ازدواجية المعايير الدولية في مكافحة الإرهاب، بين المصالح والمبادئ!!

خيري بوزان
إن قضية "مكافحة الإرهاب" تعتبر من أكثر وأكبر القضايا تعقيدًا وإثارة للجدل في النظام الدولي الحالي، حيث تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والمصالح الاستراتيجية والتفسيرات القانونية المختلفة لمفهوم الإرهاب بشكل واضح.
وعلى الرغم من وجود إجماع عالمي على ضرورة مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله، إلا أن المعايير التي تتبناها الدول والمنظمات الدولية لتحديد ما يشكل إرهاباً وما يشكل مقاومة مشروعة لا تزال متنوعة ومتأثرة بمصالح القوى العظمى.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل مكافحة الإرهاب تستند إلى مبادئ دولية موحدة أم أنها مجرد أداة في يد القوى الكبرى وفقًا للأولويات الجيوسياسية؟
لنخوض في هذا الموضوع المعقد والشائك، ونجري مقاربات حول موضوع الإرهاب، بين التعاريف المختلفة والمصالح المتغيرة.
تعريف مفهوم الإرهاب يعتبر قضية أساسية تفتح الباب أمام ازدواجية المعايير في مكافحة الإرهاب.
ففي الوقت الذي يعرّف البعض الإرهاب بأنه استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية، تعتبر القوى الدولية والإقليمية أن بعض أشكال العنف المسلح تندرج تحت ما يسمى "حق تقرير المصير" أو "المقاومة المشروعة". على سبيل المثال، تعتبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعض الجماعات المسلحة "إرهابية"، في حين تعتبر دول أخرى أن هذه الجماعات تقاتل من أجل "التحرر الوطني". ومن المفارقات أن الحركات التي كانت توصف في السابق بالإرهابية، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة نيلسون مانديلا، قد تكتسب لاحقاً شرعية دولية عندما يتغير التوازن السياسي. وهكذا الحال بالنسبة لهيئة تحرير الشام وقائدها "أحمد الجولاني"، والحكومة الحالية في سوريا بقيادة "أحمد الشرع"!! وهذا بطبيعة الحال يعكس انتقائية معايير تعريف وتصنيف الجماعات المسلحة.
المعايير المزدوجة في السياسة الدولية لمكافحة الإرهاب:
1) ازدواجية التصنيف: حيث يتم تصنيف بعض الجماعات على أنها إرهابية في بعض السياقات ودعمها في سياقات أخرى إذا اقتضت المصالح الاستراتيجية ذلك. فعلى سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية الجماعات "الجهادية" في أفغانستان خلال الحرب الباردة، لكنها صنفت بعضها كمنظمات إرهابية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وبالمثل، فقد تم تصنيف بعض الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط بطرق مختلفة حسب موقعها على الخريطة الجيوسياسية للقوى الكبرى.
2) تسييس قرارات مجلس الأمن الدولي: من المفترض أن يكون مجلس الأمن الدولي هو الهيئة الرئيسية التي تقرر استراتيجيات مكافحة الإرهاب الدولي، ولكن في الواقع غالباً ما تتأثر قراراته بموقف القوى الكبرى. فبعض الدول تخضع لعقوبات صارمة بسبب دعمها للإرهاب، بينما يتم التغاضي عن دول أخرى رغم تورطها الواضح في تمويل الجماعات المسلحة. كما تتسم بعض قرارات مجلس الأمن بالانتقائية، حيث تفرض تدابير قاسية على بعض الحركات التي تخدم المصالح السياسية والاقتصادية للأعضاء الدائمين، بينما تترك للبعض الآخر حرية الحركة.
3) ازدواجية التدخلات العسكرية لمكافحة الإرهاب: يبدو أن مكافحة الإرهاب ما هي إلا ذريعة للعديد من التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، كما أنها كانت ذريعةً للعديد من التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، ولكن لم يتم تطبيقها بشكل موحد. فقد غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق في عام 2003 بذريعة مكافحة الإرهاب، لكنها لم تتخذ إجراءات مماثلة ضد دول أخرى ثبت تورطها في تمويل التنظيمات المتطرفة.
من ناحية أخرى، في المناطق التي تم فيها تجريم بعض الحركات السياسية واعتبارها إرهابية دون عمل عسكري علني، تستخدم الدول الكبرى في المنطقة شعارات مكافحة الإرهاب لقمع المعارضة السياسية.
وسائل الإعلام والدعاية التي تؤثر على الرأي العام بشأن الإرهاب:
تستخدم وسائل الإعلام كأداة مهمة في تشكيل التصورات حول الإرهاب والجماعات المسلحة. وذلك لأن التقارير الإعلامية تساهم في خلق صور نمطية لـ"الإرهابيين" من أجل خدمة غرض معين. وغالباً ما تركز وسائل الإعلام الغربية على الجماعات التي تهدد المصالح الوطنية الغربية، بينما تتجاهل أو تقلل من أهمية تغطية الجماعات التي تساهم في تحقيق هذه المصالح الوطنية. وتختلف المصطلحات المستخدمة باختلاف المنطقة التي يتم تغطيتها، حيث يتم وصف بعض الجماعات بـ"الميليشيات المسلحة"، بينما يتم وصف جماعات أخرى بـ"المتمردين" أو "الثوار".
الجانب السلبي لازدواجية المعايير في مكافحة الإرهاب تنطوي هذه الازدواجية على عدد من الجوانب السلبية على الأمن والاستقرار الدوليين:
1- إذا ما نُظر إلى قرارات مكافحة الإرهاب على أنها انتقائية، فإن ثقة الدول الصغرى في النظام الدولي تضعف، وكذلك الشرعية القانونية لمجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة.
2- إن بعض الجماعات المسلحة ترى في ازدواجية المعايير فرصة لكسب الدعم الخارجي، فعندما تصبح مكافحة الإرهاب وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، تفقد الجهود الدولية الحقيقية لمكافحة الإرهاب فعاليتها وتصبح غطاءً للحلول الجيوسياسية.
3- إن ازدواجية المعايير تعزز عدم المساواة بين من يحارب الإرهاب في مكان ويغض الطرف عنه في مكان آخر، مما يخلق بيئة خصبة لصعود الأيديولوجيات المتطرفة.
فهل هناك حل لهذه المشكلة؟
إن معالجة مشكلة ازدواجية المعايير في مكافحة الإرهاب تتطلب إعادة النظر في النظام الدولي القائم، واعتماد تعريف موحد للإرهاب يستند إلى أساس قانوني واضح، بعيداً عن المصالح السياسية. كما يفترض على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات جادة للفصل بين مكافحة الإرهاب والتحديات الجيوسياسية، واستعادة مبادئ العدالة والمساواة في التعامل مع القضايا الدولية.
ولكن يبقى السؤال قائماً: هل يمكن التوصل إلى توافق دولي حول التعريف الحقيقي للإرهاب، أم أن المصالح ستظل لها الأسبقية على المبادئ في هذه القضية الشائكة للغاية؟
روداو