناك باتجاه الجنوب حتى اقليم لرستان. ويبقى الادب هو نتاج التجمعات السكنية الكبيرة كالمدن والحواضر.
الكرمانجية الوسطى (وتعرف بالسورانية ايضا) كلغة ادب وثقافة اخذت تكتسح الكورانية شيئا فشئيا، واستطاعت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد، ان تحل محل الكورانية في مجمل جغرافيتها. ورافق ذلك انصهار نسبي للهجة الكورانية في الكرمانجية الوسطى والكرمانجية الجنوبية، حيث اغلب بطون القبائل الكوردية الناطقة بالكورانية سابقا في شرق وجنوبي كوردستان، تحولت بشكل تدريجي لاستخدام الكرمانجية الوسطى والكلهرية (احدى فروع الكرمانجية الجنوبية). وفي كركوك كانت عدد من العشائر الكوردية من الناطقين بالكورانية، الا ان الاجيال الجديدة منهم استبدلوا لهجة ابائهم واجدادهم بالكرمانجية الجنوبية وفروعها، لكن ابناء عشيرة الكاكيي (ومؤلف قاموس كوران منهم) هم الوحيدون الذين مازالوا يتحدثون باللهجة الكورانية الى جانب تحدثهم بالكرمانجية الوسطى. ولعل عامل المعتقد قد لعب دورا مهما في ذلك، حيث يدين الكاكييون (الكاكائية) بالديانة اليارسانية احدى الديانات الكوردية القديمة، واتباع هذه الديانة، مثلما الايزديون والعلويون الكورد، لديهم الكثير من آثار الزرادشتية في تعليماتهم الدينية ومعتقداتهم الماورائية.
وبناء على ما سبق، يمكننا القول بان قاموس كوران لمؤلفه هردويل كاكيي يكتسب اهمية قصوى لقراءه الحاليين وفي المستقبل وللباحثين اليوم وغدا.
Top