• Thursday, 27 June 2024
logo

قلعة من القهوة

قلعة من القهوة


طارق كاريزي


اللوحة المنشورة مع هذا المقال، هي للفنان الكوردي المغترب محمد اسماعيل. هذا الفنان هو ابن اربيل ويعيش منذ حوالي عشرين عاما في الديار الهولندية.
هذا الفنان يتعامل بحسيّة عالية مع البيئة ويختار مواضيعة وكذلك مواده وعدته لممارسة حرفة الرسم بمزيد من الفطنة ليصوغ خطابه البصري وفق رؤية جمالية تلامس مشاعر المتلقي وتترجم ما يدور بخلده من مسائل وقضايا آنية او مستلة من الذاكرة.
هذا الفنان اختط مسيرته الفنية ضمن نطاق غير مألوف، ولعل احد اهم تجاربه قبل مغادرته موطنه كوردستان، الرسم على الجسد البشري. مع ان هكذا اعمال فنية ترسم على الكتل الحيّة لا يكتب لها البقاء سوى لساعات قلائل، لكن يمكن الاحتفاظ بتشكيلة هكذا اعمال فنية من خلال تصويرها فوتوغرافيا. قد يتعذر تقديم تحليلا او تعليلا بصريا منطقيا لكامل التجربة الفنية للفنان محمد اسماعيل ابان فترة عطاءه في كوردستان الوطن، لكن طوال مسيرته الفنية في الوطن وفي ديار الغربة يمكن للمتابع ان يشخص ابرز المكونات الفنية والجمالية والتقنية له. انه من الفنانين الذي يسايرون عواطفهم ويستجيبون لدواعي الجمال والدهشة، ويوظف مختلف المواد والتقنيات المتاحة لبلورة مكونات نتاجاته البصرية.
قلعة اربيل هي من اعماله الاخيرة، رسمها بمادة القهوة، واستخدم لون الاكريليك لرسم السماء الزرقاء التي تعلو القلعة. واختيار مادة القهوة وهي ضمنا اختيار للون القهوائي لرسم القلعة، تحمل الكثير من الدلائل المدعومة بمشاعر جياشة حيال المكان. فهذا الفنان ولد وعاش العقود الثلاثة الاولى من عمره وهو يرى القلعة بشموخها. ولكثرة اعجابه بمشهد القلعة التي تتوشح بالشموخ والعظمة، بات ملما بالتكوينات المعمارية التي تحيط بالمحيط العلوي للقلعة، وهو ربما اعتمد على صور ملتقطة للقلعة في مسعاه لبلورة تفاصيل مباني المحيط الغربي منها، عليه فقد اجاد ضبط هندسة المباني، اضافة الى ان لون القهوة هو الاقرب للون القلعة.
اضافة الى ذلك فان للقهوة بعد حياتي، انها احدى انواع الاشربة الاكثرة شهرة وانتشارا في العالم، وهي شديدة الارتباط بحياة الانسان. ولعل ولع الفنان بالقلعة وحبه الجم لها، منحتاه الجرأة على رسم جسدها الهائل بمادة القهوة، وهي تجربة رائدة وجريئة في ذات الوقت، وهي ايضا مشبعة بالجمال والجاذبية من خلال تفننه باستخدام عناصر حرفية اغنت العمل ومنحته سيلا من التكوينات الجمالية. فقد اجاد محمد اسماعيل بلوحة (قلعة القهوة- هذه التسمية اطلقتها انا على اللوحة وهي ليست بالضرورة توافق وجهة نظر الفنان) تجسيد صرح جمالي وارث حضاري شهير من خلال منحز بصري مثير. لوحته عمل فني يجاري عظمة المكان وكبرياءه.
يمكننا تتبع خمس مدرجات من الالوان والتكوينات في هذه اللوحة:
اولا: السماء (وهي الجزء الوحيد من اللوحة لم يرسمها بالقهوة) رسمها بلون الاكريليك، وقد تفنن في تقديم نسيج هارموني من زرقة السماء الملبدة بغيوم بيضاء خفيفة منحت سماء القلعة الكثير من العذرية والبراءة وصفاء الجوّ الذي بات جزءا من الماضي، بسبب تزايد نسبة اطلاق الكاربون وغازات اخرى ملوثة للبيئة. هذا الفنان ولد في قلعة اربيل، والسماء التي رسمها هنا، هي في الحقيقة جزء من ذاكرته وذكريات طفولته المنقوشة بدقة في مخيلته.
ثانيا: معمار القلعة ومنازلها باتجاه الجنوب الغربي، وقد اجاد رسمها بحرفية عالية من دون تهرب من تفاصيلها، واستطاع من خلال التفنن في استخدام التفاوت في درجات الغمق (التنوات) ان يجسد ملامح وتكوينات معمار القلعة وما فيها من شرفات وشبابيك وزخارف وتكوينات هندسية.
ثالثا: جسد القلعة حيث هذه الكتلة الهائلة من الاديم الذي يرتفع في قلب المدينة وهو شامخ يسرد تأريخ يمتد لآلاف السنين. لون القهوة بتوناته الفاتحة يقترب من لون الاديم، وقد عالج الفنان مسطح انحدار جسد القلعة وامتداده بين الارض ومعمار القلعة بفطنة وكأنه قام بنسج هذا المقطع من لوحته بمزيد من الدقة.
رابعا: سفح االقلعة (او اطارها الارضي) التي خضعت خلال القرن العشرين لسلسلة من التغيّرات على يد البشر. فقد كانت في السابق مجموعة من المحلات التجارية المتراصة، ومن ثم رفعت هذه المحلات ليتم دعم السفح (بعد تعرض حافته الملازمة للارض لتعرية بسيطة) بالكونكريت ومجموعة من الاشجار والشجيرات. ورسم الفنان الاشجار والشجيرات التي تحيط بهذا الجزء من جيد القلعة من وحي خياله، وبذلك فقد منح القلعة تصورا جماليا مصدره ذات الفنان، وبذلك حقق الانسجام بين مدرجات تكوين لوحته.
خامسا: الجزء الاخير من اللوحة هو عبارة عن الشارع المكسي بالاسفلت والمطلي بالاحجار، حيث يحيط كالدائرة بالقلعة. لقد كان الفنان موفقا بمنح المشهد جمالية متخيلة تتقاطع مع الواقع الذي يشهد يوميا زحمة المركبات والمارّة الذين يجوبون المنطقة ذهابا وايابا. والتقنية التي استخدمها لمعالجة هذا الجزء من اللوحة، كانت مغايرة لما سبقتها في الاجزاء الاخرى، لون القهوة تجسد كسيول امطار تغتسل الشارع مما علق بها من ادران. وبذلك منح ايقاعا بانوراميا للوحته هذه.




Top