لماذا لا يوجد "إسلام سياسي كوردي"!
كانت صور احتفالية "التاج الذهبي" التي نقلتها وسائل الإعلام من مدينة حلبجة بإقليم كوردستان العراق قبل أيام قليلة خارج سياقات الحياة العامة في الإقليم تماماً. منظمة "تنمية طلبة كوردستان"، التابعة لحزب الاتحاد الإسلامي الكوردستاني، الذي يمتثل لفكر جماعة الإخوان المُسلمين في إقليم كوردستان، كان قد نظم تلك الاحتفالية بمناسبة ما قال إنه "قرار أكثر من 1300 مراهقة وفتاة ارتداء الحِجاب الشرعي والالتزام به"!.
مئات المراهقات الكورديات يرتدين زياً محافظاً وموحداً، جالسات بصمتٍ وخشوع في صفوف متراصة ومتوازية في قاعة واحدة، يلتقين عظات دينية وتحشيداً سياسياً مادحاً ومروجاً للجهة الراعية، التي هي تنظيم سياسي إسلامي، وكل تفصيل آخر من ذلك الحفل كان يقول بوضوح إن المسألة هي محاولة مُتعمدة لاستخدام الدين للترويج والدعاية لجهة سياسية بعينها، جهة تملك مشروعاً ومؤسسات سياسية وسلطوية، وهو حدثٌ وفِعْل نادر في المُجتمع الكوردي.
فالمُجتمعات الكوردية، وإن كانت تتدين بالإسلام السُني بأغلبيتها المُطلقة، إلا أن نمط التدين بالنسبة للأكراد كان وما زال يأخذ طابعاً اجتماعياً فقط، يعتبر الإسلام فضاء روحياً وأخلاقياً فحسب، يلتزم المُتدينون الأكراد بالعبادات والقيم الروحية والأخلاقية العُليا للدين الإسلامي، لكنهم يُجمعون على فصل الدين عن نزعاتهم وخياراتهم وخطاباتهم السياسية، شيء يُمكن تسميته بمعنى ما "علمانية اجتماعية"، تفصل المجالين الديني والسياسي عن بعضهما البعض بشكل ميكانيكي.
في هذا السياق، وبشكل واضح طوال قرن كامل مضى، تمايزت تجربة المُجتمع الكوردي عن تجارب "القوميات المُسلمة" الأخرى في المنطقة، العرب والأتراك والفُرس. حيث شهدت مُجتمعات هذه القوميات اكتساحاً لتنظيمات وإيديولوجيات الإسلام السياسي، وإن كانت خلال مراحل متراكمة وبدرجات مُتفاوتة فيما بينها.
تأتى ذلك التمايز الكوردي من ثلاثة ديناميكيات حيوية، فرقت تجربة الجماعة القومية الكوردية في المنطقة عن نظيراتها من الجماعات الأخرى.
فالنزعة القومية الكوردية حافظت على نفسها فاعلة وحية طوال هذا القرن، في وقتٍ كانت الإيديولوجيات القومية الأخرى تندمل وتتفسخ. فتيارات وقادة وشخصيات الحركات القومية الكوردية ظلوا جيلاً بعد آخر يحافظون على مواقعهم كـ"قديسين" في مُجتمعاتهم، في وقتٍ كان المزيد من نُظرائهم من تيارات وقادة تجارب قوميات أخرى، يتحولون إلى أنظمة للنهب العام وزعماء عسكريين شموليين، وتالياً خسروا سحرهم الخاص.
بقاء القومية الكوردية بخطاباتها وتنظيماتها وقيمها حية لم يكن مُجرد إيديولوجية عُليا فحسب، بل كانت تعني تأمين والحفاظ على الحدٍ المعقول من وعي الذات الجمعية بالنسبة للكورد عبر المفاهيم وأشكال الوعي القومية، المتمركزة حول الحق القومي بالوجود والتحرر. وحيث أن الجماعات الأخرى حينما انتفى وساد فراغ في ذلك "الوعي الجمعي للذات" بعد اضمحلال التجارب القومية، جاء الإسلام السياسي ليملأه بحكاياته وأساطيره عن الماضي المجيد ذلك الفراغ.
المسألة الأخرى كانت تتعلق بعدم تمكن الكورد من تشييد دول مُعترف بها. فالإسلام السياسي في المحصلة هو التلبية الأكثر سرعة وموضوعية لحالة إحباط المجتمعات الأهلية والشعبية من الدولة، من حكوماتها وأنظمتها السياسية وقدرتها على تأمين عدالة اجتماعية واقتصادية ورمزية ما بين الناس. الإحباط من الدولة يدفع الناس عادة للجوء إلى الإسلام السياسي كخطاب فوقي وجذاب مزركش بالكثير من تلك الأقاويل عن المساواة والحق والسلطان العادل.
لم يملك الكورد أساساً دولاً وكيانات لينفروا منها. في مخيلتهم، كانت الدول التي يعيشون في ظلالها أقرب ما تكون لكيانات احتلالية منها للدولة التي يمنحونها ولاءهم.
غياب الدولة خلق بالنسبة للكورد مسألتين متعلقتين بالإسلام السياسي: فأولاً كانوا يقرؤون ويعللون أسباب مآسيهم على اعتبارها متأتية من غياب الدولة، وتالياً كانوا يمنحون الدولة مكانة وقداسة خاصة في وعيهم، وإن كانت دولة متخيلة لا مُعاشة وغير حاضرة، لكنهم كانوا يعتبرونها هي –الدولة- خلاصهم النهائي، وليس شيئاً متخيلاً آخر، كالإسلام السياسي. ثانياً لأن طبيعة الأنظمة والكيانات التي عاش كورد المنطقة في ظلالها، كانت تتبنى بشكل أو آخر إسلاماً سياسياً ما في أكثر من مستوى، وكانت تستخدم ذلك الإسلام السياسي لقمع التطلعات الكوردية، خصوصاً منذ أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، فانخلق نفور كوردي عمومي وشعور بالمُعادة تجاه الإسلام السياسي.
ففي إيران وتركيا والعراق، ونسبياً في سوريا، حينما كان الكورد يواجهون تلك الدول دفاعاً عن حقوقهم القومية، كانوا يجدون أنفسهم في مواجهة حتمية مع الإسلام السياسي الهوياتي في أنظمة تلك الدول. خلقت تلك المواجهة المديدة نفوراً جمعياً من قِبل المُجتمعات الكوردية من الإسلام السياسي.
إضافة إلى المسألتين السابقتين، فإن غياب الدولة كان يعني انتفاء إمكانية وجود مُدن متروبولية كُبرى، تضم ملايين المهاجرين من أبناء القُرى العاطلين عن العمل من ذو المداخيل المالية المتواضعة والتعليم الأكثر تواضعاً، بالذات في براري العشوائيات المحيطة بتلك المُدن، حيث يُعشعش الإسلام السياسي وينتشي في جِنانه تلك.
المسألة الأخيرة كانت تتعلق بالسيرة التاريخية للكورد وعلاقتها بالإسلام الإمبراطوري. فالكورد كانوا الجماعة القومية الكبيرة الوحيدة في المنطقة التي لم تُشيد "إمبراطوريات" سياسية تاريخية، قائمة على الهوية الإسلامية، والمكونة لإرث العلاقة الحتمية بين الدين والقوميات التي شيدت تلك الإمبراطوريات الإسلامية. كما فعل العرب في مختلف تجاربهم الإمبراطورية أو ما صنعه الفرس في الدولتين الصفوية والقاجارية والأتراك عبر الدولة العثمانية.
فحينما كانت تلك الأقوام الكبيرة ترسخ تلك التجارب، كان الكورد مُجرد بُناة لإمارات محلية متواضعة، مساحة وقدرة وفضاء سياسياً، تقع تحت ظلال واحدة أو أخرى من تلك الكيانات الكُبرى.
غياب ذلك النموذج الإمبراطوري الكوردي هو ذو فاعلية استثنائية في المخيلة العامة للجماعة الكوردية، التي مثل كل جماعة أخرى ذات نفس التجربة، لا تملك في كلامها العام وعقلها الجمعي وذاكرتها العُليا أي مُثل وحكايات كبرى وأساطير كلية عن الماضي العتيد، عن أمة كانت تملك مجداً غابراً حينما كانت متمسكة بدين أو مذهب ما، حسبما يفعل وينجح الإسلاميون السياسيون العرب والأتراك والفرس، الذين يستطيعون إيجاد صور ومرويّات تاريخية مُغرية لتبعتهم، وطبعاً الحصول على استجابة سريعة لما يطمحون نيله من المُجتمع.
ليس بعيداً عن مكان إقامة تلك الاحتفالية، في وسط مدينة حلبجة تلك، وقبل ثلاثة عقود فحسب، أسقطت طائرات النظام العراقي السابق عشرات القنابل الكيماوية، التي أبادت المدينة بآلاف المدنيين من أهلها، وفي ظلال دعاية وخطاب إسلام سياسي، حيث كان النظام العراقي يُسمي حملة إبادته تلك باسم سورة قرآنية "الأنفال".
مضت أكثر من ثلاثة عقود على تلك الجريمة، ولم يبقَ تيار سياسي في العالم إلا وأدان تلك الجريمة النكراء، خلا قوى الإسلام السياسي.
باسنيوز