لماذا عاد ترامب؟
اذاد احمد علي
ابان الانتخابات الأميركية سنة 2016، أجريت أحاديث مطولة مع بروفيسور العلوم السياسية في إحدى الجامعات الأميركية، دافيد رومانو، الذي كان في ضيافة مركز رووداو للدراسات بأربيل. كنا نناقش بمناسبة تلك الانتخابات الأوضاع الأميركية وسياساتها الخارجية، وكنت أصر عبر أسئلة عديدة على معرفة قصة بروز ترمب في الساحة السياسية الأميركية، واحتمال نجاحه في انتخابات تلك الدورة. لكنه كان يقتضب في الموضوع مستخفاً به، ويكرر تسميته بالمجنون: He is Crazy. سافر البروفيسور لإتمام تلقين الطلاب الأميركيين العلوم السياسية، أما ترمب فقد نجح وأزاح الديمقراطيين، وهُزمت أمامه هيلاري كلينتون بطريقة صدمت المراقبين وخالفت التوقعات. ثم عايشنا جميعاً مرحلة رئاسة ترمب السياسية المضطربة، وصولاً إلى ما لم يحدث في التاريخ الأميركي، إذ لم يتخلَّ طوعاً عن السلطة في ما يشبه العصيان المدني، حيث هاجم أنصاره الكونغرس في استعراض لا يقل إثارة عن مشاهد أفلام هوليود. وعند تلك الانعطافة – الحدث بات معظم المهتمين مقتنعين بأن ترمب بدأ وانتهى سياسياً بسرعة كفقاعة صابون. فتتالت عليه القضايا الجنائية، وجرجر إلى المحاكم كما يقال. لكن أميركا ما تزال بلد المفاجآت، أعادت ترمب وهزم الحزب الديمقراطي مرة أخرى أمامه، وانتهت حياة نائبة الرئيس كامالا هاريس في انتخابات نوفمبر 2024.
انشغل العالم بأسره في الأيام الأولى بعد فوز ترمب بظاهرة عودته، نعم، تحولت إلى ظاهرة من حيث إنها استقطبت اهتمام أوساط غير مهتمة بالسياسة الدولية أصلاً، حتى جمهور الرياضة انخرط في التحليل السياسي لتفسير عودته، بل تزاحموا على تصور ما سيقوم به. لقد انهمر فيض من المعلومات التي تفسر نجاح ترمب وخسارة هاريس، في انعطافة شعبوية محمومة تحمل في طياتها الكثير من الإيجابيات، أولها زيادة الاهتمام بالشأن العام من زاوية عودة ترمب.
إلا أن أغلب التحليلات السياسية، حتى الرصينة منها، لم تتعمق في جوهر المسألة - على حد اطلاعي ومتابعتي - أي لم تغص تماماً في لب الظاهرة السياسية الجديدة، التي يمكن مقاربتها في سؤال بسيط: لماذا عاد ترمب؟ وفي سؤال آخر مكمل: كيف عاد؟
في البدء، انبثقت جذور الظاهرة الترمبية من حاجة المجتمعات الأميركية إلى التغيير السياسي والاقتصادي، كما أن الظاهرة ذات علاقة مع بداية ارتكاب الديمقراطيين لخطئهم القاتل المتلخص في الاجتهاد في اختيار باراك أوباما مرشحاً للرئاسة، ونجاحه في انتخابات سنة 2008، هذا النجاح الذي جاء في أحد جوانبه كرد على سياسات انفلات تيار المحافظين الجدد، وجموح الثنائي جورج بوش الابن وديك تشيني، اللذين كانا يرغبان في أن تكون أميركا سيدة العالم تحت شعار (القرن الأميركي الجديد)، وعالم بقطب واحد. لقد نجح الديمقراطيون عهدئذ في التحشيد لوقف انطلاقة المحافظين الجدد، وبالتالي وقف حروبهم، لكنهم انزلقوا بقيادة أوباما الأفرو-أميركي اليساري الليبرالي النظري نحو سياسة مائعة رجراجة في الداخل والخارج. سياسة أوباما لم تتوافق مع القيم الأميركية، ولا مع ثقافتها السياسية الخاصة. حتى استكمل مشروع أوباما نائبه بايدن في انتخابات سنة 2020، الذي لم يساهم أيضاً في نشر الديمقراطية خارج أميركا، كما أعلنها كهدف مراراً وتكراراً، بل على العكس عزز بايدن السلطات الاستبدادية في العديد من بلدان العالم، حتى دفعت هاريس سنة 2024 ضريبة هذه السياسة التي سيرها الديمقراطيون في كل من الداخل الأميركي وخارجه. ولن نبالغ إن قلنا إن المجتمعات الأميركية باتت بحاجة ملحة إلى التغيير السياسي بقيادة شخصية تتقمص حالة (المخلص) من براثن السياسة الأوبامية – البايدنية العقيمة والرتيبة.
هذا ما حصل في الإطار السياسي العام، ونجح الجمهوريون في تلطيف سياسة جناح الصقور ضمن صفوفهم، وأنعشوا رغبتهم السابقة في قيادة العالم، لكن بصيغة معاصرة ومعدلة تحت عنوان: جعل أميركا عظيمة من جديد، المعروفة اختصاراً MAGA كخط شعبوي تعبوي فضفاض.
في بداية قراءة وتفسير ظاهرة عودة ترمب وتبلور الترمبية كموجة سياسية أميركية ما بعد نيوليبرالية، يظهر للمتابع أن العامل الحاسم في تحقيقه الفوز، ورجحان عودته ارتبط بقدرته مع مستشاريه على النفخ في روح السياسة المجتمعية الأميركية من جديد، التي تكمن أصلاً في ميكانيزم التحالفات بين المختلفين، وترجمة الفدراليات التضامنية عملياً. لقد فهم ترمب ومستشاروه أن الانتصار يتطلب توفير القوة المجتمعية اللازمة للنهوض بأغلبية الأميركيين، والتي لا تتم إلا عبر بناء تحالفات سياسية ومجتمعية عريضة، وهذا ما تحقق. إذ استقطب الجمهوريون جموع الشعبويين الساخطين على المهاجرين، مع الإنجيليين المعارضين للمثلية والتحول الجنسي وغيرها من شطحات يسار الديمقراطيين. أما العامل الجديد والأهم في سياسة التحالفات التي كانت رافعة ترمب الكبرى إلى النجاح، فقد تمثل في إقناع أقطاب الرأسمال الأميركي الجديد بأن ينخرطوا في السياسة بشكل مباشر ومعلن، وخاصة الملياردير إيلون ماسك (الذي يُعد أغنى شخص في العالم برأسمال معلن كان يبلغ حوالي 250 مليار دولار، ثم ارتفع بعد نجاح ترمب خلال أسبوعين إلى حوالي 300 مليار دولار، فإلى أكثر من 400 مليار مطلع سنة 2025). كان التحالف مع ماسك ناجحاً لدرجة أنه تم وصفه بأنه السلم الذي صعد عليه ترمب إلى الرئاسة هذه المرة. فضلاً عن دعم ترمب منذ عدة سنوات لخطة تعزيز العمل بالعملات الرقمية والمشفرة، والتنسيق مع رواد الأعمال في وادي السيليكون، الذين دعموه مجتمعين.
اتضح بعد إعلان النتائج درجة ارتباط فوز ترمب وتشابكه مع جهود ماسك، الذي كان قد أطلق حملة غير مسبوقة لضخ الأموال في عملية انتخاب ترمب، وذلك بهدف تعزيز سياساتهما المشتركة. فقد وضع ماسك منصته العملاقة "إكس" X في خدمة ترمب، فضلاً عن تبرعه بحوالي مئة وثلاثين مليون دولار لمصاريف الحملة. وقد نتج عن تحالفهما السياسي وعد بمشاركة ممثلي الرأسمال الجديد في السلطة التنفيذية، خاصة بعد ما سُربت معلومات لإنشاء وزارة خاصة باسم الكفاءة الحكومية، يقودها ماسك شخصياً لتحسين الأداء الحكومي، وتخفيض الميزانية الفدرالية إلى الثلث، أي بما يقارب ألفي مليون دولار. هذا وقد سرّع ترمب في إجراءات مشاركة ماسك في رسم السياسات الخارجية، عندما أدخله في المكالمة المشتركة بين الرئيس الأوكراني زيلينسكي من جهة وترمب – ماسك من جهة أخرى، حيث اندرج كأول تصرف غير منضبط من ترمب في عهد حكمه الثاني الذي لم يكن قد بدأ بعد. إذ أن ماسك ما زال لا يمتلك أي صفة سياسية أو إدارية في السلطة التنفيذية الأميركية.
لقد أعاد الجمهوريون ترمب إلى قمة الحكم كثمرة لتحالفهم الناجح بين القوة الشعبوية الاجتماعية الأميركية العريضة والرأسمال الأميركي غير التقليدي، خاصة قطاعات التكنولوجيا الفائقة والاتصالات والعملات الرقمية التي حققت انتصاراً مباشراً بعد فوز ترمب. فقد قفزت عملة البتكوين إلى حوالي مائة ألف دولار، وهي عملة افتراضية غير ملموسة ولا يمكن تخزينها.
لقد تحققت عودة ترمب كثمرة للتزاوج بين تيارات سياسية واقتصادية جديدة جعلت من نجاحه تحصيل حاصل، فتضامن غالبية قطاعات المجتمع الأميركي خلف برنامج ترمب (المخلص الجديد) ليحقق فوزاً مريحاً في المؤسسات التشريعية، على أمل أن تبدأ خطة اقتصادية شاملة للتغيير وإيجاد حلول لأزمة المجتمع الأميركي المركبة. فالتغيير الاقتصادي والسياسي كان هو مطلب وهدف جموع الناخبين الأميركيين، ولم يكن شخص ترمب مطلوباً بذاته وصفاته. لذلك، ستنبثق على الأرجح مرحلة سياسية جديدة من هذا التحالف العريض بكل ما تحمل من فرص النجاح والمخاطر. عاد ترمب باختصار ليقوم بوظيفة إعادة هيكلة وتغيير النظام الاقتصادي في العالم وفي مركزها أميركا، ما يتطلب مواجهات ومصاعب سياسية استثنائية قد يستلزم تذليلها حروب أو صفقات كبرى، أو الاثنين معاً.
روداو